صحيفة المثقف

الانسان موقف: استقالة ريما خلف مثالا

khadom almosawiمهما كانت الظروف المحيطة، ومهما كانت الاراء حول ما حصل، تبقى قضية الاعلان والموضوع مهمة ولها عنوانها في الاهتمام السياسي والقانوني والاخلاقي. فكيف اذا تعلقت الامور بقضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني ومسؤول أممي عربي ودولي؟. في كل الحالات الاعلان عن نشر تقرير لمنظمة فرعية للامم المتحدة يدين سياسة الكيان الصهيوني ويصفها بما هي عليه، واستقالة الأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (إسكوا) من منصبها بسببه، وحوله، مسألة لها وقعها وتداعياتها.. والتقرير بما حمل من دلالات وقراءة قانونية مثبتة، لا تحتفل المنظمة الدولية به.. يتحول بما تضمنه وبما  حملته الاستقالة الى كشف لما خفي ولكنه معلن، بشكل أو آخر لمن يتابع ويقرأ ما تحت السطور.. والى تعرية ما أستتر عليه وهو معروف ايضا لكل بصير وله بصر بشري طبيعي ودون نظارات سوداء. فقد علم العالم الان سياسة الامم المتحدة باكثر من الوضوح في الامر، وانتهازية مسؤوليها وازدواجية المعايير السائدة في قراراتها وتقاريرها وممارساتها وانتهاكاتها هي بذاتها لميثاقها والقانون الدولي والإنساني.

يظل ما قالته الدكتورة ريما خلف في رسالة استقالتها موقفها اولا وقرارها ثانيا، وهذا يحسب لها كانسان، وتقديم صورة الاعمال التي تقوم بها منظمة الأمم المتحدة ثالثا، ورابعا فضح مسارات التعويل القائم بين المنظمة الدولية والقضية الفلسطينية، لمن لم يعرف بعد، وهذا ما يتطلب الإنتباه له والاعتبار منه. وجاء في نص الاستقالة التي أعلنتها في مؤتمر صحفي في بيروت، تاكيد منها إلى اضطرارها  وانغلاق السبل أمامها للإستمرار في عملها في المنظمة وهي ترد على طلب سحب التقرير من قبل الامين العام للمنظمة وغضب المندوبة الامريكية والناطقين باسم  الادارة الامريكية والتابعين لها، "في هذه الأيام الصعبة والتي لا تترك خيارات كثيرة”.

 كما وضحت الرسالة تعرض الأمم المتحدة، وامينها العام، الى ضغوط وتهديدات من دول من ذوات السطوة والنفوذ، بسبب إصدار تقرير الإسكوا، الذي حمل عنوان (الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد). ولجوء هذه الدول، "التي تديرها اليوم حكومات قليلة الاكتراث بالقيم الدولية وحقوق الإنسان، إلى أساليب التخويف والتهديد حين تعجز عن الدفاع عن سياساتها وممارساتها المنتهكة للقانون. وبديهي أن يهاجم المجرم من يدافعون عن قضايا ضحاياه". 

  واكدت ريما خلف ايمانها بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية التي طالما شكلت قوى الخير في التاريخ، والتي اسست عليها، الأمم المتحدة. "وان التمييز ضد أي إنسان على أساس الدين أو لون البشرة أو الجنس أو العرق أمر غير مقبول، ولا يمكن أن يصبح مقبولا بفعل الحسابات السياسية أو سلطان القوة. وأؤمن أن قول كلمة الحق في وجه جائر متسلط، ليس حقا للناس فحسب، بل هو واجب عليهم”.

وأردفت: “إن الأدلة التي يقدمها التقرير قاطعة، وتكفيني هنا الإشارة إلى أن أيا ممن هاجموا التقرير لم يمسوا محتواه بكلمة واحدة. وإني أرى واجبي أن أسلط الضوء على الحقيقة لا أن أتستر عليها وأكتم الشهادة والدليل. والحقيقة المؤلمة هي أن نظام فصل عنصري، أبارتايد، ما زال قائما في القرن الحادي والعشرين، وهذا أمر لا يمكن قبوله في أي قانون، ولا أن يبرر أخلاقيا بأي شكل من الأشكال. وإنني في قولي هذا لا أدعي لنفسي أخلاقا أسمى من أخلاقك أو نظرا أثقب من نظرك، غاية الأمر أن موقفي هذا قد يكون نتيجة لعمر كامل قضيته هنا، في هذه المنطقة، شاهدة على العواقب الوخيمة لكبت الناس ومنعهم من التعبير عن مظالمهم بالوسائل السلمية”.

 وختمت: “فإن هذه العقدة لا تحل إلا بأن أتنحى جانبا وأترك لغيري أن يقوم بما يمنعني ضميري من القيام به. وإنني أدرك أنه لم يبق لي في الخدمة غير أسبوعين، لذلك فاستقالتي هذه لا تهدف إلى الضغط السياسي عليك. إنما أستقيل، ببساطة، لأنني أرى أن واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأمم المتحدة، وتجاه نفسي، ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة تسبب كل هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر. وبناء عليه، أقدم إليك استقالتي من الأمم المتحدة”.

يتألف التقرير من 74 صفحة، وملحقين اختصر فيها معاناة شعب وتاريخ ظلم، ولعله اول تقرير علمي مبني على تعريف القانون الدولي لجريمة التمييز العنصري، الابارتايد. اعتمد على التوثيق للممارسات الاسرائيلية ضد كل الشعب الفلسطيني، سواء في الأراضي المحتلة، او في خارجها. واستدل  بالممارسات العملية، الاداة والستراتيجية التي اعتمدها الكيان الصهيوني لسيطرة الفئة العرقية اليهودية على الشعب الفلسطيني. وخلص الى ان كل الادلة تشير الى ان "اسرائيل انشأت نظام فصل عنصريا في فلسطين". ومعلوم أن الفصل العنصري هو من أخطر الجرائم ضد الانسانية في القانون الدولي، وثمة معاهدة خاصة لمكافحة جريمتي الفصل العنصري والابادة الجماعية". وطبيعي استند التقرير إلى مضامين ومبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان ذاتها التي ترفض معاداة السامية وغيرها من إيديولوجيات التمييز العنصري، بما في ذلك: ميثاق الأمم المتحدة (1945) والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري بكافة أشكاله (1965). واعتمد التقرير في المقام الأول على تعريف الأبارتايد في المادة 2 من الاتفاقية الدولية بشأن قمع جريمة الفصل العنصري ومعاقبة مرتكبيها (1973).

مصطلح الأبارتايد ارتبط في الأصل بحالة جنوب أفريقيا، سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين، إلا أنه أصبح يُطلق على نوع من أنواع الجرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي العرفي ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وهو ما انطلق منه التقرير ومن الإجماع على أن لا استثناء في حظر الأبارتايد وأن انهيار نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا وجنوب غرب أفريقيا (ناميبيا) لم يبطل ذلك. وما يقع اليوم في فلسطين يتوجب انهاؤه.

قرار سحب تقرير دولي يصف هذا التمييز العنصري الصارخ يبين صراحة ويضيف فضيحة قانونية وأخلاقية اخرى جديدة، تدين الامم المتحدة وكل من طالبها بسحبه، ولم يعرف الامر علنا هكذا لولا استقالة ريما خلف، التي حددت بها موقفا إنسانيا ومثالا اضافيا للتاريخ.

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم