صحيفة المثقف

إندثار الفن السينمائي

mohanad salahقبل الحرب العالمية الأولى لم يكن للسينما وجود في العراق وبالرغم من إن أول فيلم عرض في العام 1909، لكن لم يكن هنالك نشاط سينمائي واضح قد برز للساحة بعد . حيث ظلت الأفلام الأجنبية الصامتة هي المتاحة . حتى قام بعض التجار في تشييد دور للعرض السينمائي في بغداد وقسم من المدن العراقية الكبيرة. وفي عام 1922 بدأت دور السينما بالإزدياد تدريجيا وزاد معها عدد الأفلام الصامتة حتى الوصول الى عرض الأفلام الناطقة . وبعد عام 1927 ومع إزدهار الحركة الفنية بين القاهرة وبغداد وبزوغ عصر السينما المصرية . بدأ أول تعاون بين البلدين ولم يكن هذا معتمدا على الحكومات، بل على الفنانين .. زخرت السينما العراقية برصيد ضخم ولا يستهان به من الأعمال التي وصلت إلى الذائقة المحلية والعربية، وإكتسبت إقبالا واسعا منذ إنبثاقها الأول الذي تزامن مع حركة السينما عالميا وعربيا . فتمخض عن ذلك نشوء أرض خصبة مهدت لإنتشار دور السينما وإزدهارها، والتأسيس لعلاقات وثيقة بين (الجمهور والنتاج) .. كانت الإشعاع الساحر الذي خطف لب العقول وإنتقل بالقارئ من مساحات الكتابة والخيال نحو الترجمة الصورية المتحركة التي كان يحلم بها، أو يطمح بجزء بسيط  يسد رغباته في الجنوح نحو تحقيق هذا الكم الهائل من الأفكار المقتصرة على قدراته في إستحضارها كأطياف مرسومة فكريا .. إنها المزيج الأمثل الذي جمع كل الفنون والآداب في عمل واحد حمل مسمى (فيلم)، وأصبحت هذه الأفلام فيما بعد تغزو أركان المجتمع

(المتحضر) وتعتبر من دلالات تقدمه على باقي الأنسجة المجتمعية .. الشاشة الكبيرة اللامعة التي كانت في يوم ما تمثل المشهد الثقافي المتقدم وتتصدر الذائقة الفكرية للجمهور . أصبحت ذات طابع نخبوي تدريجيا بعد ظهور (التلفاز) وإنبثاق عصر التطور التكنولوجي الذي سمح للناس بأن يتوسعوا في رغباتهم نحو أفق يكون أكثر إنفتاحا وتنوعا . لم تستطع (السينما) تقديمه لهم . بينما إنحسرت الرغبة السينمائية على (المشاهدة) الأولى . التي يكون فيها المتلقي قد حقق قصب السبق على أقرانه لفرصة الإستيعاب المتقدم قبل تصدير المادة المعروضة وإستهلاكها من قبل الجميع على شاشات التلفاز . هذا بالإضافة إلى الرؤية الجمالية التي لم توفرها الشاشة الصغيرة في بدايات ظهورها. وكحال المسرح أضحت السينما تتحول تدريجيا من كونها ممثل إنساني لما تطمح الشعوب لطرحه، ويجعل العائلة بأكملها حاضرة دون حرج أو إمتعاض قد تسببه بعض اللقطات التي تؤدي إلى خدش الحياء، لتكون ممثلة لما يريده روادها الذين يطمحون بغالبهم لأفلام فيها الكثير من الإباحية والإيحاء الجنسي، أو تحتوي على الأكشن والمعارك والخيال في أفضل الأحوال .. مما جعل مجتمعا كالمجتمع الشرقي يبتعد تدريجيا عن دور السينما كي يحافظ على التكوين النسقي للتربية التي نشأ عليها، ويكتفي بما ينتقيه هو من الأفلام التي يجدها ملائمة للعائلة عبر شرائها أو إنتقائها عبر ما تعرضه القنوات التلفازية .. بينما بقيت السينما الحقيقية مقتصرة على ما يتناوله طلبة المعاهد والأكاديميات المختصون بمجال السمعية والمرئية . وهي لا تتعدى كونها مجرد أفلام وثائقية أو بحثية بجهود ذاتية لا تلبي طموح التطور .. وفي الوقت الذي تبتعد فيه بعض البلدان عن المساحة الثقافية الخاصة بالسينما . نشأت على دمارها وتشظيها بلدان أخرى أعدت نفسها كي تعرف ما هي الأخطاء التي بسببها وصلت السينما لكسادها .. فبدأت تشتغل على نقاط مشعة تمثل الواقع المجتمعي والتاريخي والذي لا ينحرف عن مسارات السينما النظيفة الخالية مما يسيء للآخر . فأصبحت المواد التاريخية والمشاكل التي يواجهها المجتمع في الحياة اليومية والخيال العلمي القريب من التحقيق . هي المواد التي وظفتها هذه البلدان لتعيد تشكيل الخارطة السينمائية في المنطقة . ومع هكذا نتاج سيكون من المستحيل دخول جمهور منحط لدور السينما، لتكون هذه الدور إنطلاقة حقيقية ورصينة لإعادة تكوين ذائقة التلقي . وإستعادة التكوين الصوري الذي تطمح له . دون اللجوء إلى ما يسمى بـ (السينما التجارية) .. كما إنها تواكب في الوقت ذاته حركات التطور الصوري والحركي عند الدول التي إزدهرت فيها شاشات العرض وبقيت محافظة على كيانها . مثل فن الأكشن والتنوع الحركي والخدع البصرية، وإعتماد التكوين الإنتاجي للأفلام على سعة كبيرة من الثقة بقدرتها على تحقيق واردات تكفي لتجاوز تكاليف الإنتاج . مما أسهم في تشجيع الحركة الفنية على الإستمرار في إنتاج المزيد . وكلما تطورت الأفلام تتطور معها الرغبة في تطور حس المشاهدة والتأثير في ما يحتويه العقل البشري من غايات (إنسانية)، وهو في حقيقته معتمد على وجود هكذا غايات أصلا، ولن يكون بحاجة لخلقها. إنه يمارس دور تحفيزها فقط، ويجعلها هي الغالبة على كل مظاهر التشوه الأخلاقي والفوضوي التي ربما تتجه لها السينما التجارية .. على المختصين في مجالات العرض المرئي على المساحات الكبيرة أن يخرجوا من دائرة اليأس التي وصلوا لها . ويثورا على سبات إكتفائهم بأمجاد السينما التي تحققت سابقا .. عليهم أن يستعيدوا الثقة بأنفسهم أولا للقدرة على الإستفادة من كل الأخطاء والمساوئ التي وصلت بالفن السينمائي لهذا الركود والتشظي . والإنتقال به من مرحلة الإنقراض إلى التنوع والإزدهار . عليهم أن يتيحوا المجال أمام العديد من تجارب المواهب السينمائية الشابة والإستماع الى مشاريعها وإعطائها الثقة الكافية على التغيير . هنا فقط نستطيع أن نشرع في التأسيس لحقل سينمائي جديد يعيد للمجتمع الثقة في أن يرتاد دور العرض ...

 

مهند صلاح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم