صحيفة المثقف

صناعة الرموز وإهمال المواهب

mohanad salahأصبحت المنظومة المعرفية المختصة بالإشتغال على مناطق الوعي داخل الكيان الفكري للمؤسسات الثقافية التي تعتنق الثقافة، هشة ومتخبطة وتدل على الإحتضار الحقيقي للمشهد الثقافي رغم تهرب القائمين على هذا المشهد من مواجهة الجمهور والإعتراف بهذا . فكان لزاما عليها أن تعتمد نظريات متطرفة في مسيرتها، عبر تركيزها على شخوص وتجارب بحد ذاتها وبالتالي تقديمها للمتلقي على إنها المثال الأوحد الذي يجب أن تتجه كل الأنظار له وتتمحور حول كتاباته وطروحاته، وإن أي تجربة ثقافية أخرى مهما كان حجمها، تقع خارج الأطر والمخططات التي تنشد لها هذه المؤسسات . وهذا ما أنتج لزاما خطوطا منحرفة على تجاعيد الخارطة الثقافية ومخرجاتها الفكرية أدت إلى تكوين صناعة تشبه لحد ما الفكر الآيديولوجي للعصابات السياسية التي حكمت العالم بقبضة من نار. فهي أيضا لم تتردد في تسقيط كل العقول السياسية التي تشتغل خارج مخططاتها، وفرض مفكريها بشكل إجباري على الشعوب، التي هي بدورها ساهمت بشكل كبير في صناعة الطواغيت عبر إنصياعها للكذب المستمر على حساب المشاعر والقضايا المصيرية، وبالتالي يكون الهدف هو الوصول لسدة الحكم لا أكثر .. بهذه الصورة المشوهة تحاول العديد من المؤسسات التي تتبنى المشروع الثقافي أن تتحايل على الجمهور، وتقدم لهم نخبة بائسة إرتضت على نفسها أن تكون ممثلة لها مقابل الشهرة المزيفة والمال . بينما تعيش جيوش من المبدعين الشباب وبكافة الأشكال الثقافية، حبيسة التهميش والإقصاء من قبل المؤسستين الإعلامية والثقافية ما دامت خارج دوائر التسلق والتملق التي ترسمها هاتين المؤسستين . التشابه الأدائي كما يقول النقاد، والسترة التي هي على مقاس واحد ولون واحد ترتديها على استحياء أحرف مثقفو هذا الجيل من الشباب، وأبرز ما عابه الناس عليهم وظلت خصما ليس بالسهل يواجه في كثير من الأحيان تجارب عديدة تحتاج فقط للقليل من (الحبك) والإجادة حتى تخرج للناس في ثوب قشيب، ربما لا يقل أناقة عن تلك التجارب التي ظلت تمارس فضيلة الإبداع والإمتاع لأزمان بعيدة ووجدت لنفسها المساحة. لكننا نجد في الإطار نفسه أيضاً إتجاهات كثيرة اتفقت على عدم تأثير المثقفين الشباب في الساحة الآن، كما لا يفوتنا أن ندرج في هذه المساحة ذلك التصريح الذي أدلى به أحد كبار اللانقاد عندما وجهت إحدى الدول دعوة لإستضافة أحد النقاد الشباب، فأخذ بنفسه الدعوة وسافر لهذه الدولة، وعندما سألوه: (ألا يوجد ناقد شاب في بلدكم؟!) فأجابهم: (لا أعرف أحدا من النقاد الشباب)، هذا التصريح الذي مر من دون أن يقف عنده الكثيرون، كما أردنا من خلال هذه المساحة الوقوف على الحياد في أمر من المؤكد أنه سيكون له تأثيره الكبير في المدى البعيد علاوة على التأثير الآني في الحركة الثقافية والإبداعية، عموما في المشهد الثقافي مهما اختلفت وجهات النظر أو تقاربت حوله، والذ سيصنع بدوره منابر خاصة، حيث ما يجده المثقفون الشباب الآن من فرص للظهور ومنابر كثيرة كانت غائبة، وهي متاحة لهم حالياً لإبراز مقدراتهم وإثبات الذات لم تتوافر لكبار الشعراء في أزمان عديدة مضت، لذلك تأتي بين الفينة والأخرى المقارنات، ومثل هذه التصريحات التي تضعف من ما يقدمونه من منتج إبداعي نظير ما يجدوه، فالفضائيات والإذاعات الخاصة ووسائل التواصل الاجتماعي أضحت الآن منابر الدخول إليها لا يتطلب ذلك العناء الكبير، بل إننا نجد أن (السوشال ميديا) أصبحت تخرج كل يوم مثقفا جديدا وتزفه عريسا لها، وسط تعليقات ربما لها علاقة بالواقع الذي نعيشه وربما لا .. كان للموهبة الفذة لأصحابها الدور الكبير في الخروج بها من ذلك الحيز لآذان المتلقي وعين القارئ البعيد من وسائل التواصل الاجتماعي . المتابع للساحة والمشهد الثقافي بشكل عام يجد أن هناك أسماءً كثيرة من المثقفين الشباب حتى وإن لم يجدوا حظهم من الشهرة والإعلام، فإن بحوزتهم الكثير جدا ليقدموه، والشاهد على ذلك تلك النجاحات التي تحدثنا عن بعضها آنفا والنجاحات الفردية للبعض منهم كالدواوين مثلا، عطفا على أن (حواء الثقافة) في الوسط الثقافي الشرقي لا تزال محاربة بالجهل والنظرة القبلية، إلا أن الذائقة ربما تختلف لكن تبقى البصمة موجودة في هذا الجيل حتى وإن تباينت الآراء وطرق وصول ما يكتبون للمتلقي، وحتى شكل النقد المترتب على هذا النتاج باختلاف القياسات الأدبية والفنية والنقدية. على المثقفين الشباب أن يكونوا أكثر إندفاعا وحماسا في المطالبة بالمساحات الكافية لإظهار تجاربهم، وعدم الرضوخ للأمر الواقع والإكتفاء بالإنزواء والتباكي. فهذا الصراع بحاجة لمواهب حقيقية تمتلك القدرات الكافية على التوهج بعيدا عن المؤسسات، فهي ليست بحاجة لها مع هذا الكم الهائل من الإنفتاح الإعلامي الذي توفره لهم شبكات التواصل الإجتماعي والقراء اللامحدودين في كل أصقاع العالم . ما عليهم سوى أن يثقوا بقدرتهم على التغيير وقلب موازين الأمور جعلها تدور لصالحهم، وبذلك سيكون حال المؤسسات المزيفة التي تتبنى الثقافة بشكل قسري (مكشوفا) أمام الجمهور بأكمله، والتجارب التي تبنتها كي تخدم بقاءها ستكون هي الأخرى في مهب الريح .. لا زالت هنالك مؤسسات ثقافية رصينة تحافظ على قيمها ومبادئها في إستقطاب المشاريع الإبداعية بعيدا عن سمسرة الإعلام أو الشهرة. يمكن لأي تجربة أن تنفذ لهذه المؤسسات وهي على وعي تام بأن ما ستقدمه لها سيكون إستحقاقا للمواهب التي ستنير طريق المستقبل بالحقيقة ...

 

مهند صلاح

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم