صحيفة المثقف

هلاك مريض

almothaqafnewspaperفي شتاء 1947 على قمة جبال إيدوغ الغربية بدوار الصادة، كان البرد قاس وقارس يتصيّد عامه هذا الجوع والفقر، ليهطل المطر بغزارة لأيام عديدة دون توقف، وتهب رياح سموم، ضاربة من الشمال لأشهر تكسّر الأشجار العالية الشاهقة، فيتوغل البرد الشديد بين الغاب، ويتسرب سمها القاتل بين أعواد الكوخ ليصل إلى جلد وعظام الخرفي من قلة الملبس الذي يكاد يغطي نصف الجسد، يصبح ويمسي في جبة فضفاضة منفتحة من الأسفل فلا تحمي سوى بعض جسمه من قر الشتاء والرجلين الحافيتين إن لم تكن تحتهما نعال تربط بخيوط على القدم أو جزمة مهترئة تخبأ لأيام الشتاء، حاصره الفقر والاحتياج من جانب وزاد عليه ضغط الحاكم البغيض من جانب مع صاحب المكس، فلا يعرف على من يتكأ عليه في محنته وأين المهرب الناجي من كل المآسي والهموم.

يمرض الخرفي بداء السل، ها هو ينتظر أيامه الباقية، القليلة المعدودة كما ظنها منذ أشهر لكن الأجل يخيب ظنه ويطول أمله فيمد له في عمره، مثل الكلب الذي أصابه الجرب، وكأنه يكتب له عمرا جديدا ومشوها بالسقم كلما شرف على الهلاك ويشتد عليه المرض، فكلام الناس يجرح ونظرة الرجال شفقة عليه كطعنة سكين، لا يكاد يعرف للنوم طعم ولا للراحة نفسا، عذّبه السهاد والتعب وزاد عليه شدة الألم والوجع.

ما يئن أنينا حتى يعذب معه من أهله ما يعذب ويبكي منهن من تبكي، زوجته الشابة وبناته الصبايا يلتففن حوله يحاولن الاعتناء به أو بما تبقى منه والتعاطف مع حاله الذي يبكي الجحر.

لم يكن المرض وحده الذي يعذب الخرفي ويكدر أيامه ولا الفقر الذي طاله منذ شهور عدة، هذا كوخه من القش الذي نصب على فج تصفعه الرياح من الشمال والجنوب لولا الغابة التي توسطها ليحتمي بها، لا يصل إليه إلا شاق على نفسه، كانت تغمره السعادة وتحفوه السعة والرزق إلا أن مرض الخرفي حال دونهما بعد عجزه عن قيامه بواجبه العائلي، فتحولت اليسرة إلى عسرة والسراء شقاء والسعادة بؤسا. أصبح لا يملك من الرزق سوى بقرة سوداء، عجفاء عرجاء يشمئز منها ناظرها، حليبها ممسك لا يفي عجلها، فصارت عالة على الأسرة التي تعتني بها ولا تجد منها مقابلا ولا نفعا إلا أن أملها في صغيرها حالت دون بيعها. وخ .مس عنزات ترعاهما بنتان ذابلتان في مقتبل العمر، لا يعرفان للمدرسة طريقا ولا للعلم معرفة، وحديقة صغيرة خلف الكوخ تزرعها زوجته وتعتني بزرعها لتسد الرمق من حين لحين.

تجدّ الزُهرة وتكد بدل الزوج المقعد، هي امرأة طيبة المنبت، جميلة الزي، بيضاء مربوعة، كريمة الخلق، معطاء شكورة، عفيفة النفس، وفيّة مضحية، تحب زوجها وبناتها بجنون، فتشقى لأجلهم وتتعب، ولولا بئر صغيرة أمام الكوخ يسقون منها لهلكت الأسرة.

كل هذا لم يحزن الخرفي ولم يعزيه على حاله ولم يرى فيه نكبته ونكسته، ما قسم ظهره ودمع عيناه أن رأى ابنته الصغرى حيزية، ذات الخمس سنين وهي لم تعرف المشي ولا الكلام، إعاقتها جرح لا يدمل ولا يبرأ ونار لا تهدأ ولا تهمد.

ما يحزن الخرفي ويسد نفسه ويقبض قلبه ويعكر صفوه أن يرى حياة النكد تحوم زوجته وبناته، فلا يستطيع أن يحرك ساكنا وما يخيفه أكثر أنه ينتظر آخر أيامه التي قرب أجلها، ليترك خلفه أسرة صغيرة وضعيفة، غائرة في الجبل، تحيا ظروفا أقسى من الحجر وأيامها أمر من العلقم وشكواها تزلزل الجبال وتجف مياه البحر. إذا مات الرجل من يكفل البنات ويطعم الأرملة فلا قريب لها ولا قريب له، ولا رجل شهم يتزوجها مع ثلاث بنات صغيرات فيرفع عنه تأنيب الضمير والخوف على ذويه بعد الموت، كانت حياتهن معه عناء وبعده شقاء وضياع.

ولكن الخرفي رجل مؤمن يعلم علم اليقين أن الله رقيب على عباده من فوق سبع سموات، لا يضيع أحد فيحمد الله أنه زرع في أهله العمل الطيب وحسن الخلق، فينظر إلى البنات، حليمة وحدة وحيزية ثم وجه نظره إلى زوجته الزُهرة ويمسكن بجبتها من كل جهة وهي تدور في الكوخ تحضر العشاء من عصيدة بزيت الزيتون، فيقول الخرفي ناكتا:

- لو عشنا إلى العام المقبل... وليس لدينا ما ندفع به ضريبة إلى إدارة المستعمر، ربما يأخذ الحاكم منا البقرة أو يحجز على كوخنا.

 

سليمان عميرات - عنابة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم