صحيفة المثقف

ربيكا.. بطاقة نعي (6 و7 و8- 8)

qusay askar"الغريب في الأمر أنّ كفة الميزان انقلبت، بدت لبنان ودول أخرى هادئة وتغير البلد الآمن، عدوى الحروب مثل المرض الفتاك قد يشفى منه مريض ما غير أن جرثومة مرضه تنتقل إلى شخص آخر، هناك من ينجو لينقل مرضه لآخر، وآخر وهكذا .. . "

بعد ستة أشهر من الاجتياح الأمريكي ... صباح أحد الأيام رن جرس الهاتف وإذا بالدكتور نجم يسألني:

- أهذا أنت؟

- نعم ماذا؟

- أمتأكد من أنك أنت؟

- ماذا بك ؟

 فقهقه بصوت عال:

- كيف تموت ولاتخبرنا؟

- دكتور ماهذا الفأل!

- بعيد عنك الشر فهل أكذب أذنيّ التي سمعتك أم سمعت أخبارك من البصرة؟

- قل لي بشرفك - أيها العزيز - هل هي مزحة أم نكتة أم كذبة فهذا ليس نيسان أم لعلك حصلت بطريقة ما على شيء ما راقٍ من صنع اسكتلندا .. عهدي بك تركت الكحول. وكنت إذا شربت تكون جادا فماذا حدث لك؟

- يا دكتور البصرة تعلن موتك و لندن تقول إنك حيّ أما أنا فأصدق لندن دائما حتى لو لم أكن أسمع صوتك الآن تذكّر أني من هؤلاء الذين لا يثقون إلا بأخبار محطة ال BBC !

- هل تعرف أني لم أعرف شيئا مما قلته قط!

- يا أخي الحمد لله على أنك حي كاد والله قلبي يهبط.

- ألم تتصل بي قبل شهرين أفهمني ماذا تقصد؟

- تعرف حارس بيتي في البصرة اتصل بي ليطمإنني على البيت حالما سنحت له الفرصة بعد دخول الجيش البريطاني وهورجل أمين لم تغيره الحروب ولا المصائب. اليوم مباشرة رآى إعلانات بموتك في منطقتكم فتوجه إلى منزلك الذي يسكنه عبد الكريم فعرف أنهم علموا موتك ونعوك أمام الناس وبدؤوا من اليوم عزاءك!

-عجيب!

- هذا ماحدث بالضبطّ

- لكن لم يتصل بي أحد منذ الحرب العراقية الإيرانية ولم أعرف أرقام هواتفهم بعد الحرب وربما لم يكن لديهم هواتف!

- كان بإمكانهم أن يبحثوا عن الحارس الذي يهتم ببيتي بعد الحرب الأخيرة لأن الرجل كان يتصل بي كلما سنحت له الفرصة فيعرفوا أخبارك مني.

- الآن فهمت، أولاد عمومتي اغتنوا فرصة الفوضى والسلب والنهب .. " ضحكت بمرارة وعقبت" لاشيء غير أنهم يريدون أن يبيعوا البيت بصفتهم الورثة الشرعيين لي .

- طبعا ليس هناك من أمر آخر!

- حسنا أخبرتني.

- وماذا أنت فاعل؟

- سأتصل بك بعد ساعات دعني أتأمل الأمر!

 كانت صدمة أتلقاها بعمق الحرب والمرض الفتاك. هل يُعْقَل ذلك .. هناك شخص ما أنا أو غيري يموت في العراق ويعيش في لندن. الاسم ذاته . العمر .. الثقافة .. يموت ولا يعرف كيف مات ومتى وبأيّة أرض .. زمن اغتنام الفوضى .. الحق كنت أنتظر أن تمر بضعة شهور على الحرب الأخيرة ثم أسافر إلى البصرة التي غادرتها منذ عام 1976 . حقبة طويلة لخصتها أحداث عظيمة كبيرة ومتواصلة. ، فحلمت بعد الحرب الأخيرة أن أذهب إلى البصرة وأستعيد بعض ذكرياتي مع أقاربي ومع الدكتور نجم. أرى شكل بيتي والبستان الصغير الذي يحده من جهات ثلاث ونهرا ينسل من واجهته الخلفية إلى حيث لاأدري حتى كأني، على الرغم من أني رجل عملي لا أؤمن بالحلم، أود للشط الكبير الذي يمر قرب بيتي ألا ينتهي قط لا في الخليج ولا في البحر أو أي مكان آخر .. .

 مجرد أنه يمر ببيتي .. .

 بهذه الصورة خلت الأمر بعد الاجتياح .. زيارة تُعوِّض مافات من السنين ..

 عدت إلى الهاتف واتصلت با ابني " جمال" في الولايات المتحدة. كان يظن أني أتحدث عن شيء لايخصه: قلت له إن عمومته باعوا البيت. كدت أرى تعابير وجهه عبر الأسلاك ..

- أي بيت.

- بيتنا في البصرة.

- أووه أمازلت تذكره.

 اعترضت بانفعال أقرب منه إلى الحماس:

- لم َ لا. إنه حقي.

- يا أبي هذا شيء من الماضي قد يضرك ولاينفعك.

 يداي تلمسان برودته عبر الأسلاك وكلماته تستهلكان أذنيّ هل يتصورني أهذي، أم خالطني خرف بسبب العمر:

- أي ماض هذا؟ بيتي اشتريته من عملي في عيادتي الخاصة من راتبي في العراق.

 أشعر أن اهتمامه يتلاشى:

- أنت الآن بريطاني ولديك بيت في لندن، لا ينقصك أي شيء .. دع العراق لأهله واحمد الله على أنك تخلصت منه مثلما أعدّ نفسي محظوظا إذ وُلِدْتُ في أمريكا يا أبي .. .

- الخلاصة انت لاترى فائدة من ذلك!

- كم يساوي إزاء المخاطر في العراق عشرين ألف دولار طيب أنت عندك بيت في لندن بمئتي ألف باوند نصيحتي لك ابتعد عن كل شيء يسبب لك وجعا في الرأس.

- حسنا .. حسنا

- حين تضجر اقتطع بطاقة وتعال إلى هنا أمريكا عالم واسع إذا أعجبك الوضع ابق عندي ماتشاء ثم سافر إلى راوية لكن أن تذهب ..

 لم أستغرب لهجته، وُلِدَ بعيدا عن العراق وليس هناك مايشده إلى البلد بل يقرف مما يسمعه ويراه. وكانت رواية تتفق معه في الرأي. كادت تصرخ بي لاتذهب مع ذلك فقد كنت بحاجة إلى دقائق لأفكر. ماذا هناك؟ هناك عندي الماضي كلّه. الشباب فما علي من شاب ولد في أمريكا معظم أصدقائه يعيشون خارج العراق. قبل أن أدير القرص لأتصل بالكويت، رن الجرس، وإذا بها ابنتي راوية التي بادرتني بعبارة مترددة وهي ترد على خبر وفاتي القريب العهد:

- هل أنت متأكد من أن أبناء عمك فعلوا الأمر.

- الدكتور نجم البجاري أخ وأنت تعرفينه لايكذب ولا يبالغ، وقد رآى حارس بيته في المحلة القديمة صور نعيي على الحيطان!

- بابا أنت وماما رحمها الله عشتما في هذا البيت سنتين قبل أن ترحلا إلى الكويت الآن عندك بيت في لندن ليذهب إلى الجحيم المهم سلامتك!

كيف لها وهي المولودة في الكويت والحاصلة على شهادة من مدارس أجنبية ولم تر العراق قط أن تدرك أني لا اعني البيت بقدر ما يهمني أن أكون حيا قد أخسر بيتي وربما أبيعه بثمن بخس لكني لا أريد مدينة ولدت فيها وترعرعت ودرست وعملت أن ترثيني وأنا حي:

- هذا رأيك النهائي!

- بابا يبدو أنك شعرت بالوحدة بعد وفاة ماما وسفرنا وأود في هذه اللحظة أن أتحدجث إليك بصراحة.

 قلت بلهجة المندهش:

- ومتى كنت معك مغلقا. تعرفينني جيدا.

 لم أكن مخطئا كنت لها من قبل وبعد وفاة أمها صديقا قبل أن أكون أبا. :

- طيب أمازلت مصرا على العيش في لندن؟

- قلت لك ولأخيك إني تعبت ولن أغير سكني قط.

- حسنا مادام الأمر كذلك مارأيك بتغيير نمط حياتك؟

- ماذا تعنين بالضبط؟

هناك امرأة في الأربعين من عمرها أعرفها جيدا امرأة رائعة جميلة ارملة، تعيش في نفس منطقتنا، لا يهمها أن تعيش في كندا هنا أو مع أي شخص يقترن بها سواء في أمريكا أو أوروبا. " وأكملت وهي تكاد تنشج" نحن لانرغب أن تعيش وحدك.

 راوية التي كانت تمزح معي في حياة أمها بأنها تهجرني إلى الأبد إذا فكرت بامرأة أخرى حتى أني لم أجرؤ لحبي لها أن أتطرق إلى مسألة الزواج ولو من باب المزاح بعد أن رحلت .. . فماذا تنتظر بعد في مثل هذه السن غير أن تزورك ممرضة ثمّ تمرّ سنوات فتنتقل من بيتك إلى دار الرعاية .. بيت البصرة استفاق في ذاكرتي يخثني على أن أكتب وصيتي فاسجل بيتي في لندن باسم ولديّ البعيدين لكن ذلك لن يتم إلا بعد عودتي أنا الحي الميت من البصرة، في هذه اللحظة ذكرتني راوية إذ عرضت عليّ الزواج بعزلتي .. يبدو أني عشت حلما جميلا ظننته واقعا غير أني استفقت فوجدت أني وحدي .. قد لانجيد التعبير نحن الأطباء بحكم معاشرتنا الجسد البشري على حقيقته. لعلنا ونحن نعيش المرض بعيدون عن الرومانسية واللطف. نصادق الدم ونهادن الروائح الكريهة، نقابل حالات شاذة وأوضاعا مقرفة. تشوهات وأورام غير أني كنت أنسى تماما حين أعود إلى البيت. لم أكن أنظر لزوجتي على أنها مجموعة خلايا عصبية وأنسجة مثلما عهدته في المشفى. أو العيادة. في البيت أنسى البكتريا والجراثيم والخلايا والأنسجة أمارس عواطفي ومشاعري. كنت أوازن بين مهنتي والبيت ليتخيل إنسان ما نفسه يعيش مع الدم والعضلات والعظام. يفهم جسد الإنسان بشكل عظام ودم وجلد وبراز .. روائح كريهة .. أكزما نتانة .. كل يوم يرى ذلك المشهد. بل كل دقيقة .. دكتور انقطع الحيض عني .. دكتور أشعر بحرقة في البول. هناك طفح وحكة تحت الإبط. بواسير. بكتريا .. ثم بعد أقل من ساعة أجد أنوثة وَرِقّة .. وجمالا نقيا. علي أن أنسى البول والدم والعظام الكريهة التي تبديها الأشعة كشكل سوف تكون عليه في القبر فأرى زوجتي جميلة مفعمةبالأنوثة أعايش اللحظات الرقيقة. فاستطيب الهمسات التي أعرف أنها ذبذبات من الحبال الصوتية .. وحين رزقت بولدي ازداد من حولي عالم الجمال والرقة. ربما قبل ولادة راوية كنت أتناسى عالم المشفى وصورة الانسان القبيحة حين آوي إلى البيت. اتناسى وأعيش مع زوجتي حلما جميلا ييبقى الى اليوم التالي ثم بولادة راوية رحت أنسى عالم المشفى وأتذكر الجمال وحده .. انقلب كل شيء إلى دنيا ناعمة الملمس رقيقة الحواشي .. ربما قرأت الدموع في عينيها من خلال تهدج صوتها .. لاأشك أنها تخاف علي .. تخشى أن أقضي بقية أيامي في دار للرعاية ويبدو أن رغبتي السريعة في السفر أثارت مخاوفها فقدمت عرض الزواج .. مادمت أرفض العيش مع أحدهما فليكن .. ذلك أفضل من السفر إلى العراق، الأمر الذي لم أفكر به لولا أن شيئا ما يعود لي تصرف به غيري من دون أن أعرف .. هناك من يحاول أن يلغيني وأنا مازلت على قيد الحياة!

- أنت تعرفين موقفي من الموضوع منذ توفيت أمك رحمها الله!

- نحن نخاف عليك. ماقيمة بيت لم تره منذ أكثر من ثلاثين عاما !

- اطمئني الله هو الحافظ!

 7

"إذن هو البيت الذي بقي عالقا باسمي هناك، ولم أكن من قبل انتبهت إلى أجمة الربيكا وهي تشرئب إلى السماء ولا ترهقها موجات الحر بل كنت مغرما بها وأجهل اسمها من قبل"

 حين اشتريت بيتي الكبير على ساحل شط العرب وجدت في الحديقة الأمامية عند المدخل قبل سطر النخلات أجمة من زهور صفراء الأوراق تنبع واحدتها من عين سوداء بنية، ولم يكن يهمني اسم أجمة الورود تلك، وفي لندن قالت زوجتي تحدثني، مادمت تشتغل في الجامعة والمشفى براتب كبير فلم لا تشتري بيتا ذلك أفضل من الإيجار، فكرت في كلامها. إنه استثمار حقا للبنت والولد .. مبلغ الإيجار الشهري يمكن أن أدفعه للرهن .. فأجد أن نقودي عادت لي بعد سنوات ..

لا أقول عن نفسي لست معنيا بالنقود لكن ليس إلى حد يجعلني أفرح حين أحصل يوما ما على أعلى مورد من عيادتي أو أحزن لمورد قليل غير أن فكرة استثمار النقود للولد والبنت بشراء بيت أعجبتني دون أن نحسب - أنا وأمهما- أنهما سيرحلان ذات يوم بعيدا عنا وقد يوافيني العجز والشيخوخة فأنتقل إلى دار الرعاية أما راوية وأخوها فغاية ما يفعلانه هو أن يأتيا لتصفية أمر البيت بعد وفاتي ولربما لن يبقى لنا نحن الأبوين أي أثر في بريطانيا سوى زيارات عابرة متقطعة على مدى سنوات يقوم بها أحد الأبناء لقبرينا

هكذا جرت الأمور ..

أو بهذه الصورة لا بدّ أن تجري

ولا أظن أننا- أنا وزجتي- كنا نرغب في أن نفتح موضوع البيت في البصرة كأنه أصبح حكاية من الماضي. حرب الخليج الأولى .. حرب الكويت ظروف الحصار والخوف .. لحياة القاسية .. وماتلاها .. لقد ركناه جانبا مثل حلم جميل مر أمامأعيننا سوى أني ذات يوم بحلول الصيف وجدت زهورا في بعض الحدائق تشبه تماما أجمة الورد التي وجدتها في حديقة بيتي الأمامية ..

الأوراق نفسها ..

اللون نفسه ..

والعيون البنية السوداء التي تنتهي إليها الأوراق ..

أدركت أنها تعيش في برد الشمال وتعانق الحر عندنا .. ورأيتها تزحف سنة بعد أخرى فتتسع دائرتها .. تحتل مكانا أكبر ثم عرفت أنها تدعى " ربيكا". الحق أن زهرة ربيكا التي جهلتها في البصرة وعرفتها هنا بلندن لم تكن وحدها لتشغلني عن بيت قديم تجاهلته أو نسيته. فقد مرت أحداث كبيرة خلت أنها لن تنتهي .. أحداث مرعبة لا تجعلك تفكر بالماضي قط .. .. شاهدت مظاهرات للإنكليز والعرب تخرج، تهتف وتندد، وسمعت حوارات ونقاشا من احزاب، ورأيت السيد بلير يذهب ويجيء ويحاور .. ومن قبل تابعت السيدة تاتشر تلتقي الرئيس الأمريكي في موعد مع حرب الخليج الثانية .. كل الأمور التي حدثت وتحدث خارجة عن إرادتي لا يد لي فيها ولا أستطيع وقفها وكنت في خضم الأمور المحيطة بي أو البعيدة عني استقبل في المشفى مرضى قادمين من الخليج .. إيران .. تركيا .. الهند بروناي الصين .. وجوه وأشكال مختلفة شغلتها الأمراض عن أيّ شيء بعضهم يتحدث معي بالعربية .. الطحال .. الكبد .. لاضرورة للعمليّة .. هناك استئصال ورم .. المشفى والغرفة التي استقبل بها المرضى لا تستوعب غير المرض .. الدواء .. والعمليات .. ثم من دونما مناسبة استدعتني الأحداث .. حقا إني تجاهلت بيتي في البصرة .. . لم أفكر فيه إلا هذه اللحظة .. هو نفسه الآنيتحرك مع الأحداث. بسببه يُعلَن عن موتي وأنا لا أريد أن أعيش في مكان وأموت بآخر في الوقت نفسه .. فكرة السفر اجتاحتني .. لا أعرف أني ترددت في أمر ما سوى أن علي أن ألغي هذه المهزلة قبل فوات الأوان .. مازال الوقت مبكرا .. وهو اليوم الأول من وفاتي، الغد يضيع في الطريق، سأصل إذن في ثالث يوم للعزاء.

8

" سأسارع لأدرك نفسي في اليوم الثالث، فقد غاب عي اليوم الأول وأنا في لندن، وهرب اليوم الثاني تسلل مع الوقت، لم يبق لي إلا اليوم لأعلن عن نفسي"

فتاة رائعة داهم وجهها الجدري ..

. عروس جميلة فاتنة رش معتوهعلىوجهها ماء النار ..

 تلك هي البصرة بدت تمتد أمام عينيك منقلبة بصحرائها .. تواجهك وأنت تدخل من بوابة صفوان. صحراء مثل الرماد، وجبل سنام الذي يلوح كأنه بعير أجرب انعزل عن بعد. قد أكذب عيني لكنّي أرى أرضا محروقة وبعض حديد أسود، بقايا دبابات صدئة وعجلات أكلتها أشنات الرمال وحفرا وشظايا من مسارب مياه ضيقة.

هل أتذكر لون الشارع آخرَ عهد لي به والطريق الى نقطة التفتيش لا يطول أكثر من ساعةونصف؟ الرمل وحده ولاشيء سواه على امتداد الطريق مازال الوقت لم يقصر أو يطل أكثر من ألربعين عاما أما طلعة البصرة المتشحة بالسواد فقد راح الموت يحدق فيها من كل النواحي والجوانب فأشمّ رائحته عن يميني وشمالي. الطريق من صفوان إلى الفندق يقصر أم يطول .. هو الدرب ذاته الذي انسللت منه قبل غقود كانت معي .. وجهها وعيناها تبحران عبر النافذة إلى معالم الصحراء البعيدة وتحطان على وجهي .. تتابع جل سنام وتتحول إلى جهة أخرى. الطريق والرمل وثمة بعض الحفر وأنا وإياها ندرك تماما أننا لن نعود إلا بمعجزة ما، وها أنا عدت وحدي والطريق قد تغير .. . الصحراء اختلفت كوجه اغتاله الجدري .. .

هل كنت مخطئا حين جئت .. . رحلة مضنية لرجل في مثل سني. لو لم أحاول أن أقتنص العزاء لارتحت في الكويت يوما أو يومين. هذا هو اليوم الثالث. آخر يوم لوفاتي. إن لم أدركه فلن أستطيع العودة للحياة من جديد .. لأكن أبعث في ثالث يوم لمأتي .. الحارة أعرفها والشوارع .. كل شيء تغير. الناس. الحارات .. الوجوه .. كانت المدينة تتلوي تحت الحرب وشغلني لحظة جندي بريطاني عند جزرة صغيرة .. . كان يصوب البندقية نحو الأرض ويسير خطوات إلى الأمام والوراء .. قلق .. عيناه تنمان عن قلقه .. وتعلقت نظراتي بصور مختلفة وشعارات، فشعرت بالغبار يلفح أنفي .. رائحة أشبه بالعفن، فهممت أن أغلق النافذة قليلا على الرغم من أنني أشعر ببعض الحر، قال السائق:

- أرجوك يا أستاذ لا تغلق الزجاج

- لكنه الغبار!

- قبل اشهر عند البريد القديم بباب الزبير أطلق بعضهم النار على جنود، فقام الطيران الأمريكي بقصف البيت الذي صدرت منه النار ومن سوء الحظ أن أحد سائقي السيارات كان أغلق كل النوافذ فمات في سيارته !

 أشياء أجهلها وهم يعرفونها .. فهل قمت بمغامرة، وكلّماحولي يبدو بطعم آخر .. واستدركت ملتفتا إلى السائق:

- جاء يومه رحمة الله عليه.

 مثلما جاء يومي وأنا لا أعرفه، مسخرة هذه الحياة تموت ولاتدري، وتدري وأنت تموت ولاتموت. لم أقرأ الفلسفة، ولي اطلاع محدود على الأدب العربي، فكيف أعلل الأمر، وأكد السائق:

- أجل .. إنه الأجل!

وسكت ثم وجدتني أقول:

- ربما هذا الشخص دخل أكثر من حرب لكنه لم يمت إلا في هذا المكان.

 قال السائق:

- صدقت والله ثم بتردد: هل تسمح لي بسؤال.

- تفضل بكلّ سرور.

- لهجتك بصراوية لكن يبدو أنك تعيش بعيدا عن البصرة

 ماذا أقول له. لن أذكر لندن، والخارج. علي أن أضع أسوأ الاحتمالات، أرى الناس بشكل آخر يثير دهشتي وشكّي.

- كيف عرفت.

- لأنني جئت إليك في فندق شط العرب.

- أنا طبيب أعيش في بغداد منذ تخرجت في جامعة البصرة قبل أربعين عاما وقد استضافتني جامعة البصرة بضعة أيام فسمعت عن زميلي الذي توفي في الخارج فقلت أذهب للعزاء.

- رحمه الله.

 وتوقف عند جدول مفعم بالماء الضحل، وقال:

- دكتور العنوان على بعد أمتار .. معذرة لا أستطيع الدخول في الأزقة الضيقة .. . الحفر كثيرة تتلف العجلات، وأنت أعرف .. .

 ذلك الذي أرغب فيه إذ لو لم يفعل لأمرته أن يقف قبل أن يدخل الحارة. كنت أود ألا ألِفت النظر. السنين غيرتني ولا أظن أحدا يعرفني. لو لم تكن هناك معالم في هذه المدينة المشوّهة .. لو لم يكن هناك شط العرب .. وساحة أم البروم وشط العشار لما عرفت البصرة. لكن هل يعرف هؤلاء شكلي. الشعر اختفى جُلّه .. التجاعيد انتشرت على وجهي .. الحاجبان غزاهما الشيب واخشوشن . شعرهما .. أما كيف أعرف الوجوه، واين أجلس، تهاديت في مشيتي أتتبع الطريق الذي كنت أجتازه إلى الثانويّة. المدينة المجدورة الوجه أسلمت خطواتي إلى حارتي تلك التي كادت تغص بالناس، هذه هي محلة الجمهورية التي لاتعرفني وعلى بعد خطوات بيوت آل الداود التي ينبع من بينها صوت مقريء للقرآن:"وان ليس للإنسان إلا ماسعى وإن سعيه سوف يرى" من لندن جاء ابن الداوود يحضر مراسيم موته. هو أنا محور هذا العزاء. ميت حي . أختلط بأناس متوجهين إلى العزاء. بعضهم يتحدث وبعضهم صامت .. وآخر تلوح على وجهه ابتسامة باهتة لاشك سيخفيها قبل أن يصل ببضع خطوات .. وفي مدخل الحارة عند باب العزاء صورة لي من أيام الشباب. أيام الجامعة. تسريحة شعري الكثيف. زلفي الطويل .. وجهي النحيف .. وسامة أيام زمان .. أية سنة التقطت الصورة؟ .. وعند من كانت من أبناء عمومتي؟ .. ياللذاكرة العنيدة التي تتوهج في لحظات فتعرف منها كلّ شيء وتنطفيء في أخرى فتعاند حتى ترهق نفسك عبثا .. أسفل المنبر لافتة تنعيني، وعلى حائط تقابلني ورقة إعلان بوفاتي مثل الأوراق التي انتشرت في مداخل الحارة. دخلت وسلمت، صافحتهم وخطفت عيناي الوجوه فالتقطت بعضها وزال قلقي في أنهم لن يكشفوا سري .. لم أرد أن يعرفوني الآن كأنني في شوق أن اظل انتظر خاتمة اليوم فلا يدركني أحد ولا يعرفني أ يّ من أقربائي شخص يضع اقيّة الإخفاء على رأسه تدركه الأبصار ولا تعرف من هو .. اتخذت مجلسي في آخر الصف الذي ينتهون عنده كأني واحد منهم. أستقبل الناس وأودعهم .. .

صرت واحدا منهم ..

- سيعكم مشكور

- عظم الله أجوركم

- مأجورين.

- البقاء لله وحده.

- الغربة وحدها موت فكيف بالموت فيها.

 كان هناك شيخ يسأل:

- هل حاولتم نقل الجثمان؟

 عبد الجليل الأعمى أو ابنه يقول:

- والله بسبب الحرب غادرنا البصرة ثمّ رجعنا وللأسف ضاعت عناويننا وفقدنا عنوان المرحوم من يفكر حينها بعنوان بريدي أورقم تلفون ثم جاء الاحتلال وقبل أسبوع وصلنا الخبر من معارف ويبدو أنه دفن في مقبرة للمسلمين في بريطانييا.

ويقطع صبي من آل الداوود أحاديث المعزين حين ينتقل المايكرون إلى حيث يجلس شيخ قصير القامة اسمر الملامح فيبدأ بتلاوة آية والصلاة على النبي وآله ويترنم صوته الشجبي ذو البحة بغربة الحسين وغربة الأولين نبيّ الله يوسف .. وموسى .. وعشرات الصالحين .. أنا لست الوحيد الذي عشت في الغربة .. عاش غيري غرباء وماتوا غرباء فماذا بعدُ غير أن يعودالحاضرون إلى الحديث حالما انتهى الملا من تأبينه لي:

- والله زمان!

- تعرفون المرحوم هاجر منذ عام 1976 ونحن الآن في 2003 أكثر من ثلاثين عاما!

- هل خلّف أولادا وبنات؟

- هاجر هو وزوجته .. إلى الكويت ومنها إلى لندن يقال لديه ولد في أمريكا وولد آخر أو بنت في استراليا إيه الله أعلم.

 ويرتفع صوت من شخص يبدو أنه قريب ضاعت ملامحه مني ينفي الخبر:

- لا لا .. لا تصدقوا ذلك زوجته المرحومة ماتت ولم يخلف منها ربما تزوج من أجنبية وخلّف منها أولادا لايحملون الجنسية العراقية "توقف عن الكلام ليبلّ ريقه بجرعة ماء ثم واصل كلامه كانه يؤكد حديث من سبقه" لقد قطعت الحرب العراقية الإيرانية أخباره عنا ثم جاءت حرب الكويت والحرب الأخيرة أووه الله يرحمه!

 أنا محض تخرصات نصفي كذب والنصف الآخر حقيقة ..

 فبأي نصف أثق وبأيٍ منهما لا أحتفي .. وأيا أنفي؟

 هل يصدقني أحد؟ أم يا ترى ماذا تقوله النساء عني في مجلسهن، لعلّ الأحاديث هناك تختلف أوتتفق .. الهجرة .. الذرية .. الزواج .. لربما الخرافة حولي تكبر غدا وبعد غد لو لم آتِ وأتخذ مكاني في هذا العزاء .. اين كنتُ بالأمس في مثل هذا الوقت قبل أن تضيق شوارع البصرة فتزدحم بالمشاة .. كلباس انكمش بالغسل فضاق على صاحبه مثلي تماما نصفها حقيقة ونصفها خيال حتى كدت لا أصدق عيني .. لم تغرَّني شعلة الشعيبة التي تلوح من بعيد ولاجبل سلام العتيق الذي ينفرد في الصحراء وحده كالبعير الأجرب، أماكن كثيرة لم أزرها بَعْدُ .. سوق الهنود .. القشلة .. أم البروم .. الزبير .. البصرة القديمة .. في هذا الوقت كانت أضواء مطار لندن تتراقص أمام عيني. ألمحها من نافذة الطائرة. برد أم ضباب لكني أنعم بالدفء وصوت ناعس ينادي أيها المسافرون نرجو ربط الأحزمة .. نحن نستعد للإقلاع ... مسافة شاسعة تحشوها غيوم وشمس وظلام ونور وبحر وجبال وأرض .. كانت الأرض تطوى بين لندن والكويت والمضيفة الشقراء تسألني بابتسامة تبعث على الراحة والهدوء:

- ماذا تحب أن تتناول مع الطعام؟

 كل ذلك يجري لتقع البصرة بين يديّ، فهل أكابر لأقول إنّي في لندن أم أذعن وأصدق ما أرى وأسمع فبعيدا عن لحظة الأحلام أو الخيال، فرغ المجلس من الضيوف ذابوا في ظلام الشارع كقطرة تتلاشى في بحر، توارت الضجة ولم تعد شظايا الهمهمة والنواح تتناثر إلى أذنيّ من مجلس النساء .. وتحرك أهل المصاب ماعدا عبد الجليل الذي كانت عيناه تحلقان في الفضاء يسبقهما بياضهما الذي يبحر في السماء لم تكد لحظات تمرّ حتى تقدم عبد الكريم لا بد أن يكون هو ومعه شخص لا أعرفه ورجل ثالث شاب تشبه ملامحه ابن عمي عبد الجليل وسألني:

- معذرة يبدو أنك من أقاربنا لا تؤخذنا بجهلنا فليس السبب منك كوننا لانعرفك.

وقال عبد الكريم:

- من حضرتك تكون!

لا تحزنياعبد الكريم الرجل الذي أمامك لم يلفّ كوفية على رأسه ليخفي صلعته وليس هو عاملا هاربا من حرارة الشمس ولا بطفيلي لا يتزحزح من مكانه تأكدت تماما أنكم لم تدركوا سرّ وجهي بعد:

- أنا المرحوم!

 .. .. .. .. .

- نعم ؟

- ؟؟؟؟؟

- معقول!

- أنت؟ أنت؟

- نعم أنا هو!

  " طلب إلغاء وفاة "

السيد محافظ البصرة المحترم

إني المواطن محمود سالم الداوود أخبركم أن ماحدث من إعلان عن وفاتي من قبل أهلي وأقاربي ورد خطأ لأنني أعيش منذ فترة طويلة خارج العراق مما سبب اللبس والغلط لدى الكثيرين من أقاربي ولا غرابة فيما وقع فما جرى في البلد من أحداث جسيمة مهولة أحدث الكثير من التجاوزات عنغ ير قصد أرجو أن تلغى كل الإجراءات الرسمية والقانونية بصفتي ميتا ولكم جزيل الشكر

 المواطن المغترب

 محمود سالم الداوود. "

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم