صحيفة المثقف

بين التنازع والاندماج في تراتيل محمد علوان جبر

majeda alsaadبالاستناد الى الاحصاء، ترجح اصدارات المؤلف محمد علوان جبر (*1) هويته الادبية بوصفه قاصا (*2) وتؤكد القراءة المتأنية لمجموعاته القصصية أنه – في أغلب نصوصه - قاص محترف واع لصنعة القص، يجنح الى التجريب في نصوص كثيرة، وحين لا يفعل لا يكتب قصة كلاسيكية، بل قصة حديثة، بمعنى أنها تتمثل الحساسية الادبية الحديثة، الا نادرا. 

أما ثيمته الاساس التي تشتغل في معظم أقاصيصه فهي الحرب، ويشيع العوق بصفته افرازا لها لا سيما فقدان القدم، وهي ثيمة – فيما أرى – حساسة وزلقة، يؤدي التعامل معها الى نجاح أو فشل، ولقد نجح القاص في اقتناص وتفعيل ما هو انساني من جحيم الحرب. يمثل هذا النجاح خير تمثيل قصة (ضوء أزرق أسفل الوادي) و(ملاذات طالب العجيبة) و(تراتيل العكاز الاخير) (*3) .

المتخيل السردي لقصة تراتيل العكاز الاخير : 

امرأة يتوفى عنها زوجها معوق الحرب، بعد عام من وفاته يأتي اليها رفيق له معوق حرب أيضا طالبا منها الطرف الصناعي للزوج المتوفي، فتطلب مهلة يومين للتفكير، ولانه لم يعد، ذهبت هي اليه وأعطته الطرف الصناعي، واذا بالطرف الصناعي يقوده الى بيتها، فيعيد الرجل الطرف اليها، لكنها ترفض ملمحة الى انها لا تمانع في مجيئه كل يوم.

أولا- العنوان:

تصدرت كلمة تراتيل العنوان المكون من ثلاث كلمات: مبتدأ مضاف ومضاف اليه وصفة مما يجعل منها شبه جملة، وسنشير الى ما هو بديهي نقديا من أن العنوان لا يشترط فيه ما يشترط في الجمله ؛ فحرية العنوان لاحدود لها (*4) فقط أردنا توصيفه على المستوى النحوي الاولي . أما على المستوى الصرفي فأن مفردة تراتيل ترتيل تتكئ على وزن (تفعيل) صرفيا مما يشحن الكلمة بالطاقة الحركية للفعل على الرغم من اسميتها، واختيارمفردة تراتيل بصيغة الجمع يضفي عليها امتدادا وتعددا. يتبقى فحص المستوى الدلالي للكلمة الافتتاحية والتي قد تغري بدلالة اسلامية الطابع لشيوع ارتباط الترتيل بالقران، بيد أن الترتيل لا يرتبط بكل الديانات الابراهيمية حسب، بل وديانات أخرى موغلة في القدم من بينها ممارسة التراتيل في المعابد الفرعونية على سبيل المثال لا الحصر، مما يجعل مدلولات الكلمة تسبح بين المقدس والاسطوري كونها اشارة عتيقة لممارسات صوتية تعاقبت عليها التراكمات المختلفة.

وباضافة هذه الكلمة – التي هي وصف لفعل بشري اضافة لما علق بدلالتها مما هو مقدس واسطوري – الى العكاز يحدث أول انتهاك دلالي في النص تأسيسا للاتي من الانتهاكات .

وجاء وصف العكاز بـِ "الاخير" خال من الانتهاكات نحويا ودلاليا، لكنه أشاع تساؤلا ناعما يكاد أن يكون غير محسوس عن سبب كون العكاز أخيرا. وشكلت شبه الجملة افتقارا نحويا تروم اكتمالا في ثنايا النص.

 المبنى الحكائي: -ثانيا

الحدث الاول في المتخيل السردي هو موت الزوج، مما ينتج حالة اختلال وافتقار، بيد ان التصدي للافتقار لن يتم ببساطة الحكايا بنائيا، وسيكون مفتتح المبنى الحكائي شروع معقد لسد هذا الافتقار، كما سنرى. 

يُروى النص بالكامل من وجهة نظر احد الفواعل الاساسية وهي المرأة (تبئير مسبق)، لكن الجملة الاولى كانت بصوت الفاعل الرئيس الثاني وهو الرجل المعوق معرفا بنفسه "سيدتي ...أنا صديقه" فتقدم لنا أول جملة في النص ثلاثة فواعل :هي وهو والغائب الحاضر من خلال الضمير، وهو ضمير مهيمن أزاح كل مكونات هوية الرجل عدا صلة الصداقة التي قدم نفسه من خلالها، وانفصلت المرأة عن الرجل باسترجاع زمني عاد بها الى وقت وفاة الزوج وطقوس حزنها عليه، فهمش الغائب كلا الفاعلين الحاضرين، بيد أن أحد مظاهر قوة حضور هذا الضمير هو امتداده جسرا للاتحاد الثلاثي على نحو ما، تضافرت فيه كل عناصر السرد لردم الهوة بين حضور الرجل وغياب الزوج ليس بالازاحة، وانما بالادماج، وقد يحتمل "الإحلال" أيضا نظرا لما أتاحته الاجواء العجائبية من دلالات غير تقليدية في النص.

ولقد ساهم كل من اسناد السرد الى وجهة نظر الارملة بضمير المتكلم، الاساليب النحوية والبلاغية التي نهضت بالنص، والفواعل، وليس اخرها توظيف الخارق وفضاء النص المدهش في التفاعل مع العناصر، لتحقيق هذا الدمج وان امتدت اثار العجائبية الى أعمق من هذا. من هذا . لكننا سنتناول النص من خلال تطور الفواعل باتجاه الدمج وهم أربعة: المرأة، والرجل المعاق، والغائب الممثل بقدمه الصناعية، وفضاء القص .

(أ)- الفاعل الاول / المرأة: (*5)

 لم تُسَمَّ باسم، بيد أن السرد اُسند اليها، ومن خلال هواجس المرأة وأفعالها نستطيع رصد التطور نحو الدمج:

1- رد الفعل الاول على ظهور الرجل المعوق على باب بيتها. الفعل: فتحت الباب الى النصف .

2- رد الفعل العاطفي. الدهشة المستنكرة: "لم أتخيل يوما أن يطلب مني أحد طلبا كهذا".

3- استحضار فقدان الزوج وما علق بها من عواطف الى درجة الذهول عن الرجل: "أخرجني الصوت الحزين (..) من ذهولي"

4- تراجع الاستنكار وتقدم الدهشة الفضولية: "لا أعلم كيف عرف أن طرفا لاحد أصدقائه بحوزة أرملته، لم أستوعب الجرأة التي يتحدث بها".

5- يدفعها الفضول الى سلسلة أفعال صغيرة:

أ. "الامر الذي جعلني أفتح الباب على مصراعيه" انتقال من المواربة الى الانفتاح.

 ب. "أطلب منه أن يدخل"

ج. "جلبت له ماء"

6- الانتقال الى مرحلة المشاركة بينهما بحضور الغائب: "ضحكت من عبارته وشاركني ضحكي " ثم "حدثني"

7- حول اعطاء الرجل ساق زوجها الصناعية: " قلت له سأفكر..." أتمنى عليك أن تمرعلي خلال يومين اثنين..أجل يومين اثنين.." يستوقنا هنا (س) في سأفكر، و"أتمنى" المحيلتان الى المستقبل من جهة، والتأكيد العالي على لقاء مؤجل بصيغة التمني بدءا، والتكرار اللفظي لـ"يومين" و"أجل" و"يومين اثنين". مما يجعل هذا المقطع من الحوار عالي الدلالة، مثقلا بشدة الرغبة وبالامال أيضا .

8- حين لم يأت "حملتُ الساق الصناعية بعد أن لففتها بالشرشف الابيض الذي كنت أضعه على سريره (،،) قدمت له الطرف ":

أ. تكثف حضور الغائب من خلال تعدد الاشارات الدالة عليه: القدم والشرشف الابيض و"سريره".

ب. بادرت هي بالفعل: الذهاب الى الرجل.

ج. اعطاء الرجل مطلبه: القدم الصناعية للزوج.

9- هواجس بشأن القدم : "هل سمعني وأنا أطلب منه أن يحافظ عليه".

10- حضور ثلاثي مكثف هي والرجل والزوج الغائب من خلال اشارتين للتمني بالحاضر والماضي ومعها لفظ الاستفهام (كم) الذي يشير هنا الى شدة الرغبة : "كنت أتمنى أن أحدثه عن علاقتي بهذه الساق الصناعية، وكم تمنيت أن أخبره بأن نتفق على أن يعيدها إلي لتبقى معي ليلة في الشهر على الاقل ". وتؤشر الفقرة الاخيرة الى افتقاد وافتقار للقدم أيضا، وضمنا لصاحب القدم. سنرجئ استكمال اشارات المرأة إلى موضع أخر.

(ب)- الفاعل الثاني / الرجل: غير المسمى:

 1- من حيث الفعل،هو أول من خرق سكون الجملة الاولى التي افتتحت النص وافتتحت فعله سلسلة من الاحداث، وفيها الاشارة الاولى الى الاندماج حين اختزل تعريفه لنفسه بنسبته الى الغائب "سيدتي...أنا صديقه." 

2- تعدد أوجه الشبه بتدرجات بين (يشبه) الى (يطابق)، بأساليب التشبيه المباشرة وغير المباشرة – من وجهة نظر المرأة – بين الرجل والغائب .

- " أخرج علبة سكائر من نفس النوع التي كان يدخنها زوجي " = تطابق .

- "نفث الدخان بالطريقة ذاتها" = تطابق.

- "تلك الخرائط التي حفرها حزن كبير وغامض، وجدت فيها شبها كبيرابينه وبين وجه زوجي" = تشابه كبير.

- "عبر كلمات كان يخرجها بصعوبة كما كان يفعل زوجي حينما يكون حزينا" = تشابه.-

3- كانت هويته حتى الان انتسابا الى الغائب في مفتتح النص، ويشبهه حد التطابق، لكنه أيضا لا ينفرد بـِ "أناهُ" في أي مرحلة من النص، تندمج أناه بضمير الجمع "نا" المتصل بأغلب الحوار المنسوب اليه "أطرافنا، أصدقاؤنا، كنا نتطاير قبل أذرعنا وسيقاننا"، وفي حالة الجمع ينسب الغائب اليه "زوجك كان واحدا منا"، دلالات دمج جماعي للمفعول بهم، لرجال انتهكت الحرب أجسادهم تمترسوا بضمير الجمع المتصل "نا"، وأزعم أن عدم تسميته آزرت هذا الدمج.

-4- يتحقق الدمج بالزوج الغائب من خلال ساقه " أن أجرب الساق، (...) كان مناسبا بشكل غريب (..) كم كانت الساق ملائمة، كأنها مصنوعة من أجلي .. ساق سلسة ومناسبة تماما " لا تحتاج الاشارات المتكررة سوى أنها بلاغيا توكيد مشدد.

-5- الانصياع لرغبات ساق الزوج، وسنقف عندها مجددا في موضع اخر.

- (ج)- الفاعل الثالث / فضاء النص:

للفضاء وظيفة بنائية ذات أهمية قصوى في هذا النص. فمن حيث المبدأ كل عناصر السرد فاعلة على نحو ما، لكن على وجه التخصيص قام الفضاء القصصي في هذا النص بفعل ينصبه فاعلا بامتياز، سنتحقق من ذلك.

لكل من الفاعلين الرئيسين فضاؤه الخاص، كل الاشارات حول فضاء المرأة تتراكم لتفيد أنه ذاتي ثابت واقعي مغلق لكنه يمتلك آلية الفتح ؛ فهو المكان الذي تمارس فيه طقوس حزنها، وهو الحديقة المهملة بعد فقدان الزوج، وهو المكان المسيطَر - بفتح الطاء - على مدخله "بمحاذاة الباب الذي فتحته الى النصف" و"جعلني أفتح الباب على مصراعيه".

يقابل هذا الفضاء الراسخ للمرأة فضاء الرجل، والذي تتراكم الاشارات فيه على نحو مغاير من خلال نقلها لنص قوله "سيدتي أنا أدير مقهى صغيرة هناك .. وأشار بإصبعه ناحية مكان ما، مقهى صغيرة تحت ظلال شجرة سدرعملاقة، تماما تحت اليافطة التي كانت تحمل اسم المكان الذي كنا نستلم منه أطرافنا الصناعية ". تحيل "هناك" و"مكان ما " الى الهامش، تؤكد هامشيتها فقدان اليافطة لمدلولها . لو كان هذا كل شيء حول فضاء الرجل لرصدنا ببساطة الاختلافات بين الفضاءين، أحدهما مغلق وآمن وثابت وتقليدي، والاخرهامشي ومفتوح ومتحد مع الطبيعة ومرتبط بالاطراف الصناعية وبالتالي بالحرب أو الحروب، وستكون مقابلة منطقية بين الفضاءين. لكن تتالي الاشارات بصيغ معينة تسبب بانتهاكات على مستوى الحدث والفعل والفاعلين، لتوجههم جميعا باتجاه تغذية اتجاه معين . تبدأ – لا بتتالي اشارات - بل بتحول ضمير [هو] الى [نا] و[نحن] واندغام الفرد في ضمير الجمع! وبعد "سيدتي أنا أدير مقهى" الى: "نكوم السيقان والاذرع الصناعية تحت الشجرة .. نعرضها تحت الضوء، نجلس حولها نحدثها وتحدثنا .. ربما كان بعضنا يسمع البعض الاخر .. أقول ربما ..(...) صدقيني نكاد نشم رائحة الدخان الذي يتصاعد من الاماكن التي تتزلزل فيها الارض، وكيف كنا نتطاير قبل أذرعنا وسيقاننا " حتى هذا السطرالذي تبتعد فيها الشقة بين الفضاءين وتحول ضمير المفرد الى جمع نستطيع توزيع الفروقات الى فضاء معوقي الحرب مقابل فضاء الجبهة المدنية، فضاءان متكاملان وحتى متساويان من حيث المساحة لا سيما أن ما تقدم كاف في نص قصير. لولا اختلاف وزيادة وتوسع في عرض فضاء الرجل، واختلاف صيغة العرض يبدأ بايجاز وتفصيل ينتهكا واقعية الاحداث ويحيلا النص برمته الى العجائبي؛ "ثم حدثني عن حمامات بيض تطير حول تلك الشجرة العملاقة.." .(*6)

هكذا أجملت حديثه، ثم قدمته كما هومفصلا عن لسانه: "بعض النسوة و"نشاركهن في بعض ما يعتقدن" .. لديهن يقين قاطع أن الشجرة مقدسة ... إنها شجرة سدر عملاقة .. لم تفارقها الحمامات وهي تهدل .. (...) تنبعث رائحة نعرفها، تخترقنا بسرعة ونبقى طوال ساعات ونحن نعب من تلك الرائحة التي تقودنا الى أماكن قصية .. (..) رائحة لا تشبهها رائحة أخرى ."

بهذا الإيجاز الذي أعقبه التفصيل – وهي صيغة بلاغية - تحول الفضاء من الواقعي الى الخارق والمقدس امتدادا نسغيا لايحاءات العنوان، وللفضاء الذي هدلت فيه حمامات بيض، ومن الشائع دلالة الحمام الابيض على النجاة والسلام تقليديا ودينيا واسطوريا. وقد أضاف اختراق كل منهما لفضاء الاخر تعقيدا ودفعا لتطورات لاحقة . نود هنا التذكير بأن اختراق الرجل والمرأة كل منهما لفضاء الاخر كان تناوبيا ؛ بدءاً اخترق الرجل فضاء المرأة طالبا الساق، تذهب المرأة الى فضائه وتعطيه الساق.

الاختراق الاخير: "أغلقتُ الباب واتجهتُ الى غرفتي" كان هذا الانكفاء عقب العودة من فضاء الرجل الى فضائها المغلق" تمددتُ على السريروأذناي تلتقطان أصوات هديل حمامات وخفق أجنحتها وهي تقترب من شباك غرفتي ثم تخترقه بسهولة لتحط قريبا مني، وبعضها يحط على جسدي، وثمة رائحة غريبة تنبعث من الحديقة." سنلوح بالدلالات النفسية لهذا الحدث من غير استثمارها لانه لم يكن مقتربنا للنص ابتداءً.

ثم تفاجئا هذه الجملة "مر وقت أحسسته مقيتا" التي قد تثير التباسا عما اذا كان اختراق فضاء الرجل فضاءها مقيتا؟! سرعان ما يتحدد مدلول هذه العبارة بما يعقبها: "لأجد نفسي محاصرة بالرائحة ذاتها مرة أخرى، الرائحة التي كانت تنبعث من شجرة السدر العملاقة، وبغابة من السيقان..الخ " فيتضح أن (الوقت المقيت) ما هو الا وقت انقطعت فيه الرائحة، يؤكد هذا المدلول ما سيليه من أقوال الرجل ؛ سنتوقف هنا مرجئين تفاعل العناصر الى حين.

(د)- الفاعل الاول والاخير: الساق/الطرف /العكاز.

انه محور القص ونسغه، يتمدد من العنوان الى الافتقار الاول ثم الى لحظة الاضاءة الاخيرة، اذا ما افترضنا انها لحظة اضاءة كاملة. ويتكرر كثيرا موصوفا ومتحررا من الصفة ومترادفاته التقريبية (*7): الساق الصناعية، الطرف الصناعي، الساق معرفة ومتحررة، الصفة، أطراف صناعية، ألاطراف. متكئة على ضمير المفرد والجمع أو مستقلة بـِ "أل" التعريف، منتسبا للحاضر كما للغائب ؛ لكن منعا للتشتت والإفتعال، ورصدا لفاعليتها، سألاحق الاشارات الخاصة بالساق الصناعية الخاصة بالزوج المتوفي (الغائب) والتي بلغت ثماني عشرة مرة في النص، مقيدة بصفة الصناعي ومتحررة منها .

في الفقرة التي تصدرت النص "يطلب مني أن أمنحه الساق الصناعية، أن أعطيه الطرف الصناعي لزوجي " جاءت " الساق الصناعية" للاخبار، و"الطرف الصناعي" للتوكيد؟ لكن في الفقرة الثانية مباشرة: "تذكرت اللحظة التي نزعت فيها الساق اليسرى من الجسد المسجى".

تتحرر هنا "الساق" من النعت المقيد المحيل الى الواقعي، وتعمل سرا على انتهاك المنطق وتوطئ للخارق.(*8) لانها تنفتح على تأويلات مفتوحة أقربها أن الساق حرفيا ودلاليا جزء من الجسد.

كذلك شكلت الساق حافزا للفعل ورد الفعل منذ السطر الاول واستطيع أن أوصِّف (بالشدة على الصاد) هذا التحفيز للاحداث بتوصيف النحو "التنازع" حيث يتقدم عاملان ويتأخر عنهما المعمول فينازعانه، وهنا يتقدم الساق فيتنازعه الفاعلان: يطلب الساق، تتردد، لا يعود، تذهب تعطيه الساق التي سرعان ما تفتقر اليها . لكننا لم نفردها بوصفها متنازعا عليه ومحركا للاحداث، انما لتحولها من متنازع

عليه (محفزا للافعال) الى فاعل يقود الفاعل الاساسي الى الفعل الاخير، ويساند هذا الفعل ما سبق من فعل الفضاء المتحرك والمخترق الذي أشرنا اليه في حينه، في تشكيل المشهد الختامي للنص ؛ اذ لم يتطابق " الطرف" مع الرجل حسب، بل ضغط عليه ليختار طرقه، "تركت الأمر ليقودني، قادني دون تدخل مني سيدتي، بسهولة في الحواري والأزقة القريبة من بيتك هذا .. ولم أفطن إلا وأنا أقف قبالة البيت " .

وسنجمع ما أرجأناه سابقا – لغرض الترابط - لنرصد أضافة الى الاندماج العضوي بين الرجل والساق، تطابق فعل الرجل مع الغائب حين قام باستئناف فعله ؛ تنظيف الحديقة المهملة . وينبغي علينا الان التأكيد على أن تحول كلا من الفضاء والقدم الى فاعلين هو ايذانا بتحول النص الى العجائبي.

النهاية؛ أو اجتماع الفواعل على الفعل الاخير:

نعلم جميعا أن نهاية أي نص ضرورية للاكتمال واقتراحات تأويلية مفتوحة له . بيد أننا نعلم أيضا أن بنية القصة القصيرة ترتكز بنيويا على النهاية ؛ تضيء النص مقترحة مدلولات أولى وربما ثانية أو أكثر. وأقول تبعا لدراسات كثيرة، أن انفتاح أي نص على تأويلات متعددة وغير موثوقة تنتمي الى القصة الحديثة بلا ريب . وعلى كل ما سبق من تراكم لاشارات الاندماج، والتي سيحسم أمرها بمقتربات نفسية منذ حط الحمام على جسدها، إضافة الى كل ما تراكم من تطابقات تعبيرية وفعلية بين الرجل الحاضر والمتوفي الغائب، تلك التي تحسم الدمج بين المرأة والرجل، بما يمثله من شريحة نحن المقاتلون معوقو الحرب، تؤيده - أعني الاندماج - الاسئلة والفعل والقول والمستجدات من الدوافع، التي بدرت عن المرأة في المقطع الختامي، سأنقله كاملا للضرورة:

لان الساق تقود الرجل الى بيت المرأة يقول لها " قررت سيدتي أن أعيد إليك طرف زوجك."

بعد أن أنهى كلامه ساد بيننا سكون لم يقطعه سوى صوت تنفسه،أحسست أنه يتنفس بعمق وسرعة، وقبل أن يواصل الكلام قاطعته بلهجة هي مزيج من القسوة والحنان .. لهجة امرة فيها الكثير من الود الذي دهمني وأنا أشم الرائحة الغريبة تهيمن على حواسي مرة أخرى..

وما الضير في أن يقودك الطرف كل يوم إلى بيتي!!

نهضت من مكاني وأنا أساعده على ارتداء الطرف .. ترك العكاز في مكان جلوسه .. ولا أعلم هل سمعني وأنا أعيد عليه عبارتي ....

"ما الضير في أن يقودك الطرف الى بيتي كل يوم!!"

لانه سرعان ما فتح الباب واختفى في الظلام .

كانت القدم في مفتتح النص مجرد قدم صناعية كان الغائب "يتعكز" عليها لها دلالات واقعية محض، سرعان ما تم تحويلها الى استعارية بمصطلح البلاغة الدقيق، استعارة مكانية، بيد انها تقبع في حدود التشابه الى أن تقوم القدم بفعل القيادة فتغادر لغة البلاغة الى بلاغة الحلم الإندماجية (*9) مكثفة بذلك هوية النص العجائبي الذي بثه المكان – الفضاء – أولا، منتقلة بالحدث الى منطقة أبعد، متاخمة للنهاية، التي اقتبسناها كاملة هنا .

كذلك تتطور أفعال الرجل والمرأة ؛ فالرجل الذي كان حزينا وغائما وانهزاميا - سريع الاستسلام – يأتي ليعيد القدم (وهذا بلغة القص تجميد للنص على ما بدأ به) الا ان تنفسه يقطع السكون، يتنفس بعمق وسرعة - سنلمح الى انها أفعال لا ارادية أي انها على حواف الفعل ؛ وانها تبث اشارات انفعالية يعقبها قبوله بمساعدتها لارتدائه، أي قبول الدمج مع القدم تاركا عكازه بتحريض من المرأة – حواء .

أما المرأة الرائية - النص كتب من وجهة نظرها - المحركة للحدث فور سكونه – ذهابها للرجل واعطاؤه الساق – هيمنت أفعالها الدافعة للحدث على النهاية: "قاطعته" - وهو تفاعل من طرف القائل - الى "الود"، ثم أعقبتها بصلة الوصل الاكثر تفعيلا " الذي دهمني" والدلالة للفظ الدهم ضمن هذا السياق تجبرنا على تفعيلها الى اقصى مدى مناقضين توصيفها النحوي (*10)، و"أشم" محيلة مرة أخيرة الى فضاء تجاوز وظيفته يدعم تأثيره الفعل "تهيمن".

تعقبها جملة استفهام زائفة - لا تستفهم – "ما الضير في أن يقودك الطرف كل يوم الى بيتي!!" منفردة في فضاء السطروحيدة من غير محددات ؛ لا تسبقها الشارحة (-) فتخرج عن اسلوب الحوار، نافية إياه ضمنيا، وتنتهي بغيرعلامة الاستفهام التقليدية بل بعلامتي دهشة (!!) مما يحيل العبارة الى استفهام استنكاري يفيد التوكيد. يتطور فعل سابق له بإعطائه الطرف، الى مساعدته على ارتدائه. ثم استفهام أخر يخرج عن نحويته باتجاه بلاغة تحيك القلق في قولها " ولا أعلم هل سمعني وأنا أعيد عليه عبارتي..." ثم تكرر: "ما الضير في أن يقودك الطرف الى بيتي كل يوم!!". هذا استفهام اخر بنفس الكلمات لكن بترتيب مختلف: محدد، منصص، وبتقديم للبيت على الزمن بما يترتب عليه من تأويلات !

ان استخدام صيغة السؤال من غير استفسار صيغة للتوكيد، أما تكرارها منصصة فإنها تضاعف التوكيد مثل خطوط حمر تحتها. وتغيير طفيف بعكس الاسبقية من الزمان "كل يوم" الى توكيد المكان "الى بيتي" من المتحول الى الثابت . اذا دعمنا كل ما سبق بتأويل الجملة الاخيرة فرويديا سيكتمل النص بلحظة التنوير وببرقية: تم الدمج . لكن:

اذا ما زاحمنا هذا التأويل، اخذين بمؤشرين: الاختفاء والظلام كتتمة لنكوص أفعال الرجل أثناء تتاليها في النص، ندعمها بالتساؤل المؤول بالقلق "ولا اعلم هل سمعني (....)" تترك مجالا لتأويلٍ متشائم حول عجز الرجل / الرجال (معوقي الحروب) عن الاستجابة الى الحياة ؛ أم نرتكن الى أن القدم الخارقة ستعود به؟ نعم، هنا حصاد العنوان "العكاز الاخير" لقد ترك العكاز واندمج كليا، ومع هذا، أميل عند كل تأويل أن أجعله ترجيحا، حتى ينفتح أفق النص لاحتمالات أخرى.

كلمة أخيرة: إن تلخيص أقصى للقصة من خلال جملة فعلية مفيدة (ترتبط أرملة برفيق زوجها) يحيلنا الى الانزياح الدلالي الحاد عما يلتصق بهذه الثيمة لو تم تناولها في قصة تقليدية تحتكم الى ما هو أخلاقي واجتماعي، والارتقاء بها نصا أدبيا ثريا.

 

د. ماجدة السعد

.................

ألهوامش:

1. صدر للمؤلف أربع مجموعات قصصية هي على التوالي: تماثيل تمضي تماثيل تعود، تفاحة سقراط، شرق بعيد، تراتيل العكاز الاخير ورواية ذاكرة أرانجا .

2. لا يحق لي تقويمه روائيا اذ لم أقرأ روايته بعد.

3. في مجموعته الاخيرة تراتيل العكاز الاخير.

4. قد تأتي كلمة أو شبه جملة او جملة او جمل أو حرف لامعنى له وحتى رقم أو سنة.

5. هذا ترتيب ارتأيناه يناسب عرض علائق الحبكة على أفضل وجه، ولا تشير الى تراتبية متعلقة بأهمية الفعل.

6. من المهيمنات الاسلوبية والدلالية للكاتب في مجموعاته القصصية شيوع الوان الحرب، الظلمة والاسود والرصاصي والرمادي والالوان الكابية والباهتة، حتى أنه يقيد لفظ الضوء في نصوص كثيرة بنعوت تفقده ما قد يوحي به من مدلول ايجابي، وقد وصف الفجر بـِ "الرصاصي" في أحدى أقاصيصه.

7. لا أومن بالترادف، فلكل كلمة ظلال حساسة من المعنى تجعلها مثل البصمة ترفض التطابق.

8. لو بدأ القاص نصه بهذه الجملة لاحالت القارئ الى قصص الرعب، وحسنا فعل أنه لم يبدأ بها.

9. الادماج أحد أهم اليات الحلم في علم النفس الفرويدي.

10. صلة الموصول لا محل لها من الاعراب.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم