صحيفة المثقف

ربيكا.. بطاقة نعي (3 و4 و5- 8)

qusay askar"كنا نشعر بالهدوء، وكان الموت يغلي في لبنان.. يرسم بعض علاماته هناك فتتشوش الصورة أمام نواظرنا.. أحد شيوخ آل الداوود ممن أدمنوا السفر كل تموز إلى مصايف بيروت راح يدعو ليل نهار أن لا نصبح ذات يوم مثلهم.."

أما أنا فلم أكن أغادر البصرة إلى أي بلد...

سنوات الدراسة عشت في بغداد، وبعد التخرج أقصد - أيام العطل الرسمية أو عطلة نهاية الأسبوع - الكويت لكنّ رذاذ الحرب تساقط فوق رأسينا هنا في جامعة البصرة أنا والدكتور الدوغجي، فهل تكون الكويت أول بلد أعيش فيه؟

يوم أمس وأنا في طريقي إلى دائرة الأمن حيث كان ظاهر الأمر يدل على أني لست موضع شبهة، وقتها، باديء الأمر ظننت القضية تخصّ بعض الطلبة الذين يغادرون إلى لبنان إذ الحرب الأهلية، قد يظل أحدهم شهرا أو أكثر . أحد هؤلاء عاد بعد شهرين من مشاركته مع جبهة التحرير العربية وقابل الدكتور الدوغجي الذي رفض فكرة الإجازة المرضية، في الوقت نفسه كان هناك توجس من أن الرفض يعني تحديا للمنظمة الحزبية نفسها، ربما خامرني خاطر أنهم سألوا الدكتور الدوغجي فألقى المسؤولية على عاتقي. فكرة متوحشة.. سوء ظن لست نادما عليه فنحن في زمن سوء الظن.. صباح اليوم التالي لزيارتي دائرة الأمن أرسل رئيس الجامعة في طلب الدوغجي..كنت أعرف جيدا خطورة الأمر، فالرئيس الذي اختارته الدولة ليخلف رئيس الجامعة الذي اغتيل من قبل رئيس الاتحاد الوطني، هذا الشخص يمثل حرفيا تعليمات المنظمة الحزبية وما تمليه عليه بالتالي يصبح مايمليه علينا نحن الأطباء واجبا ننفذه ليس إلا.

- مثلما توقعت.

قلت ممازحا:

- أنا لم أتوقع شيئا.

قضية الإجازات المرضية للمتطوعين في حرب لبنان.

- هل هناك من أمر رسمي؟

- لا لكن علينا أن نمنح أي طالب شارك في حرب لبنان إجازة مدة غيابه.

- يا أخي هذه مسؤولية.

- لديك حل آخر؟

- هل بلغك ذلك رئيس الجامعة؟

قال كأنه يهمس:

- بالحرف الواحد تبليغ وكان كلامه بحضور ممثل المنظمة في الجامعة ومدير الأمن.

قلت قاطبا حاجبي:

- من تقول؟

- مدير الأمن نفسه مطلق.

حسنا مادام الأمر كذلك هم يتحملون المسؤولية. " وأضفت بعد فترة صمت"

- تخيل طالبا في الطبية أو الهندسة يترك مدة شهرين ثم يعود كيف يستوعب مافاته من دروس !

- لاتفكر بهذا معظم المتطوعين من التربية والأداب !

ربما - ولعلني أكون مخطئا- وجدت الدكتور محمد الدوغجي ساذجا في بعض المواقف. طبيب كفوء لكنني أتحفظ على تقديراته. كان قد غادر العراق عام 1963 إلى ألمانيا الشرقية وبقي بعد التخرج يمارس الطب في برلين ثم عاد عام 1968 إلى العراق ليعمل في الجامعة طبيبا في كلية الطب .كنت أباشر عملي في جامعة البصرة في التنومة أسبوعا وأسبوعا آخر في باب الزبير بكلية الطب حيث الدكتور الدوغجي. في البداية خضت معه أكثر من نقاش. قال لي إنه في سنوات الغربة كان يحن إلى العراق، حتى إنه تلهف إلى كل شيء أيّ شيء كان. شغف بأغاني داخل حسن التي أنف من سماعها وهو في البلد . واشتهى أكلة الباميا والكباب...ورأس الخروف..والآن يرى أن الجماعة لديهم منجزات كبيرة مع ذلك هناك أخطاء يمكن أن نغض النظر عنها. أخطاء يمكن أن تكون غير ذات قيمة،  كما يحدث في أمر الطلبة المتطوعين في الحرب الأهلية اللبنانية. لاينكر أن الناس لديهم أخطاء ورأيته يتحمس وهو يذكر الحنطة المسمومة التي أودت بحياة بعض الفلاحين. هل هو خطأ الدولة التي سلمتهم بذورا للزراعة وحذرتهم أم خطأ الناس الذين أكلوها بدلا من أن يزرعوها..

حقّا كنت أغفر للدكتور الدوغجي كل ليونته معللا ذلك بسنوات طويلة عاشها خارج العراق جعلته يتشبث في البلد بأية طريقة كانت حتى وإن وجد الغلط صحيحا سوى أنّي في نلك اللحظة أعرضت عن النقاش معه في المستقبل. أعني إن اعتراضني أمام الدوغجي سوف يصبح عائقا يحول بيني والسفر إلى الكويت.إنه سوء الظنّ الذي يجعلني أتخيل نفسي أمام رجل أمن لا طبيب مثلي فكل شيء جائز هذه الأيام زمن الحنطة المسمومة والكوليرا ولعل هناك أمراضا أخرى تندلع عما قريب فأعايشها من جديد.

مساء اليوم نفسه عندما هممت بالخروج من عيادتي دخل علي مدير الأمن نفسه . كان بصحبة شاب في الثلاثين من عمره، فبسطت يدي لهما وقلت:

- تفضلا أهلا ومرحبا.

قلتها وقد خطرببالي نقاشنا هذا الصباح حول الطلاب العائدين من لبنان. أم تراهم يعرضون عليّ أن أفحص المرضى الموقوفين.. قال وهو يشير إلى مرافقه:

- أنا المريض أما هو فلا.

راودني خاطر في أن المرافق بقي في المكتب حتى يتأكد من أن عبد الكريم لايسترق السمع:

- زارتنا البركة!

ارتمى على الكرسي، وراحت عيناه تجولان في رسم باطني على على الحائط ثم تنتقلان باتجاه هيكل عظمي صغير خلف درج المكتب وملفات المرضى:

كيف حال الشغل إن شاء الله ممتاز.

- مستورة والحمد لله لكن تعرف أنا شخصيا مع ذلك أرتاح وأشعر بالسعادة كلما قلّ المرضى!

- أنت طبيب ناجح وذو سمعة ممتازة الله ينفعنا بك!

وبحثت عن عبارة أخرى أهرب إليها منه:

- سلامتك؟

فأكّد وهو يهز رأسه:

- القضية مرضا وليست كذلك!

قال عبارته بابتسامة غليظة يكاد ينتزعها من شفتيه.. الابتسامة الباردة نفسها التي بقيت تراوح مكانها ..لزم الصمت لحظات وعيناه تجولان في المكتب تحطان بين الخارطة على الحائط والهيكل العظمي، فاستدركت:

- في هذا العصر كثرت الامراض إنها الحضارة ومشاكلها. وأعباء العمل والإرهاق...

عقّبت وذهني مشغول بفك لغز جديد استبقت الزمن لفك سرّه فابتسم المدير ابتسامة غامضة هذه المرة وعقب:

- فعلا لكن القضية لاتخصني.

أنا المريض ليس هو.. المرض لايخصني خبر جديد أم ماذا؟ استنطاق غير مباشر:

- خير سيادة النقيب؟!

- موظف عندي!

- لم أفهم ماتعني سيادتك.

ازداد استغرابي: فأية سكة جديدة تشبه المتاهة فتح دروبها أمامي مريض مصاب بالجرب يتلوى من ألم الزائدة ؟:

- أهو السيد الجالس في المكتب ينتظرك؟

- كلا كلا " قالها بشيء من الضيق وكنت أود ألا ينساق عبد الكريم مع موظف الأمن في أي حديث":

- إذن هل هناك مانع من حضور المريض.

عاد تلك اللحطات بابتسامته الباردة الجامدة :

- هو ليس مريضا.

لاكوليرا، ولا زائدة أو حنطة مسمومة.. مرض نفسي. لغز: كانت الكوليرا هذا العام. وقبلها حادث الحنطة المسمومة..عصر أمس، قبل دعوة الأمن لي، شخصتُ في العيادة حالة كوليرا، كانت الإذاعة تعلن عن إصابات في المحافظات وتستثني البصرة. فهل يكفي هذا لئلا يرغب الناس عن شراء تمرنا، أيها العالم لا تخشوا لا كوليرا في البصرة .. التمر نقيّ، وأنا ثاني يوم أنصت لرجل أمن وهو يحدثني عن مرض مزعوم:

- هلا بيَّنت لي سبب امتناعه عن الحضور؟

- سيحضر بالتأكيد لكني لخطورة القضية وربما حساسيتها احببت أن أعطيك فكرة عن الموضوع.

- تفضل أنا مصغ إليك!

- يادكتور الموظف المعني في دائرتي هو في الحقيقة قريبي ..

أسلوب آخر من أساليب الجماعة في دائرة الأمن أم لغز جديد ..كيف أعالج مريضا غائبا .أي شيء غير أن أنصت وأسمع:

- يعني الاستشارة لأحد غيرك؟!

- شاب طائش على علاقة مع فتاة.

وتعجلت كأني أروم أن ينهي الحكاية:

- تقصد أصيب بمرض ما سيلان مثلا؟

فهز رأسه مضيفا:

- ليت الأمر كذلك إنها ابنة عشيرة معروفة من عندنا من عائلة محافظة لنقل وقعت هي في غرامه فارتكبا ذلك الفعل الحرام.

- حمل؟

- لا فقط الفتاة فقدت عذريتها.

بعد فترة صمت قلت:

هل هناك مانع من أن يتزوجا.

- ليت ..لكن ذلك محال.

- إسمح لي أنتم بمركز ممتاز يحسدكم عليه الكثيرون حتى نفوذكم وسمعتكم...

- طبعا لا . زوجته من عائلة لها وزن . تعرف لها وزن . يمكن أن تنتقم .قد تقع كارثة، ولا أظنها تقبل بحل آخر.

ربما مر خاطر ما في ذهني فتجاهلته وسألت:

- ما ذا ترى يمكن أن أفعل!

- عملية ترقيع بكارة!

هل يكون الأطباء في هذا الزمان قوادين ومخبرين؟ مخبر وقواد في الوقت نفسه.. طبيب في الجامعة صباحا وبعد العمل عيادة خاصة.. صديقي في العمل الدكتور الدوغجي يحاول أن يهون الأمر. لا أراه قط مصدوما بالقرار الجديد الظاهر الخفي عن الطلبة العائدين من حرب لبنان أو بعضهم يقال ولست متاكدا: فاته امتحان الشهادة الثانوية فدبرت الحكومه أمره في كلية التربية. مايزال صديقي الدوغجي يعيش حلم الاشتراكية. إما يرى الأمور بمنظار ساذج أو أكون أنا، ربما لم يعرض عليه حد الآن أمر كهذا.. أو قد يكون واجه عرضا فأخفاه مثلما علي أن أفعل.. ولعل زوجته الألمانية الشرقية التي عاشت ظروف الإشتراكية الصارمة، وقسوة الحياة هناك رأت العراق جنة على الرغم مافيه من حر، وانقلابات وأحداث، المهم أن تسافر كل سنة إلى بلدها أو أي بلد آخر. تأكل ماتشاء وتلبس ماتشاء.. رأت كل ذلك فهونت له العيش هنا.. لا أدري .. لا أقدر أمام هذا الضابط الذي ظننته جاء يطلبني لفحص سجناء أو للحديث عن الطلاب العائدين من حرب لبنان، وإذا بي أكتشف أنه يسألني عن ترقيع بكارة ولا مجال أمامي أن أستهزيء بي إلا في مكان آخر بعيد:

- تعرفني لست جراحا أنا طبيب عام ولا أظنني أعرف طبيبا أو طبيبة في البصرة تقوم بمثل هذه العملية اللهم إلا إذا استثنينا بغداد فهناك طبيبة مشهورة شهر عنها قيامها بمثل تلك العمليات الجراحية.

لكنها لست عملية جراحية معقدة يقال وفق ماعلمته إنها شبه عملية.

- فعلا ليست معقدة!

- هناك من يقول إنها عمل بسيط بإمكان أي طبيب أن يقوم به.

- صحيح هذا.

- إذان أملي بك ألا تتردد.

كيف أتردد وأنت تنظر إلي بعينين فيهما الرجاء مشوبا بالتحذير وتواصل:

- بدلا من بغداد والسفر وتوصية إلى طبيبة هناك تستطيع أنت إداء ذلك مقابل أي مبلغ تطلبه!

فقلت مبتسما ببعض القلق، وقد ساورني شكّ في أنّه هو وليس قريبا له:

- علاقة الطبيب بالمريض لاتعني النقود فلاتفكر بهذا قط.

- لكنها أتعابك وحقك.

فنفثت الهواء وقلت كمن يحاول أن يتلاعب بالوقت:

- على صاحبة الشان في هذه الحالة أن تؤدي تحليل الدم وبعض الفحوصات.

ستجهِّز لك كلّ شيء.

فهززت رأسي وفكري معلق بالدكتور نجم وكأن العمل معه نافذة أتنفس منها هواء نقيا:

- متى يأتيان؟

- سوف أبعثهما لك في أقرب وقت.

ونهض فمددت يدي مصافحا وتبعته إلى غرفة المكتب وأنا أردد:

- سيكون كل شيء على مايرام ليس هناك من داع للقلق.

وتنفست الصعداءحين غادر العيادة....

شيء ثقيل انزاح عن صدري ..

صخرة تفتت وتدحرجت كِسَرُها فَعَلِق منها شيء بي تحسه ضلوعي..

وددت أن أبقى هكذا جالسا خلف المنضدة لساعات من دون أن يقتحم عليّ عزلتي أحد.. بالأمس أرادوني جاسوسا من خلال مهنتي.. رجل أمن .. مخبرا.. واليوم يعرضون علي فكرة الطبيب السمسار . أيقنت من غيرما تردد أني لابد أن اغادر إلى الخارج، أي بلد كان بعيدا أم قريبا .. في هذه الحالة تختفي المسافات.. على الأقل أرثي لنفسي أو أسخر منها وقتما أشاء لايقيدني مكان ولا زمان ما.. المهم إنه بلد آخر، فحمدت الله على أننا نقدر أن نهرب.. رجلاي سليمتان على الرغم من أني لم أكن أعرف متى أرجع..

قد أرجع حيا أوميتا.

وقد لاأرجع..قط

لكن أن أكون ميتا حيا في الوقت نفسه فتلك مسألة غابت عن ذهني تماما!

4

"كان في بيتي حديقة أمامية تضم أجمة ورود صفراء جميلة أطلّ عليها كل يوم حين خروجي ودخولي، أمّا من ناحية شط العرب فكان هناك نخلات، ومن غريب المصادفات أني بعد سنين طويلة هاجرت إلى لندن فالتقيت بالورود ذاتها لكني لم التق النخل قط"

تعود علاقتي بالدكتور نجم الدين الخضيري إلى سنوات الدراسة في كلية الطب ببغداد. كان من أب بصري وأم كويتية وقد أنهى دراسته الثانوية في أبي الخصيب. توطدت العلاقة بيننا كوننا من بلد واحد في صف واحد.طالعنا سوية وكنا أيام العطل نأتي إلى البصرة من بغداد ونستقلّ القطار معا الى بغداد حين يبدأ الفصل الدراسي الجديد.

علاقة تجاوزت الصداقة إلى حدّ بعيد.

والدتي توصيني أن أهتم بأخي نجم الدين والعبارة نفسها تعيدها على مسامعه أمّه التي اعتادت أن تزور والدتي كلما قدمت إلى البصرة!

ولم تصرفنا الاحداث التي انفجرت في العراق منذ عام 1963- عام دخولنا كلية الطب - عن دروسنا أو الأحداث التي تلتها ولم يحدث بيننا أي شرخ. كان يقول لي إن الكويتين ارتاحوا لايام عبد السلام عارف، أما ماجرى بعد 1968 فلم يفهموا منه شيئا، تجار مسالمون يقلقهم ما تجري من أحداث تحيطهم .ولم يكن العمل في الكويت ليشكل عقدة لنجم قط، فبعد تخرجه أصبح مدير مشفى الشفاء الذي يملكه أخواله ولوالدته حصة فيه، وكان صديقي الدكتور نجم يعدّ البصرة مهد طفولته وصباه وربما دفعه هذا الإحساس ليشتري بيتا على شط العرب.(فيلا) تطلّ على النهر ويحيط جهاتها الثلاث بستان صغير من سدر ونخيل.، وقد قال لي بعد اسبوع من شراء الفلا البستان:

- ماذا تقول هناك بيت شبيه ببيتي يلاصقه تماما ماذا ترى.. أفضل لك من الإيجار ولا أظنك محتاجا لمال ولو نقصت أنا على استعداد!

- أشكرك لدي راتبي وشغل العيادة ولا أظنني ...

نخلتان برحيتان وستة من الساير. في الواجهة الخلفية المطلة على شط العرب فكأن البستان الصغير يعانق الضفة الأخرى في (الشَلْهة)، اما واجهة البيت البستان فكانت حديقة صغيرة تملؤها ورود صفراء لا اعرف اسمها تعيش طوال فصل الصيف ولاتعبأ بالعطش والحرّ الخانق.

تلك هي النظرة الأولى ...

هكذا اشتريت البيت المجاور لبيت الدكتور نجم، كان يستغل بيته في نهاية الأسبوع لسهره وشربه وبعض الأحيان يصطحب معه من الكويت ممرضة أجنبية أو عربية غير أنه امتنع عن مثل ذلك السلوك عندما تزوج وبدأ يصحب زوجته الكويتية معه التي اختارتها كما يقول له والدته من الوسط التعليمي وقد تعرفتها زوجتي وتوطدت بينهما صداقة مثل التي جمعت بين أمي وأم الدكتور نجم الدين.

خلال زيارته الأخيرة تركنا زوجتينا في المنزل، وبدأنا ننحدر على ضفاف الشط . كان يؤكد لي:

- لو أطعتني بعد التخرج مباشرة لكنت الآن في أحسن حال.

- يا أخي لم أكن أتوقع أن تجري الأمور بهذاه الصورة لقد جاؤوا بنعومة لايشك أحد معها أنهم تغيروا ولن تعود معهم أيام 1963.

- حسنا أنت هنا خريج من كليّة طب بغداد طبيب معروف هل تستطيع أن تراسل جامعة ما من دون قيود؟

- لو راسلت جامعات دول شيوعية لأثرت الفضول وربما لحقتني صفة حمراء لا أقدر على أن أمسحها بيسر عنّي أو راسلت جامعات في أوروبا الغربية لعاقني الروتين، وربما اتهمت...

- أرأيت ؟ هناك في الكويت المجال مفتوح أمامك.

- ها أنا أوافقك.

- الأسبوع القادم آتيك بعقد العمل وبإمكانك المجيء إلى الكويت .. هل يكفيك أسبوع لتجهز نفسك؟

- ما ذا يؤخرنيي؟! السيارة سأبيعها لابن عمي، والبيت سأجعل واحدا من أبناء عمومتي يسكنه.

- وسأوصي بدوري الحارس الذي يقيم في منزلي عند غيابي بمنزلك!

بدا كل شيء يسير على مايرام، ولم يكن عبد الكريم الوحيد من أبناء عمومتي الذي أخبرته بعقد العمل الجديد لكنه كا يعنى ببعض شؤني الخاصة كونه الأقرب إليّ، وسكرتيري الخاص في العيادة، وخلال اسبوع الرحيل قال لي ممازحا:

- ماذا تأخذ معك.

العيادة أنت تتصرف بها بعها ارمها في الأزبال...كما ترغب!

- حسنا والسيارة؟

- لابد من أن أبيعها قبل السفر.

فرد بدهاء:

- هذه السيارة الفولكسفاغن السلحفاة رأيت مثلها في الكويت بعشرين دينارا أليس كذلك؟

- يا أخي سيارة بمائتي دينار تباع بعشرين؟

- في الكويت السيارات رخيصة.

وقد أدركت خبثه:

- يا أخي لشخص غيرك لن يقل السعر عن مائة دينار هات خمسين.

- هذه مسألة انتهينا منها بعض الرواتب التي جمعتها من العيادة ستعود لك.

- لكن الشيء المهم الذي أريدك أن تهتم به البيت. طل عليه بين فترة وأخرى . حاول أن تتفاهم مع حارس بيت الدكتور نجم !

- لدي اقتراح ربما يطمئنك أكثر!

- هل من شيء؟

- مارأيك أن أسكن فيه وأوأجر بيتي حتى إذا ماعدت وجدتني أفرغه لك أليس وجودي فيه أفضل من أن يظل فارغا يلفت نظر اللصوص ثم لاتنس أن حارس بيت الدكتور نجم يبيت فيه حال مغادرة صاحبه إلى الكويت.

فقلت من دون تردد.

- لك ماتشاء بيتي بيتك.

5

" أنها الحرب قرعت الأبواب.. هل جن الناس، نحن أكثر أمنا من أي بلد، والآن تلاحقنا الحرب إلى الكويت التي تكاد تهتز من جيرتنا ومن وجودنا فيها . المرة القادمة سوف أبتعد كثيرا إلى مستقبل آخر"

في الكويت من عام 1976 إلى عام الحرب العراقية الإيرانية تفتحت لي – ماعدا الراتب الضخم الذي كنت أستلمه- آفاق واسعة من المعارف، وتوطت العلاقة بيني وبين أطباء كبار في مستشفيات بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية، علم جديد من التجارب والخبرة، وعلاقات واسعة في ميدان الطبّ. كنت استفيد من القانون الأمريكي ... ابنتي راوية وولدي نزار ولدا في أمريكا، قبل ولادة راوية بأسبوعين أرسلتني المشفى لأعاين بعض الأجهزة الطبية وأحضر لقاء علميا هناك، فوجدتها فرصة حيث صحبت زوجتي .. تحقق الخاطر الحلم الذي راودني حين عدت من دائرة الأمن ورحت أتطلع في بطن زوجتي فأحلم أن تلد في أمريكا..هكذا يفعل غيري.. وكنت أحسب مستقبل أبنائي.. أفكِّر للبعيد الآتي راوية حصلت – بحكم الولادة- على الجنسية الأمريكية، وبعد سنتين سافرت على نفقتي حيث ولد نزار في أمريكا وحاز على الجنسية.

لقد جرى كل شيء على مايرام ...

ولم أفكر قط بزيارة البصرة خشية من أن تثار بوجهي قضايا وتحوم شبهات أولها إني موظف فسختُ عقد عملي فجأة وقد وضعتُ السيد المدير (مطلق) في بالي وإني – على أقلّ احتمال- أجده يتربّص بي حالما تجتاز قدماي نقطة صفوان....

ابتسامته الجامدة وعباراته الباردة تلاحقني..

كنت فقط أهاتف عبد الكريم أو غيره من أبناء عمومتي الذين يعرفون تماما أني غادرت البلد بعقد عمل ولم أكن من السياسيين، مع ذلك.رحت أتحدث مع عبد الكريم عبر الهاتف كل أسبوع، وبعد مرور أكثر من شهر على غيابي عن عملي. سألته لأطمئن على المنزل:

- خلاص سكنت البيت؟

- نعم " وقال بنغمة جادّة" أفضل من أن يبقى فارغا فيكون هدفا لبعض اللصوص!

- لكنك لم تخبرني!

- لقد اتفقنا دكتور أن أسكنه أفضل من أن اجد من يسكن فيه بالأجرة.

- يعني أجرت بيتك؟

- نعم تعرف لمن؟

- لابن عمنا .. القريب البعيد نعمان الأعيور الأحيول الذي رؤية دبره تساوي الدنيا.

وانفجر ضاحكا فقلت:

- لكني أعرفه معدما لايملك شيئا!

أووه الآن هو بأحوال فمنذ غادر عيادتك تحسنت حاله هو يفكر بشراء بيت. " وقعقع صوته بنكتة خبيثة" ليتك رأيت دبري دكتور لتتحسن أحوالي!

- إذا كان هناك شيء مهم أو رسالة فابعثها بيد الدكتور نجم حين يزور البصرة.

- على فكرة هناك أمر صدر بالجريدة .. إنذار من دائرة الجامعة لأنك لم تعد لشغلك.

- ليس مهما!

- هل توصني بشيء آخر!

- فقط لا تنس حين يحين موعد تلقيح النخل لاتنس أن تقوم بالعملية ربما حارس بيت الدكتور نجم يعرف كيف يلقح النخل افعل ذلك حتى لو صرفت بعض النقود يا أخي على الأقل تاكل منه ولاتحتاج إلى شراء البلح .

وربما بعد سنة أو أكثر بقليل، سألته:

- عبد الكريم أرجوك إذا قابلت الدكتور محمد الدوغجي أبلغه سلامي!

- إنه عند أخوال الأولاد!

-أين ؟ أخوال...فهمت.

-يبدو أنّك لاتدري!

ماذا ؟حدث له مكروه.

فرد أشبه بالهمس:

ذهب إلى ألمانيا الغربية وهو يعمل في إحدى المشافي هناك!

إذن كان يناور مثلي، قد أكون ظلمته.. على مايبدو صياد ماهر مثل صيادي السمك.. لا أستبعد أنه قبل بكل العروض حتى لا يثير الشبهات من حوله إلى أن حانت له فرصة ينتظرها فاختصر الطريق ورحل مثلي من دون أن يثير ضجة أو يترك أي أثر!

وهنا في الكويت كلّ شيء سار على مايرام..

أو كاد يسير على مايرام لولا أن حدثت الثورة الإيرانية ثم بعد سنة اندلعت الحرب بين إيران والعراق، فتغير الوضع..بان القلق على وجوه الكويتيين وتغيرت نغمة الشارع..هؤلاء التجار المسالمون يقلقون من أيّ حدث يحيط بهم..خافوا من ثورة عبد الكريم قاسم .. وحرب 67 وأرعبتهم ثورة إيران..ثمّ خشوا أن تأكلهم الحرب وفزعوا من العراقيين، وتناغمت مع خوفهم حوادث التفجير التي استهدفت إحداها أمير البلاد .

تحريض من وسائل الإعلام... الصحف تكتب..محطات الإذاعة ..أصوات وضجيج كل ماحولك يوحي بالريبة والشك وأن هناك أمورا غامضة تجري لغاية ما..

الرعب تجده في الشوارع يتمثل بأكثر من صورة..

كانت الكويت خلال السنين الماضية، بصغرها الأليف وحرها الصيفي الشبيه بحر البصرة وصخبها اللذيذ، أشبه ببحيرة رائعة هائدة أستقلُ زورقاً وأنسابُ وسطها فأنعم أنا وعائلتي بالهدوء والاسقرار، ثم فجأة وأنت في هذا الزورق ترى شهابا يخرّ من السماء. لايهم..مهما كان حجمه يهبط باتجاه البحيرة فتنتبه أن زورقك الجميل الذي تغنى به الشعراء يعوم على بحيرة من نفط.. هناك عود ثقاب يقترب والأحرى بك أن تنزل من البحيرة.. وتبتعد...

هكذا رأيت الأمر..

وبهذه الصورة وجدت نفسي!

قال الدكتور نجم خلال تلك الأحداث :

- لاعليك يمكنك البقاء ولن تسفِّرَك الدولة مادمنا معك.

- يا أخي بدأت الحكومة تسفِّر العراقيين وتعدّ بعضهم امتدادا لإيران التي تعادي دول الخليج.

- هناك الكثيرون من الإيرانين الذين لم تسفرهم الحكومة تجار يعملون لها ويمسكون باقتصاد البلد وربما لايحمل أي منهم الجنسية الكويتية وهم باقون، ثم ماذا عنيّ أنا؟

- يا أخي أنت أخوالك متنفذون وليس ببعيد أن يجدوا لك ثغرة في القانون كما نجد ذلك في لاعبي الكرة فتحصل على الجنسية الكويتية لكن من أكون أنا!

- اعتبرني في خدمتك !

- اعرف ذلك حقا لكن...

- يعني قررت الرحيل؟

كنت تفخر يا نجم الدين تقول نحن الاطباء نحوز أعلى الدرجات منذ الصف الأول الابتدائي حتى نهاية الثانوية..أناس مميزون ما من مجتمع إلا ويرغب فينا، وها أنا اجد العالم منفتحا أمامي.. أهرب بطريقة أخرى لا أزوّر جواز سفرٍ ..لست بحاجة أن أحمل اسما آخر ولا ألتفّ بأكثر باكثر من طريق كي أدرك بر الامان:

- سأرحل بدلا من أن يتم طردي.

وجدته يغيب ويسرح.. كأنه يتأمل سفري . لم يكن ليفكر قبل الأحداث الأخيرة أني سوف أغادر البلد، وأظنه يطمح يوما ما في الحصول على الجنسية الكويتية، وربما لايبدو الحلم بعيدا عنه قط، فأحد أخواله شغل منصبا كبيرا في الداخلية وعمل الآخر في السلك الدبلوماسيّ.. كنت مخيرا بين البقاء في بلد لايعرف أهله مصيرهم فضلا عن أني لاأعرف مايخطه القدر لي.وهناك أكثر من حافز يحثني على الرحيل..ولابد من أن أستفيد من علاقاتي الخاصة ومعرفتي بأساتذة الجامعات، من ضمن نشاطي كانت هناك بحوث قدمتها إلى مركز الأبحاث الملكي في لندن.فربطتني صداقة بالدكتور( بل إبراهام) طبيب جراح يعتمد بحوثا وتجارب فيحوز من الخزانة البريطانية على دعم كبير. نشرت في مجلته بعض الأبحاث وعندما وجدت أن الجامعة ومركزه داخلها يجري اختبارا لطبيب يدرس شرط أن يعمل في المشفى ذاته بعد إكماله البحوث أستشرت الدكتور بل في دخولي التجربة التي اجتزتها. لم أعوِّل على معرفتي به ولا على لقاءٍ جمعنا ذات يوم قبل ثلاثة أعوام عندما اختارتني المشفى موفدا عنها إلى لندن غرض المساهمة في مؤتمر للبحوث. كنت أوطد علاقتي بالدكاترة الأجانب لأزيد خبرتي وثقافتي بالدرجة الأولى إذ إني كنت فكَّرت بإكمال دراستي ضمن وضعية لاترهقني من الناحية المادية، فكان عرض الدكتور بل من أفضل العروض التي وجدتها تحقق طموحي...

فغادرت إلى لندن بصفتي دارسا وباحثا ولم أكن من اللاجئين..

بل لم أفكر بالتقدم لطلب اللجوء على الرغم من الأحداث المثيرة التي اجتاحت المنطقة واغتنمها كثير من طلاب البعثات في بلدانهم حججا سهلة لطلب حقّ اللجوء..

وعند رحيلي إلى لندن انقطعت علاقتي بالبصرة فلم أعد اتكلم عبر الهاتف مع أولاد عمي ولم أعرف شيئا عن مصير البيت.. لقد تغير كل شيء تماما .. وقد سألت الدكتور نجم عن بيتي وبيته فقال إنه هو شخصيا لم يعد يسأل عن بيته ولا يجرؤ على الذهاب إلى البصرة لكن لاخوف على البيتين مادامت العقارات بأسماء مالكيها...

هكذا جرت الأخبار..

لازهو بل يحق لي أن أفخر إذ دخلت بريطانيا باحثا، وكانت زوجتي المرحومة أول يوم زارت إحدى المدارس لتسجل ابننا تؤكِّد أنها زوجة طبيب تعاقد مع الدولة.. قالتها بفخر كأنها تأنف من أن يظن مدير المدرسة أنها زوجة لاجيء، لقد وفر علي ذلك موقفا حرجا كان يمكن أن اضطر اليه ذات يوم مثلما فعله غيري، فقابلوا ضبّاط شرطة وتعرضوا لتحقيق وملأوا اوراقا وانتظروا تصاريح الإقامة...استطعت أن أعبر التجربة وأتخلص من إجراءات اللجوء.. عملت في المشفى ذاته.. بعدئذ أصبحت من رعايا التاج البريطانيّ ولم أعد عراقيا.. مر الزمن .. وسافر ابناي الأمريكيان خارج بريطانيا.. سكنت راوية مع زوجها في كندا واستقر "جمال" في الولايات المتحدة ..الشيء الوحيد الذي أتعبني هو وفاة زوجتي التي رحلت قبل عامين.فبقيت وحيدا في لندن لاشغل لي بعد أن اصبحت متقاعدا سوى مكالمة صديقي الدكتور نجم الدين أو الحديث مع راوية وجمال...

ثم فجأة أراد الزمن أن ينبعث من جديد....

فتجمعت كل الوقائع في حدث رهيب..

حدث لايمكن أن يتصوره العقل..

مرت الحرب العراقية الإيرانية...

وبعدها حرب الخليج الثانية

وهاهي الحرب الثالثة قادمة...

بل وقعت فعلا..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم