صحيفة المثقف

التأسيس لثقافة الفوضى .. كذبة الحصانة لدى الكاتب

mohanad salahمنحت بعض المدارس الأدبية والفنية معايير خاطئة للكتابة أتاحت الفرصة أمام الكثير من الكتابات الهشة والمبهمة أن تمتلك نوعا من الشرعية عند طرحها أمام العين المتفحصة للقارئ، وأدخلته في متاهات لا نهاية لها أدت إلى عدم إنسجامه مع أغلب ما يتم طرحه عبر الساحة الثقافية بحجة أن الكاتب يجب أن (يكتب ثم يرحل)، وهي بإعتقادي عملية إحتيال من قبل الكتاب وليس المنظرين . حيث إن المنظرين دأبوا على وضع مساحة كافية أمام القراء لفهم وتصور النص كلا حسب وجهة نظره، وليس المراد أن يبتعد النص عن درجات الوضوح القرائي وينتج العديد من علامات الإستفهام التي يجب أن يجيب عنها الكاتب .. تمخضت الدراسات الحديثة للكثير من المشتغلين في مجال البحث والتقصي عن نواة النصوص . بأن النص يولد متمردا ومنفلتا حتى يتدخل الناص فيروضه ويمنحه الدرجة التي يستحقها ليتخذ مكانه على مقياس الكتابة . تبدأ الكتابة من لحظة الصمت، لحظة اللاشيء، حيث يكون الفكر فيها متعاليا جدا، ولكنه يضطر - وتحت ضغط دوافع معينة - لأن يهبط من عليائه، لتدخل الكتابة في لحظة التأمل، وهي لحظة يتخير فيها الفكر ويتراوح بين اللغة والوعي، بين التشكل والتجريد، وذلك قبل أن يدخل تمامًا في لحظة الفعل، والتي يتلبس فيها الفكر ثوب اللغة بشكل كامل . ما يحصل في هذه اللحظة هو أن الفكر يتكثف في اللغة، فتولد الكتابة . الكتابة بذلك ستحمل مكوِنين: مكون اللغة، ومكون الفكر . وما من كاتب إلا ويتراوح بين هذين المكونين: مكون الشكل والقالب، ومكون المعنى والروح . اللغة - كما يعبر عنها رولان بارت – (خطُّ الأفق الذي تلتقي عنده السماء بالأرض . فهي الوسيلة والمقياس الذي نرسم ونحسب به حدودنا . كما لو أن الفكر يتنازل عن حريته عندما يتشكل ويتقولب في اللغة، وهو يفعل ذلك اضطرارا في سبيل التمدّد والوصول إلى الكونية) فاللغة تضمن له الانتشار لأنه سينزل عن عرشه المطلق .. قارئ اللغة هو قارئ لسجن محكم الإغلاق، سجن مضبوط تاريخيا وجغرافيا، وفي هكذا مناخ يكون القارئ أقدر على التخلُّص من قبضة الكاتب، ولكن عليه أن يفكر في قبضة اللغة، لأن سجن اللغة يتبعه بالضرورة اعتبار اللغة نفسها كائنا حيا يلزم محاورته دون أي تأثير إيجابي أو سلبي من منتج اللغة.  ومع فقدان الحرية داخل السبك اللغوي لا تعود اللغة معنية - تحت أي عنوان- بأي شكل من أشكال الالتزام الاجتماعي. وعلى ذلك، فالقارئ للكتابة سيكون قادرًا على اختبار اللغة دون أن يضطر لإبداء أي التزام تجاه الكاتب. سيستمتع بلغة الكاتب ويندمج فيها ويصنع عوالمه من خلالها أو سيمزجها، دون أن يعني ذلك موقفا ما تجاه الحرية التي أنتجت هذه اللغة، أي تجاه الكاتب. وهنا عليه أن يكون متسامحا ومنبسطا - بل ومبتهجا- وهو يتعامل مع مكوِّن اللغة في الكتابة، ﻷنها لغة بلا روح، وهو - أي القارئ - مسؤول عن إعطائها شيئا من روحه. كما لو أن اللغة تخلق الفضاء، ونحن كقراء من يملأ هذا الفضاء. وإلى هذا الحد لا يزال القارئ بعيدا عن درجة الصفر في القراءة . ذلك لأنه ملتزم تجاه السجن الذي وضعته فيه اللغة. ولو أراد أن يُعيد إنتاج النص ففي الغالب سينتج نصا بعيدا كل البعد عما يريد كاتب النص أن يقوله . لذا يجب على الكاتب أن يلتزم تجاه نصه كي يعطيه الصبغة الرسالية التي جاء من أجلها .. أستغرب حقا عندما أجد الكثير من كتابنا الشباب وفي شتى المجالات الأدبية والفكرية والفنية، وهم يتبنون (الفوضى) ويستقتلون من أجلها . وأقصد هنا فوضى (القراءة) التي يحتملونها على القارئ بمجرد ولادة نصوصهم وترحيلها إليه . فهم بمعنى أصح _ يعتقدون _ بأن الغرابة والفوضى والغموض اللامتناهي داخل ثيمة النص ولغته، هي من يتولى تقديم نصوصهم على إنها (الأمثل) والأحدث والأكثر رواجا وقبولا لدى القراء. بينما يقف هذا القارئ لينتج الكثير من الأسئلة بدل أن يغترف الخلاصة التي جاء من أجلها النص ويحولها إلى تطبيق فعلي يستثمره في حياته اليومية. ومع هذه الدوامة الغريبة التي يعيشها القراء . تجد الكتاب وهم يعيشون نشوة الإنتصار المزيفة، وكإنهم يخوضون حربا ضروسا مع القراء .. ما أنتج هكذا أدوار عائمة في المشهد الثقافي . هي النظريات المخطوءة التي بنيت زورا وبهتانا على أنقاض النظريات الأم، ومنحت (حصانة) مفرطة لا وجوب لها للكتاب أمام عمليات التلقي، جعلتهم غير ملزمين بالتفسير أو التنظير لنصوصهم . وجعلت القراء في دائرة الإتهام بعدم الوعي، وإنهم ليسوا بمستوى ما يكتب .. على كتابنا الشباب أن يعوا جيدا بأنهم إذا ما إستمروا بهذه الطريقة من التصور اللامنطقي للكتابة . فإنهم سيجدون أنفسهم مرغمين على الكتابة لنخبة النخبة، أو الرحيل بكل ما يكتبونه خارج الدوائر التاريخية والمعرفية التي يكون فيها القارئ أولا وليس الكاتب . فهو من سيحدد ديمومة وبقاء النص ومنتجه . وعلى المتحذلقين ممن يريدون أن يستمروا في طعن خاصرة المشهد الثقافي عبر تنمية هكذا فوضى. أن يفهموا بأنهم لن يوقفوا عجلة الكتابة، بل على العكس، سيصنعون أدوارا جديدة تبتعد تماما عن غاياتهم، وستجد لها قراء يفهمون محتواها . كل ما سيحدث . إنهم زرعوا بذور شذوذهم النفسي المفرط في مساحات معينة لدى بعض المواهب الشابة التي للأسف سلمتها مفاتيح الولوج لها والتحكم برصيدها المعرفي دون أن تعي بأنها ستأخذها نحو فراغ عميق لا نهاية له ...

 

مهند صلاح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم