صحيفة المثقف

تراجم النساء.. المرأة تترجم للمرأة .. كتاب: نساء طنجة الرائدات للدكتورة زبيدة الورياغلي

mohamadsaed samadiأدب التراجم: تشكل كتابةُ سِيَر الرجال والأعلام مساحةً عريضة جدا في نصوص التراث العربي الإسلامي، تأليفا وتذييلا وتكميلا واستدراكا؛ وبهذا اللون من ألوان الكتابة احتفظت ذاكرة العرب والمسلمين بتاريخهم وأيامهم وأعلامهم وحكامهم وإسهاماتهم والكثير من التفاصيل والجزئيات التي غطَّتها ودوَّنتها مواد التراجم. وبذلك تكون كتبُ التراجم وثائق مهمة لكل مؤرخ أراد أن يبحث مرحلة من مراحل التاريخ أو بلدا من البلدان.فأنت مثلا حينما تقرأ كتاب" أعلام مالقة"  لصاحبيْهِ ابن عسكر(ت636هـ) وابن أخته ابنِ خميس(مج تاريخ الوفاة)، تجد نفسك أمام توثيق مُشوِّق ودقيق لجوانب مهمة من تفاصيل الحياة الأندلسية بمالقة وغيرها من الحواضر التي ينتسب إليها بعض من استوطن مالقة أو مرَّ بها. جاء في طالعته:" وجمع في هذا الكتاب من سكن مالقة ودخلها أو اجتاز عليها، وجملا من أخبارهم وأدبهم ومحاسنهم ومراسلاتهم وبلاغتهم، وذكر من أخذوا عنه من فقهاء الأندلس وغيرهم" . كما أنها ــ كتب التراجم ــ حفظت الكثير من الفرائد والنوادر التي اقتنصها المترجمون من المترجم لهم أو من تلامذتهم ممن أدركوهم أو ما تحصلوا عليه من أوراقهم ومخطوطاتهم؛ وهذا مثلا الأمير الأديب أبو الوليد إسماعيل ابن الأحمر الغرناطي الفاسي (ت807هـ) الذي ألف كتابا نفيسا في أدب التراجم على عهد الدولة المرينية سماه" نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان" وجدناه يقول بين يدي ترجمته لمن وصفه وحلاه بصاحبنا الأستاذِ النحويِّ المقرئِ عبدِ الرحمن بن علي بن صالح المكودي:"... وكنتُ قد سألته شيئا من نظْمِه، لأنشرَ رداء معرفته وفهمه. فأبطأ علي بالجواب دهرا، حتى جمع من الشعر نزرا. وكتب ذلك في أوراق، وذيَّل بكلامه الذي راق. وذكر في أول كلامه اسمي، وطرزه برسمي، لما توالى مني السؤال عليه ودؤب  الطلب مما من النظم لديه. وبعث بذلك إلي، وألقى زمامه في يديَّ، واخترت منه ما يُعْلِمُ باتساع باعه، وانطباع طباعه " .

واضح أن المعتنين بفن التراجم بذلوا جهودا مضنية لجمع مواد الترجمة بما عانوه وكابدوه في هذا المجال، حرصا منهم ألا يفلتَ توثيقُ حركةِ الأدب والعلوم والثقافة والجهاد ومختلف الفنون من الضياع والتلف؛ فصنفوا في طبقات الرجال والبلدان والتخصصات والفهارس الخاصة  ؛ مما فوَّت علينا الكثيرَ من عِلل الإهمالِ والنسيانِ والنكرانِ والمساحات الفارغة في جوانب مهمة من تفاصيل حركة التاريخ والإبداع...

تراجم النساء عند المحدثين: اعتنى القدماء من المترجمين في مصنفات تراجمهم بجمهرة من أعلام النساء ومنهم من خصَّهن بمصنفات خاصة ليس هنا مجال سردها،  وذلك لأنهم لم يغفلوا أدوار النساء في مشاركاتهن في الحياة العامة وأدوارهن الطلائعية في مجتمعاتهن. وكانت النسوة من جيل الصحابيات وأمهات المؤمنين وآل البيت من أوائل ما سُطر وحُرِّر في هذا الباب توثيقا لأدوارهِن في مسارِ الدعوةِ الجديدةِ وما تلاها من محن وابتلاءات وفتن متعددة. ولعل من أجود مَنْ تتبعَ تفاصيل نساءِ المجتمع النبوي من المتأخرين المرحوم عبد الحليم أبو شقة(ت1995) في سِفْرِه النفيس" تحرير المرأة في عصر الرسالة "  وأحصى في أجزائه الستة جملةً من تراجم الصحابيات وتتبعَ دقائقَ حركتِهن وإسهاماتِهن في الدعوة ومشاركتهن في الحياة العامة.

وأورد محمد بن جعفر الكتاني في "سلوة الأنفاس" ترجمة قرابة خمسين امرأة، وكذا فعل العلامة محمد داود التطواني حينما ذكر في تاريخه بعض الفاضلات من نساء تطوان وأخبارهن ووصاياهن كالفقيهة رقية بنت العلامة محمد الورزيزي  وغيرها. وهذا عبد الله كنون وهو يؤرخ للنبوغ المغربي نجده حريصا على الإنصاف في التأريخ والترجمة والإشارة والتوثيق ل"مُساهمة المرأة المغربية في بناء صرح النهضة العلمية...ولنعطِ على ذلك مثالا ــ يقول ــ في حقل العلوم الدينية السيدة أم هانئ بنت محمد العبدوسي الفقيهة الصالحة أخت الإمام الحافظ عبد الله العبدوسي، قال الشيخ زروق في كناشته: كانت فقيهة، ذات علم وصلاح... وفي الميدان الأدبي نذكر الأديبة أم الحسن بنت لأحمد الطنجالي نزيلة لوشة...أما في الميدان العلمي فسنترجم للطبيبة عائشة بنت الجيَّار  مكتفين بها، ونحن على يقين أن هناك كثيرات من السيدات الفاضلات اللائي يشاركن في غير ما ذُكِرَ من ضروب المعارف، ولكنَّ أخبارهن لم تُحفظ بسبب الإهمال الذي مُنيَ به تاريخنا الأدبي بالنسبة للنساء والرجال."                                                                                                                      وفي هذا المجال أيضا نجد مِن أبرز من خَصَّ المرأة بالترجمة من الرجال من المعاصرين نجد العلامةَ سليمان الندوي صاحبَ "سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين"  ؛ والأديبَ الوزيرَ محمد عبده يماني(ت2010م) الذي وضع تأليفَه الشهير" خديجة بنت خويلد سيدة في قلب المصطفى"  ؛ووَضع سِفرا نفيسا وَسَمَه ب" إنها فاطمة الزهراء" ...

وقد تتبع الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري في بحث له "صورأ من الإسهام العلمي للمرأة في التاريخ الإسلامي" يمكن العودة إليه على الشبكة الرقمية؛ وقدم الأستاذ الدكتور محمد أكرم الندوي الباحث بمركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية درسا حسنيا السنة الماضية 2016/ 1437هـ تحت عنوان" جهود المرأة في الحديث النبوي الشريف"  . وهي جهود علمية مميزة استوعبت عصورا تاريخية مختلفة ومجالاتٍ معرفيةً متعددةً في حدود ما سمحت به ظروف العالم الإسلامي وحدود حركية المرأة المسلمة داخل محيط مجتمعها ...

المرأة تترجم للمرأة: من الكتابات التي استأثرت بتراجم النساء أيضا وأضْفَتْ عليها خصوصية معينة وجوانب مضيئة، ما حبَّرته المرأة في حق أختِها المرأة، وتميزَ هذا اللون من الكتابة بتكثيف وخصوصية أنثوية ذات ملامح جمالية وتدقيق فني متميز؛ جعل منها نصوصا تميل إلى الإبداعية والعاطفية الرقيقة  أكثر من التركيز على تقديم المعلومات والأخبار . ومن نماذج ذلك ما كتبته العالمة الأديبة أمينة عبد الكريم اللوه(ت 2015) تحت عنوان" الملكة خناثة قرينة المولى إسماعيل"  وهو نص سردي في قالب روائي تؤرخ فيه لهذه السيدة التي عُدت بمثابة مستشارة  للسلطان المغربي زوجِها المولى إسماعيل. وحررت السيدة نفسُها أمينة اللوه مقالا نشرته سنة 1969 تحت عنوان" نساء مدحن الرسول صلى الله عليه وسلم" .

ومن أجود ما كُتِب أيضا في هذا الباب السِّفرُ البديع" تراجمُ سيدات بيت النبوة" لصاحبته العالمة الدكتورة عائشة عبد الرحمن(بنت الشاطئ)، وهو الكتاب الذي ما فتئت تراجعه وتنقحه وتهذبه الباحثة المنقِّرةُ المدققة طبعةً بعد طبعة، وذلك " لأستدرك فواتا وأضيف إلى مادته جديدا مما وقفتُ عليه فيما أتابع من دراسات إسلامية. فكان أن عكفتُ على إعداد هذه الطبعة الجديدة، بما استدركتُ على سابقاتِها من أخطاء وأوهام وفواتٍ، وما وثَّقتُ من مرويات وأخبار جاءت مرسَلة أرسلت من مرويات وما أضفتُ إلى مصادري من أصول لم تكن مُيَسَّرة لي من قبل."  وهو كتاب حاز حظا وافرا  من الإبداع والنَّفـَسِ الأدبي والتصوير الجمالي والصياغة الأسلوبية الرقيقة لمواد السيرة  لِمَنْ ترجمت لهن، بل توفَّقت أيضا إلى حد كبير في وضع عناوين أساسية وفرعية لكل مبحث ومطلب تمتح من معجم الإيحاء والدلالة واللغة الرامزة؛ فيكون العنوانُ بمثابة إشارة ملخصة مشوقة تشدُّك شدا للقراءة ومتابعة أطوار الحكي واستكشاف جانب آخر من جوانب السيدة المترجم لها؛" الوداع، السر المذاع، الوديعة الغالية، طيف لا يغيب، سفر إلى يثرب، نذر العاصفة، دليل الركب، محاولة وإصرار، بطلة كربلاء، الصدى الباقي، زواج مثمر، شروط عجيبة، الأديبة الناقدة، الهلال الغارب،..."

لاشك أن المرأة حينما تترجم لأختها أو تكتب عنها فإن سبر أغوار الشخصية يكون عميقا ودقيقا ويلامس جوانبَ قد يغفلها المترجِمون من الرجال، أو على الأقل ليس من المُتيسرِ والسهلِ الوصولُ ــ حسب القواعد والأعراف ــ واللقاءُ المباشرُ الذي يسمح بالمعرفةِ عن قرب والسماحِ بالاطلاعِ على تفاصيل مفيدة في ترميم وتجميع مكونات مادة التراجم ، مما يمنحُها قيمة تجعلها وثيقة معتمدة لدى الدارسين لمعرفة مكانة المترجم لها وبَـيتها ومحيطها وبَلدها وحركة العلم والأدب بزمنها. ولا يغرُب عن البال ما يصاحب عملَ المترجِم من معاناة ومغالبة وجهد مضْنٍ كما سنجد عند الدكتورة زبيدة الورياغلي وهي تستجمعُ مواد تراجمِها بجَلَد وصبر وحب قلَّ نظيره. 

ويجب ألا نغفل في هذا الصدد الإشارةَ إلى نصوص كثيرة مهمة يمكن أن يحظى بها ويستثمرَها المعتنون بتراجم النساء خاصة المعاصرات، تُترجم فيها المرأة لنفسها، من خلال سِيَـر ذاتية أو مذكرات، أو مقابلات وحوارات منشورة، إذا استُجْمِعت واعتُني بها ستشكل موارد مصدرية مهمة في بناء ترجمة متماسكة متكاملة. يمكن أن نستشهد هنا بالحوار الطويل والمفيد الذي عرَّفَـتْ فيه سيدة بنفسها؛ ويتعلق الأمر بفريدة بليزيد المرأة الطنجية التي تُقدِّمُ نفسها كأول مغربية درست السينما ، وشقت طريقها في الفن السينمائي منذ وقت مبكر.           

1028 samadiقراءة في كتاب: نساء طنجة الرائدات:

أ ــ مؤلفة الكتاب: الدكتورة زبيدة الورياغلي  أستاذة باحثة ومربية سابقة، ولدت ونشأت في طنجة أمد الله في عمرها، شُغفت منذ يفاعتها بالنشاط والعمل الجمعوي ومازالت كذلك إلى الآن على كِبر سنها دون ملل أو امتعاض رغم المثبطات وكثرة المعيقات. عرفتُها في مجالا البحث العلمي، وجمعَتْنا وحدةُ المسلك في دبلوم الدرسات العليا والدكتوراه لاحقا، وكانت تُمثل لنا نموذج المرأة المغربية الأصيلة التي تبحثُ وتَجِدُّ وتجتهدُ في مجالات بحثية عميقة مثل التفسير الإشاري والتحقيق، وهما مجالان غاية في الصعوبة والتدقيق والمهارة البحثية عكس ما قد يظنه باحث مبتدئ، ومع ذلك شَقَّتْ طريقها بثبات وعزيمة تُـذَكِّـرنا بالمقولة المأثورة " مع المَحْبَرة إلى المقبرة ، ومن المهد إلى اللحد "، وهكذا تكون المؤلفة زبيدة الورياغلي قد وفقها الله لإنجاز الأعمال الآتية:

1. البحر المديد في تفسير القرآن المجيد: للشيخ أحمد بن عجيبة (ت1224)، الربع الثاني بدءاً من سورة الأعراف تقديم وتحقيق، نالت به دبلوم الدراسات العليا سنة 97ـ 1998. نسخة مرقونة منه توجد بمكتبة عبد الله كنون تحت رقم ب534.

2. "كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد" للشيخ أحمد بن عجيبة، النصف الأول؛ قدمته لنيل الدكتوراه الوطنية سنة  2001. نسخة مرقونة بمكتبة عبد الله كنون.

3. تفسير سورة الفاتحة من كتاب البحر المديد: دراسة وتحقيق طبع سنة 2013 ، وهو في 120 صفحة. وفيه تؤكد أن كل مشتغل بعمل التحقيق يعاني أثناء بحثه أن يكون عملُه قد اشتغل به أحدٌ ونشره في قطر من الأقطار، وخاصة قبل ظهور الشبكة الرقمية، تقول الأستاذة زبيدة الورياغلي:" وفي المدة الأخيرة علمتُ وأنا قد قطعتُ شوطاً كبيرا في تحقيق الكتاب بصدور طبعة منه بالقاهرة في ستة مجلدا، فترددتُ طويلا بين أن أتوقف أو أستمر في عملي، وحرصتُ على أن أطلع على الطبعة... فكانت مفاجأتي عظيمة، ذلك أنه تأكد لي بعد التفحص والإمعان ضرورة الاستمرار في العمل، بل إن حرصي على إتمامه زاد، ومرد ذلك إلى أن الطبعة المذكورة ــ كما تأكد لي ــ متسرعة تفتقد إلى كثير من الشروط الواجب توفرها في أي تحقيق علمي"   

4. نساء طنجة الرائدات الجزء الأول: وهو الكتاب الذي بين أيدينا في انتظار صدور جزئه الثاني قريبا بحول الله.

في شهادة لأستاذنا المشتركِ البحاثةِ المحققِ المرحومِ عبد الله المرابط الترغي في حق المؤلفة نجده يقول في المقدمة التي صدَّرت بها كتابها الفريد يقول:" والدكتورة زبيدة الورياغلي عالمة وباحثة ممتازة، صرفت حياتها كلها في التعليم، وفي كل مراحله من الابتدائي إلى الجامعي، وقد حصلت على أعلى الشواهد الجامعية...وبموازاة ذلك عملت في أكثر من جمعية نسائية. فهي صاحبة تجربة ثقافية ناضجة ذات عطاء في كل مستويات هذه الثقافة، في الكتابة والتأليف، وفي المشاركة في الندوات والتجمعات العلمية وفي كتابة الأعمال الصحفية."  ويعترف لها الدكتور المؤرخ الشاب رشيد العفاقي بباعِها في مجالات اهتماماتها وتخصصها فيقول: "والدكتورة زبيدة الورياغلي سيدة معترف لها بالكفاءة العلمية في مجال تخصصها، بأبحاثها الرصينة، وبمعلوماتها التي تستقيها من مصادرها الأصيلة" . إنها شهاداتٌ محبَّرة أشهدُ ومَنْ عايشَها وجاورَها ومازالَ يعايِشُها أنَّ همَّتها وجديَّتَها وطموحَها أكثرُ مما قيل، وأجدرُ أن يكون نموذجا نسائيا مُحتذى في زمنٍ انشغلت فيه المرأة المغربية المتعلمة بالملهاة وسفساف الأمور. تقول وهي تختم بحثها لنيل الدبلوم:" الحمد لله الذي وفقني إلى إتمام هذا العمل الذي احتسبته لله تعالى، راجية أن أنالَ به عفوه ورضاه وأجره سبحانه، وأن يغفر لي سيئاتي ويتجاوز عن أخطائي"  لقد كانت ومازالت تشتغل بالبحث والتنقير والكتابة والمشاركة لا تبغي بذلك ترقية ولا درجة، ولم تستفد من الأعمال التي أنجزتها في مسارها المهني ولم يكن ذلك عندها هدفا ولا أمنية، وهو ما أضفى على عملِها نَفَساً علميا خاصا، عَكْس بعض المتسرعة الذين يُبيضون ويُسَوِّدون لنيل الأوطار. 

ب ــ الكتاب: تعرف حركةُ التأليف المعاصرِ في تاريخ المدن وباديتها حركة علمية نشيطة اهتم بها من أدرك دورَ توثيق أخبار الأعلام والأحداث والمآثر في حفظ وصيانة التراث المادي والمعنوي للحاضرة والبادية المغربيتين، ويندرج هذا التأليف بصفة خاصة ضمن هذه السلسلة في نطاق  توثيق تاريخ طنجة وأعلامها. ولا أشك أن كتاب" نساء طنجة الرائدات" أولُ كتابٍ في الباب يُترجم لنسوة طنجة ممن كان لهن دورٌ وإسهامٌ وحركةٌ في البيئة الطنجية على عهد ما بعد الاستقلال. وقد نحتت من صخر، وأوجدَتْ من لاشيء شيئًا، ويا ما أصعب أن يستند بحثُك على فراغٍ توثيقي ومصدر مرجعي، ويزداد الأمر صعوبة وتحديا أن تُـرابط مُرابَطة في ثغور المواعيد والاعتذارات والتأجيلات والتسويفات والإلحاحات لتظفرَ بمقابلة أو حوار يمنحك الفتات من المعلومات والأخبار بلْهَ الوثائق والمخطوطات أو الصور. في هذا الخضم اشتغلت الباحثة زبيدة الورياغلي، واستطاعت أن تنجز هذا العمل الذي حوى اثنين وعشرين اسما ممن توفر فيه شرط الترجمة ممن ولدت بطنجة أو أقامت بها مدة معينة. يقول الدكتور عبد الله الترغي:"... تبقى أعمال كتاب(نساء طنجة الرائدات) عملا جيداً، يغطي ما أهملته أقلام الرجال من أنشطة المرأة في العمل الثقافي والجمعوي بطنجة والمغرب؛ لذلك كان هذا العمل المتمثل في تراجم نساء رائدات من طنجة عملا مهما جدا، له موقعه في التأريخ لطنجة وفي الكتابة عنها، وفي التعريف بأنشطة الساحة الثقافية والفنية والفكرية والجمعوية بها." والكتاب يغطي مرحلة مهمة من تاريخ المرأة بحاضرة طنجة التي خرجت من صبغتها الدولية وانعتقت من ربقة الاستعمار الذي سطا على المدينة لزمن كاد أن يطمس هويتها وخصوصيتها؛ مما جعل المرأة الطنجاوية التي أدت أدوارا وإسهامات مهمةً ساعدت رجال المقاومة والتحرير، تُقبلُ بشكل كبير على المشاركة في الحياة والانخراط في المدارس والتعلم والتعليم مع مواجهة التحديات وصعوبات المرحلة على مستوى الأسرة ومغالبة المحافظة والجمود، وفي هذا الإطار أرخت ووثقت الباحثة لأشهر النسوة اللواتي أدركت بعضهن وهي صغيرة، ومنهن من عاشرتهن أو صاحبتهن أو تيسَّر لها لقاءُ بناتهن لتجميع مواد الترجمة والتعريف بأدوارهن، فكانت تنحت من صخر كما يقال...

منهج الكتاب ومميزاته: حرصت الأستاذة الباحثة أن تبني تراجمها على مكونات أساسية في بنية نصوص الترجمة؛ بدءا من تحليةٍ للاسم بالصفة المؤذِنَةِ بنوعِ الشخصية وطبيعة اهتماماتها كالفقيهة والمُدرسة والإعلامية واالكاتبة والأديبة والناقدة والسيدة والإذاعية والحافظة والروائية والشاعرة والتشكيلية والمقاوِمة...ثم تحرص على ذكر تاريخ الميلاد والوفاة لمن توفيت منهن. وهي تترجم للوفيات وحتى لبعض المعاصرات ممن هن على قيد الحياة.وقد ترجمتْ لأجنبية وحيدة استقرت بالمدينة وكان لها حضور بها، وهي الإيطالية" إليسا كيمنتطي" التي درَّست الأميرة فاطمة الزهراء وحلَّـتها بالكاتبة والأديبة(1883ــ 1969). وتتوالى مواد الترجمة بذكرِ البيت الذي تنتمي إليه المترجَمَة سواء من جهة الأصول/ الوالد، أو جهة الزوج؛ بحيث يكاد يكون الكتاب الذي بين أيدينا تجميعاً لبيوتات طنجة العلمية أو المشهورة، فتكاد تكون كل مُترجَمَة تنتمي لبيت معروف مشهور" السميحي، أمقشد، كنون، سكيرج، السنوسي، ابن عبو، ابن غربيط، الخمال، أقلعي، العشيري، الزجلي،..."

وبذلتْ جهدا ملحوظا في استقاء المعلومات التي دعمت بها مضامين الترجمة، وكانت المعلومات المتفرقة وبعض الوثائق التي توصلت إليها تقودها إلى التحليل والاستنتاج واستخراج معلومة جديدة لم يكن للناس علم بها، فمثلا نجدها تقول عن السيدة الفقيهة خدوج الزجلي وهي تتحدث عن تعلمها والمدارس التي تدرجت فيها،  وتحرص أيضا أن تحدد بدقة مكان المدرسة المذكورة وإن تغير اسمها أو اسم الحي التي كانت به، ويجرها ذلك لإعطاء معلومة عن المدرسة وتاريخ إنشائها؛ تقول:" وعلى هذا الأساس يمكن القول ــ في حدود علمي ــ أن الفقيهة للا خدوج الزجلي أول سيدة انخرطت في سلك التعليم العمومي بطنجة، حيث التحقت في بداية مسارها التعليمي بمدرستين عموميتين، الأولى بحي بني يدر، والثانية بالسقاية قبل التحاقها في فاتح أبريل سنة 1931م، بمدرسة القصبة للبنات،(فاطمة الفهرية حاليا) بطنجة الواقعة بزنقة ابن عبو  بحي القصبة، والمجاورة لمسجد القصبة العتيق الذي شُيِّدَ سنة 1282هـ 1863م ، والتي كانت تحمل آنذاك اسم (مدرسة دار الضمانة للبنات المسلمات)وقد فتحت أبوابها بتاريخ 22/12/1930م لاستقبال أول فوج من البنات من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية بمدينة طنجة، وكانت المشرفة على إدارة المؤسسة أستاذة فرنسية تدعى Rosin Goudiani إلى حدود سنة 1960م." 

ويظهر جليا أن الكتاب يُؤرخ لجوانب مهْمَلَة من تاريخ طنجة، فهو بهذا الاعتبار وثيقة تاريخية مفيدة للمهتمين بتاريخ المدينة ومعالها ومآثرها، وقد وجدتُ المؤرخ الطنجي الدكتور رشيد العفاقي يذكر الباحثة زبيدة الورياغلي سبع مرات في هوامش بحثه القيم والمفيد "إسهام المرأة الطنجاوية في نهضة التعليم وفن الرسم1930ــ1960، يقول  بعد أن أشار إلى غياب تراجم لنسوة طنجة:" عدا مقالات الأستاذة زبيدة الورياغلي المنشورة في جريدة طنجة ومقال للسيدة أم هشام  في نفس الجريدة، لا نعثر على كتابات حول المرأة الطنجاوية."  ويقول المؤرخ رشيد العفاقي معقبا على ترجمته للسيدة شمس الضحى أبو زيد والتي أشار فيها  إلى الغبن والنسيان والنكران الذي طال هذه الأديبة رحمها الله:" ترجمت الأستاذة الدكتورة زبيدة الورياغلي للأديبة شمس الضحى بوزيد، وختمت كلامها بما يخالف ما قررناه أعلاه... والدكتورة زبيدة الورياغلي سيدة معترف لها بالكفاءة العلمية في مجال تخصصها، بأبحاثها الرصينة، وبمعلوماتها التي تستقيها من مصادرها الأصيلة، فلعلها تلقَّت ذلك أخذا أو سماعا، أو وقفت على تقييد يؤيد كلامها المذكور..."   

تتطرق أيضا مواد الترجمة إلى دور المرأة الطنجية في الجهاد والمقاومة والطرق والحِيَل التي سلكتها لتيسير سُبل التواصل بين المناطق النائية وتبليغ الأوامر والتعليمات، ومن ذلك استغلال اللغة الأمازيغية (الريفية بالخصوص)  في تمرير الخطط، وتوفير التغذية ونقل السلاح واستغلال البيوت للتأطير والتخطيط وتوزيع المناشير، يرد في ترجمة المقاومة فاطمة المرابط (ت2009) " كانت شقيقته فاطمة المرابط أثناء زيارتها له في سجن غبيلة بالدار البيضاء تتبادل معه الحدي باللهجة الريفية التي كان حراس السجن لا يفهمونها، فتتولى هي نقل التعليمات الصادرة عن أخيها إلى أعضاء الخلية... كان بيتها بعد انضمامها إلى حركة المقاومة المسلحة مقرا للاجتماعات السرية للمقاومين... ــ وفي رواية شفوية من ابنها تحكي زبيدة الورياغلي ــ وفي إحدى المرات، ألقي القبض على فاطمة المرابط وابنتها من طرف الشرطة الدولية بمدينة طنجة وكانتا متوجهتين إلى مدينة تطوان في مهمة سرية وتحملان جواز سفر صادر عن سلطات المنطقة السلطانية آنذاك. فتم توقيفهما وحجزهما في مركز الشرطة بالسوق البراني، ولم يفرج عنهما إلا بعد تدخل أحد أبناء المدينة المرموقين، وقد وقع هذا الحدث يوم 30مارس1952 أثناء المظاهرة الصاخبة التي عرفتها مدينة طنجة"

ومن مميزات الكتاب أنه يوثق أيضا لمنظومة القيم الأصيلة والمحافظة وأيضا لمنظومة قيم التحرر والتحديث وصعوبة فصل التقاليد والعادات عن الشعائر والعبادات؛ بحسب طبيعة اللحظة وإيقاع الوعي ورواسب الاحتلال وصراع الهويات، فالمرحوم عبد القادر السميحي يعتبر الحجاب الذي كانت تضعه المرأة الطنجية وقتئذ مشكلة تعيق النهوض بالمسرح ومظاهر الترفيه، وكانت الهواجس والطموحات مشرئبة لكل انفتاح وتحرر كما يحصل عند كل لحظة انعتاق بما يصاحبها من تسرع وانبهار ، تنقل الأستاذة زبيدة الورياغلي عن عبد القادر السميحي قوله:" لم تكن التقاليد الاجتماعية تأذن يومئذ باختلاط الجنسين، والسماح للمرأة المغربية بالتمثيل، فضلا عن مشكلة الحجاب وتفشي الجهل في وسط المرأة المغربية" ، فوقع له سَبْقُ قلم حين اعتبر خصوصية لباس المرأة المغربية مشكلة معيقة.

فائدة: عند حديثها وترجمتها للفقيهة خدوج الزجلي المرشانية أول مُدرسة بالقطاع العام ، تطرقت لحادثة نزاع حضانة وقعت بين أسرتين، وروت لها الحفيدة الحكاية، تقول المترجِمة:" وقد أخبرتني حفيدتها الأستاذة فائزة الشاوي بقصة نزاع حصل بين عائلتين معروفتين بالمدينة حول حضانة طفلة، فتدخل المندوب السلطاني السيد التازي في القضية، وأمر بإرسال الطفلة إلى للاخدوج لتتولى تربيتها ورعايتها والتكفل بها فرضيت العائلتان بذلك.  وقد وقفتُ على حكم صادر ضمن أحكام القاضي الفقيه العلامة محمد المرابط الترغي رحمه الله  ظننته يتعلق بنفس النازلة، ويزيل بعض لبسٍ عنها، وقد أصدر فيه حكما استئنافيا نهائيا معاكسا للحكم الابتدائي الذي ظفر به المدعي تحت عنوان" حكم عدد 50308 متعلق بطلب المدعي بسقوط حضانة المدعى عليها عن بنتها.... وتسليمها له." ومما جاء في صك الحكم النهائي الاستئنافي ما نصه:"...وحيث إن البنت المحضونة تبلغ في سنها نحو 15 سنة قضتها مع أمها، وأمها لم تتزوج مع أنها صغيرة ومرغوب فيها، إلا أنها حبست نفسها عاى هذه البنت رعاية وحفظا لها، وهي من ذوات البيوت الكريمة يأبى عليها شرفها أن تنساق لما تشهد به شهود اللفيفة المضادة. وحيث إن حكم القاضي ورد غير صحيح لعدم مناقشة اللفيفة التي اعتمدها، ولهذه الأسباب  إن محكمة الاستئناف وهي تقضي علنيا، حضوريا، انتهائيا بقبول الاستئناف وبإلغاء الحكم المستأنف... " 

على سبيل الختم: ظفرت المكتبة المغربية بنص متميز لكاتبة شغوفة بالعلم والبحث، ولعل صدور الجزء الثاني إن شاء الله سيمكن القارئ من الاطلاع على أخريات من نسوة طنجة اللواتي كان لهن حضور ونشاط في ميدان من الميادين المختلفة، ولعله يكون بادرة لكتاب جديد عن نساء تطوان العالمات والرائدات، فلو تصدت فاضلة من فاضلات تطوان لتدوين تراجم المرأة التطوانية الحديثة والمعاصرة لوقفنا على درر نادرة وفوائد ثمينة قلَّ أن نجدها في كتب الرجال. وهي دعوة لتعزيز الكتابة النسائية في مجال مغمور قـلَّما يُلفتُ إليه...  

 

د ــ محمد سعيد صمدي

المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين/ طنجة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم