صحيفة المثقف

عرض كتاب د. فجر جودة النعيمي ثقافة الموت.. صورة المجتمع العراقي في مرحلة ما بعد الخراب

asaad alemaraصدر للدكتور فجر جودة النعيمي التدريسي في قسم علم الاجتماع بكلية الآداب- جامعة بغداد كتابا جديدا بعنوان ثقافة الموت" صورة المجتمع العراقي في مرحلة ما بعد الخراب" وهو تشخيص اجتماعي – نفسي للمجتمع العراقي لمرحلة تعد من اخطر مراحل المجتمع العراقي، وهي مرحلة المحنة، مرحلة الوجه الآخر للتخلف، ونحن نعلم معشر السيكولوجيين والاجتماعيين أن للتخلف وجهان، وجه ظاهر سافر يلفت النظر ويستوقفه، ويتمثل في الجانب المادي وفوضويته، المتمثلة في تدهور الانتاج الوطني والصناعة، والتخطيط والتكنولوجيا والإعمار والبنية الأساسية، وهذا الوجه الذي تركز عليه خطط التنمية، لكن الأكبر والأعظم هو الوجه الآخر هو الوجه الذي تنشغل به العلوم الإنسانية: علم الاجتماع وعلم النفس وهو الإنسان نفسه، الصانع لهذه الأشياء ومحركها، أو العاجز المنخور من داخله، نفسيًا واجتماعيا، وعقليًا لينعكس ذلك على فرديته في المجتمع، ومدى فاعليته في صنع هذه الأشياء، أو تدهور قيم المجتمع، عرض الدكتور فجر جودة النعيمي في كتابه ثقافة الموت موضوعات بالغة الأهمية تضمها محاور رئيسة هي:

- سقوط الدفاعات الاخيرة لمنظومة القيم الاجتماعية في العراق

- صناعة الأصنام وعبادة الأصنام

- فوضى الرموز الثقافية

- الاحباط الاجتماعي مع إشارة خاصة للشباب العراقي

- النزعة الهروبية في الثقافة العراقية

ومن الموضوعات الفرعية: عواصف التغير، واللامعيارية، والكذب الأزرق وموضوعات أخرى، ففي عواصف التغيير، وهو التغيير القسري الذي يجتاح المجتمع ويغير سلوك الناس بلا أية ضوايط ويتطرق المؤلف أن الناس جميعا سايروا موجة التحول والتبدل لما كان هنالك تغير، فالتغير في علمنا هو التوليفه بين الفكرة ونقيضها، والتغير على ذلك هو وليد الأضداد، والأضداد في بلادنا صاروا أكثر من الرمل والحصى وأكثر من القمل والجراد، والسياسيون أكثر من هؤلاء، وهؤلاء، ومع ذلك فإن التغير شيء مرغوب فيه رغم ما يتركه من جرح غائر.

تناول الدكتور فجر جودة النعيمي في محور آخر من كتابه ثقافة الموت وهو بعنوان عندما يمرض المجتمع، ويعلق على طبيعة المرض الاجتماعي فيصفه بانه طلق ناري في مؤخرة الرأس، وهو حريق في زنزانه، أو غزو لقطيع من الوحوش على قرية نائمة على ضفاف الفجر، حالة توصل الناس أفرادًا وجماعات إلى موت مؤجل، وهو في أضيق معنى نتيجة من نتائج الخراب الذي يعقب الزلزال.ويتحدث المؤلف في موضوع "المجتمع الجثة" ويستشهد بحكمة قديمة لحكيم قوله ما الجرح الذي لا يندمل قال: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم يرده بغير قضائها، قيل فما الذي هو أشد منه، قال : وقوف الشريف على باب الدنئ، ثم لا يؤذن له. ويرى المؤلف قوله: عدد اللئام يتزايد بدرجة أن المجتمع تحول بفعل فاعل إلى عالم موبوء، بوباء أكبر من اللؤم، وأكبر من الدناءة، عالم تسيل من جوانبه البغضاء والكراهية والغش والخيانة، لقد أستطاعوا أن يحولوا المجتمع من بناء شامخ بقيم نبيلة إلى جثة باردة ماتت من سنين. ويرى أن الخراب الذي حل بالمجتمع وأفقده عذريته الأولى، لم يكن بسبب الجهل ولا التجهيل وحده، سببه انقلاب مسلح احدثه الغزاة منذ أن أطلقوا يد اللصوص والعابثين وتجار الفاحشة على مفاتن المجتمع وموارد المجتمع وفضائل المجتمع، مع أول يد أمتدت على أعمدة التلغراف، وحاضنات الأطفال، حتى حقن المجتمع بجرثومة العنف والطائفية والعرقية والمناطقية ليتحول تدريجيًا من نسيج متماسك إلى كيان مهلهل، مستهلك مأزوم ومهزوم في ان معًا.

ومن الامراض الاجتماعية التي انتشرت بشكل كبير في العراق ما بعد الخراب حيث يشخصها الدكتور فجر جودة النعيمي هي النفاق وأسماها بدورة النفاق، وفي الادبيات النفسية – الاجتماعية أن دورة النفاق ليست أمورًا خالية من المعنى، وإنما هي تفصح عن صراع انفعالي بعينه، له تاريخه ومنطقه، ويقول المؤلف أن نمذجة أمراض المجتمع وحصرها بالشواهد والأدلة ليست الطريقة المثلى لإحضار الشهود إلى المحكمة ذاتها يمكن تزييفها، ويمكن اخفاؤها، ويمكن شراؤها بمئة دولار فقط، ولكن تسويقها على طريقة الكوكا كولا هي احدى افضل الوسائل الاقتصادية نجاحًا في إغراق السوق ببضائع فاسدة وعلاقات فاسدة وذمم فاسدة بهذه الطريقة، تبدأ دورة النفاق أكبر وأخطر أمراض المجتمع.

النفاق سلعة رخيصة يمكن العثور عليها لدى السماسرة والمتجحفلين عند بوابات المرور والجنسية والجوازات والمستشفيات والتقاعد العامة والمحاكم والمدارس ولدى صغار الموظفين الذين يسرقون زمن الناس باللهو والتمارض، وكبار الموظفين الذين ينفقون نصف ساعات العمل في تهيئة لفائف التبغ الرخيصة واقداح الشاي والمكالمات الهاتفية.

تناول كتاب ثقافة الموت موضوع أساس في حياة المجتمع العراقي وهي ظاهرة فوضى الرموز الثقافية كما تبدو على واجهات وجوانب وسائل النقل العام، ويشير المؤلف إلى ان الرموز لها قانون اجتماعي ينظم استخدامها، وإلا تحولت إلى فوضى تشبه فوضى باعة الأرصفة في بغداد، أو فوضى الشعارات والرموز الكتابية على واجهات وجوانب سيارات النقل العام. والحق ان الفوضى تتعافى مع الخراب وخصوصًا فوضى الشعارات وتنحسر مع النظام وتتضاءل مع تعاظم سلطة الدولة والمجتمع.

استعرض كتاب ثقافة الموت أيضًا موضوع الإحباط الاجتماعي لدى الشباب العراقي، ويرى المؤلف أن احد أشكال الخراب ونتائجه هو حالة الإحباط الفردية والجمعية لدى الشباب في العراق وقوله: لأن الشباب أكثر شرائح المجتمع كمًا ونوعا، فإن الإحباط الذي يتهددهم يأخذ يعدًا تدميريًا أكبر عندما يتحول من حالة عابرة إلى خيبة أمل، ومن حالة مؤقتة إلى ظاهرة مستديمة ميؤوس من اصلاحها، وفي اجواء كهذه يستشعر الإحباط كاملا بمرارة تفوق التصور وتترك ندوبًا حادة في النفوس المزحومة بالقلق والخوف والانتظار. وتوقع نتائج الإحباط وما ستأؤل عليه الأمور بأعراض مثل: العدوان المباشر، اللامبالاة ، النمطية "الرتابة"، الإنحدار. وهكذا يستنتج المؤلف في نهاية كتابه ثقافة الموت بروز النزعة الهروبية في الثقافة العراقية، حيث أفرد له فصلا كاملا واستعرض بعض تلك النزعات ومنها التسرب.

 يعد هذا الكتاب نزهة علمية معرفية، كل حيثياتها من الواقع المعاش، وجدير بالذكر أن ما ورد به من معلومات هي حقائق تنكشف أثارها في حياتنا اليومية وفي سلوك كل أفراد المجتمع العراقي، المثقف، والمتعلم، والمهني، والطبيب ، وجميع شرائح المجتمع العراقي ، إنها حقًا نزهة واقعية لا يمكن أن تستثير أحد أو تجرح كبرياؤه ، أو نرجسيته، لأنه يعيشها يوميًا.

 

د. اسعد الاماره - استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم