صحيفة المثقف

لا بد أن أكون معهم

qusay askar- لقد تحررت أخيرا.

- الطلاق!

- بعد سنتين أهذا معقول!

العنوان غير العنوان والبيت غير البيت، بدت سعيدة لا تكاد الأرض تسع خطوتها وما كان يحدث قبل أربع سنوات يمكن أن يعيد صورته من جديد.صباح ذلك اليوم حيث انصرمت ستّ سنوات.. كان يوما غير عاديّ.في الساعة التاسعة، قبل أن أتناول فطوري رنّ في أذنيّ صرير الهاتف النقّال.. مكالمة عاجلة ... صرير يكاد يذوب مع أزيز الحفار المعدنيّ الضخم الذي انغرز في صدر الرصيف المقابل لغرفتي، في هذه اللحظة فقط تذكرت أنها نطقت تلك العبارة التي كشفت المستور. أمّا كلّ شيء داخل المطبخ فكان مبعثرا .كرسي فقد إحدى أرجله ..كؤوس تهشمت.فوضى عارمة، خدش على الحائط من اصطدام شيء ما أقف أمام كتاب مشوش السطور، والدهشة تبتلعني، فعلى الرغم من علاقتي بسوزان وزوجها، فإنّها كتمت عنّي بعض الأسرار، وبعد أن هدأت روحها القلقة أخبرتني أنّ للبيوت اسرارا وما كان يمكنها أن تذكر لي أدقّ التفاصيل.

هذا ماكنت أسمعه منها بعد مضي سنتين على قدومها إلى بريطانيا وبيني وبينها زجاج صلب. لغة أشبه بالاعتذار، ولم أك لأشك فيها قطّ، غير أنّ رائحة غريبة فاحت من المطبخ فضحت كلّ شيء مستور منذ ستّ سنوات، في ذلك اليوم وقبل وقوع الجريمة بسنوات زارني عادل في مركز الترجمة قال كلمات مقتضبة وضعني أمام سرّ جديد لم يبح به:

إنّها حامل وهذا ينقض الاتفاق!

أترى أنّها تعجّلت الحمل؟

بالتأكيد سوف تتصل بك.

اتفاق...ضمانات...أمور واضحة غامضة لاأفهمها، رائحة الموت كادت تشي بي كوني أعرف عنها الشيء الكثير.من الدائرة الجنائية عرفت الخبر هذا الصباح.سوزان الفتاة القروية الطيبة القادمة قبل سنوات إلى مدينة الضباب غرزت في صدر زوجها سكينا حادة.

بعد ساعة من قدومه اتصلت بي واتفقنا على موعد الزيارة..كنت أحمل عنوانا آخر .قضيّة غريبة صادفتني مثلها قضايا أغرب لكنّها أكثر وضوحا.كانت صامتة لاتتكلّم، وفي بالي أنّ صمتها لن يطول، وعليّ الآن بعدما وقع المحظور الاهتمام على الأقلّ بولديها الصبيين وابنتها ذات الثلاثة أعوام!

سأحاول مرّة أخرى، وأظنّ أنّها سوف تهدأ بعد أن يزورها المحامي!

قلت ذلك للشرطيّ، وغادرت المكان قبل أن تخطر ببالي فكرة زيارة زوجها الأوّل لعلني على الأقلّ ألتمس في بعض أقواله مايمكن أن يخفف عنها الحكم.

الملف يذكر أنّي التقيتها قبل ست سنوات كنت أعمل مترجمة معتمدة في شؤون اللاجئين ودائرة الأجانب.هناك وقعت عيناي على فتاة في العشرين من عمرها قدمت مع زوجها قبل بضعة أيّام من العراق، لكني اليوم فقط سمعت عن جريمة القتل .الشرطة الجنائيّة وحدها واجهت رائحة غريبة تكاد تفضح حكايتها وتشي بالكثيرين ومن ضمنهم أناثمّ اتصلوا بي وناقشوا معي بعض الأسئلة التي تعود للملف الأوّل حين انتدِبتُ مترجمة لها.

- ألم تخبرك بخصوصيات وتفاصيل جزئيّة؟

- مثل ماذا؟

- طريقة قدومها إلى بريطانيا؟

- أبدا؟

- هل زرتها في منزل زوجها الحقيقيّ؟

- تقصد الثاني؟

كان علي أن أتحاشى أكثر الأسئلة الحساسة كي لاأقع في الفخ، فأواجه تهمة إخفاء معلومات وخيانة واجب.التهمة وجهت إلى زوجها الثاني الذي اختفى مع ولديه في ظروف غامضة، فبدوت كمن يسير في حقل مليء بالألغام:

يمكنكم الرجوع إلى ملف البلدية الأول!

ربما أتذكر اللقاء الأوّل.كانت تجلس في دائرة شؤون الأجانب جنب زوجها خجلة مرتبكة.كان يبعد عنها كأنّه غريب .شاب وسيم في الثلاثين من عمره لا أتذكر أنّي رأيته من قبل.تعليمات شكلية إجرآت رسمية.طلب منّي الإثنان أن أظلّ مترجمة معها في كلّ الأحوال. أصحبها إلى الطبيب أو دائرة الهجرة، قلت لها إنّ دهشتها سوف تزول بمرور الأيّام، وأنّ ماتراه فاضحا وغير مستور في هذه البلاد يمكن أن تعتاد عليه في المستقبل، وحين ترزق ببنين وبنات قد لاتستغرب إن وجدتهم يمارسون ذات يوم ماتراه من مشاهد معيبة، وشيئا فشيئا كانت علاقتي بها تتوطد حتّى عرفت سرّها الأخير، وكيفية قدومها إلى بريطانيا.

كنت في هذه اللحظة أرد الغطاء الأبيض على وجهها وأواجه المحقق الذي ظنّ أنّ لديّ معلومات جديدة يمكن أن يستفيد منها!

مع ذلك كنت أذهب إليها في بيت زوجها.لا اقصد الزوج الرسمي، فقد قلت للمحقق أنّ الصدمة وقعت شديدة على زوجها الثاني الذي رزق منها بطفلين، ولو أنّ التحقيق انتبه منذ البداية إلى اللعبة لأخضع أحد ولديها إلى فحص الجينات فعرف أنّهما ليسا من زوجها الرسمي الذي قدمت معه، وبفضله تمتعت بحق المواطنة.

عادل زوجها الأوّل اعترف لي بعد الزواج أنّها مسألة دقيقة للغاية.هو ليس غريبا عن زوجها الثاني، ولولا القرابة البعيدة من ناحية الأمهات والآباء لما اندفع في عمل المعروف كما يطلق عليه.قال إنّه يخشى من أن يموت قبل أن تنصرم السنتان فترثه.لديه بيت ملك وبعض المال مودع في البنك.هذه المعلومات لم يكن بإمكاني أن أعرفها لو كنت مترجمة من غير بلد أو من قومية أخرى.كانت علاقتي بهم وزياراتي للعائلة سببا في معرفة سرّهم، وفي اليوم الذي استدعاني فيه عادل وابدى تخوّفه، أخبرني زوج سوزان الأوّل أنّه لو حدث شيء ما خلال السنتين لسارعوا بدفع ماترثه إلى عائلته في العراق.الإثنان أقرّا بفضله عليهما، وكانت تؤكد أنّ زوجها يمكنه الآن أن يحصل على الجنسية.قاطعتها:

أما كان بمقدورها أن تصبر على الاولاد حتى يتم الطلاق من عادل؟

قالت إنّها حاولت لكنّ خطأ حدث في تناول حبوب منع الحمل، ولم يكن بإمكانها أن تدعي وهي في عهدة زوج أن الحمل من صديق، لكنّ عادل بعد انتهاء السنتين والطلاق باع البيت وسحب ودائعه من البنك، وادعى أنّ اكتشف خيانة زوجته مؤخرا وهو يشكّ بالأولاد ليعرض الأمر على الفحص الطبيّ ومن ثمّ لتسقط أبوته للولدين!

حدث ذلك بعد حصولها على الإقامة مباشرة.

خيانة زوجيّة! الزوج مغفّل طوال عامين، أمّا الصحف ووسائل الإعلام فما كان لها أن تدرك الفضيحة!

وبقي الأمر محصورا بيننا نحن الثلاث.مازلت أتذكر كلمتها لقد تحررت ويمكنني الآن أن أعيش مع نادر.

قال لي شرطيّ التحقيق:

- ألم تلحظي أمرا ما على العائلة خلال زياراتك المتكررة؟

- مثل ماذا؟

- أقصد قضية الخيانة؟

- لاأبدا سوزان جاءت مع زوجها ثمّ خانته وتزوجت آخر يبدو أنها تعلقت به ثمّ تركته لتعود إلى زوجها الأول بصفة صديقة هذه المرّة.

- ألم تري زوجها الثاني يزور زوجها الأول؟

- لا؟أبدا!

- هل هما من مدينة واحدة؟

- لاأعرف!

- هل حكت لك عن زوجها خلال مصاحبتك لها وأنت في طريقك معها إلى الطبيب أو في البيت؟

أما في البيت فلها حكاية أخرى.

كانت تقول إنّها لم تعرفه من قبل.سمعت من أمها في القرية أنّ زائرا من بريطانيا جاء إلى العراق يبحث عن زوجة.هناك لم تعجبه هؤلاء الفتيات المتبرجات اللائي يبهرن الرجل بجمالهنّ، ومن دواخلهنّ تنبع العفونة.رأته فوافقت دونما تردد، وفي القرية تناقلت الفتيات الخبر عن حظّ سوزان السعيد الذي طار بها على جنحيه إلى بلد بعيد يدعى بريطانيا، وذلك هو الخبر الذي دونته سجلات شؤون الأجانب:

- الزوج عادل عبد الرحيم بريطانيّ الجنسيّة.الأصل عراقيّ.

- الزوجه سوزان عليّ.العراق!

هذه المرّة بعد أن وثقت بي، وقبل أن تنطق عبارتها:أخيرا لقد تحررت، تحدثت لي بالتفصيل.من المحال عليّ أن أزورها في بيت عادل زوجها، وكان من حسن الحظ أن انتدبت إليها لأرافقها عند الحاجة.وربما من الصعب أن يثق لاجيء جديد أو أيّ قادم بمترجم لايعرفه.كانوا يظنون المترجمات والمترجمين جواسيس للسلطات البريطانية، ولم تدعني سوزان إلى زيارتها إلاّ بعد مضي ستة اشهر من قدومها، وقبل أن يفضي إلي عادل عن مخاوفه على الميراث.

ألا ترى أنّ كثيرا من نساء في بلادنا يتمردن بعد قدومهنّ وسوزان ليست استثناء.

قلت ذلك وأنا أتطلّع في عيني المحقق.مهما يكن من أمر فليس بوسعي أن أقول كلّ شيء.كان بإمكاني أن أسرد تفاصيل الحادث فأقول إنّ نادر قدم متخفيا من العراق بجواز سفر مزوّر لكنّ السلطات البريطانية لم تقتنع بقصته.تركوه وشأنه من دون إقامة أو سكن.هذا ماعرفته بعد ستة أشهر.كان يشتغل في المطاعم ومحلات الخضرة ويسكن في بيت متواضع، لقد تزوّج سوزان في العراق عن حبّ كثيرا ماحدثني كلاهما عن قريتهما وقصة حبهما الأولى، ومعرفة كلّ منهما الآخر، وعلاقتهما بقريبهما البعيد عادل الذي رآه نادر أكثر من مرّة قبل أن يهاجر إلى بريطانيا ويستقرّ ويتخلّص من مشاكل العراق.كان يحدّث سوزان عن الخلاص وفي الهجرة الفرج.هنا اللجوء والأمل والنقود، وبعد تمنّع وتردد وافقت، على أن يستدعيها حالما يحصل على الإقامةّ.

غير أنّ الحلم الأوّل والأخير اندثر.

تلاشى في الضباب.

لم ينظرا إليّ بصفتي جاسوسة أنقل الأخبار إلى السلطات البريطانيّة.هنا كان عادل ذو الجنسية البريطانيّة، صاحب محل بيع لستائر يمثّل الرحمة التي سقطت من السماء.لامجال أمام نادر إلاّ أن يستعين به ليعقد على سوزان في العراق بايّة وسيلة كانت.لوجه الله..قريبي وابن مدينتي.أمّي وأمه قريبتان ..كذلك ابوانا، وكلّ ماينفقه في رحلته من تكاليف سوف يحصل عليها.سنتان فقط ثمّ يطلقها عندها تكون حصلت على حقّ الإقامة فتتزوّج نادر من جديد!

كانت تعيش هي ونادر في سكنه المتواضع، ويمارسان حياتهما الزوجيّة المعتادة!

وانقضت السنتان لم يعكرهما سوى حدوث الحمل.كان عادل خائفا من قضية الميراث التي واجهني بها، اقترح الزج بأمر الخيانة الزوجية ليتخلص من المولودين اللذين يفترض أن يكون أبا لهما ثمّ تنتهي إجراءات الطلاق على عجل، وتتزوّج سوزان من زوجها القديم الجديد!

أشبه بحلم أو كابوس...أما أنا فقد دعيت إلى حفل الزفاف.إقتنعت أنّ الامر انتهى عند هذا الحدّ.رزقت سوزان بطفلة ثمّ قلّت زيارتي لهم لكن علاقتنا بقيت أقوى ممّا هي عليه، ولعلّ أيّ شيء لايفاجؤني بحكم عملي والمشاكل التي عايشتها ماعدا قضية القتل؟

- آخر مرة اجتمعت مع سوزان؟

- قبل شهر تقريبا؟

- هل شكت لك من شيء؟

- أظنّ أنّها حدّثتني عن مشاكل بينها وبين زوجها، ثمّ لاتنس أنّها لم تعد تعتمد عليّ بعد.

- هذا فقط؟

- ليس أكثر من ذلك.

كان أمرا غير عادي.مكالمة قلقة.وعدتها أني أكون عندها بعد دقائق.ولم يغب عنّي أنها لم تعد بحاجة إليّ في كثير من المشاهد لأنّها تعلمت اللغة وتستطيع التفاهم مع الإنكليز بشكل جيد، لكنها كانت تستشيرني في كثير من الأمور، وتستدعيني في اعياد ميلاد أولادها.

ذكرت أنّ نادر تغير.وكان حديثها عنه يفوح بالمرارة والاحتقار.قالت إنّها قدمت بفضل عادل، وبفضلها حصل نادر على الإقامة والعمل، وهو الآن يتنكّر لكلّ فضل.بدأ يدمن على الخمر ويرتاد المراقص، بل تجاوز ت وقاحته إلى حدّ ضربها...ستّ سنوات ... الرضيع يصبح طفلا، والصبيّ شابا.ثمّ بدأت تشكّ فيه!

- هل ذكرت لك عن خيانة ما؟

- علنا كلا.

- هل ذكرت لك عن الطلاق؟

- لاأذكر أنها ادعت ذلك.

- لكنها تقدمت بطلب الطلاق.

- لم تستشرني في الأمر.

الحقّ أنّي كنت أجهل ذلك، لقد حدثتني عن فكرة الطلاق، وطلبت منها التريث حتّى أجتمع وحدي بزوجها، أما أن تكون أقدمت على الطلب فهذا خبر أجهله.كنت أعرف أيّ صنف من الرجال هو نادر.كان يذوب في اولاده، مع ذلك لايخفي نفوره من سوزان.في الشهر الأخير أبدى احتقاره لها وتشاجر معها بصوت عال سمعه الجيران الذين اتصلوا بالشرطة.نفت سوزان أن يكون ضربها على الرغم من علامات خدوش بدت واضحة على وجهها.القصّة سمعتها من سوزان التي ادعت أنّ نادر اتهمها بالخيانة الزوجيّة وأنّه سيتقدم بشكوى إلى القاضي.قالت إنّ الجيران هرعوا على زعيقه وحاولوا أن يحصلوا على جواب شافٍ من دون جدوى، مع ذلك فهي تخشى على الأولاد من الشجار، ولو استمرّ الحال على ماهو عليه فستكون مخيرة بين أن ينفصل الأولاد عنهما ليعيشوا في أحد بيوت البلدية بعيدا عن مشاكل أبويهما، أو أن تنفصل عن زوجها لتعيش مع أولادها.كان ذلك هو الحلّ الأمثل الذي استقرّ عليه رأيها، وفي اليوم التالي، اغتنمت وجود الأولاد في المدرسة وغياب زوجها في عمله، ورجتني أن أحضر إليها.بدا الإحباط على وجهها وارتسمت قسماتها بصفرة أقرب ماتكون إلى شحوب الموت.للمرة الأولى أفزع من مظهرها.قالت:

- سافل منحط لايمكن أن اعيش معه.

- هل تأخذين الأولاد؟

إنّهم لايريدونني.أصبحت سوزان نغمة ناشزة في حياتهم.سافل اقنعهم أنّي زانية وأنّ عادل طلقني بتهمة الزنا، وقد فاجأني ابني الأكبر بهذا الخبر " وانهارت باكية، وهي تعقب يائسة"إنّه لايريدني هو وأخوه سيطلبان العيش معه.خطر في ذهني أن أساعد سوزان بكلّ جهد أقدر عليه يمكن أن يخفف عنها الحكم، فبادرت إلى زيارة عادل.استقبلني ببرود مدعيا أنّه لايروم أن يزجّ نفسه في فضيحة تتناولها وسائل الإعلام وأعمدة الفضائح، ولايسعده أن يرى صوره تتصدر أيّة صحيفة.أكدت له أني لاأطلب منه إلاّ معلومات عامّة ولن يذكر اسمه في أيّ محفل.كان يرى شبح أيّة عقوبة تنتظره لو ذاع السرّ ثمّ سرعان ما تلاشى قلقه وعاد إلى طبيعته الهادئة، واستأنف:

- لاتظنّي أنّ نادر ذلك الشاب المثاليّ، كان يجب عليّ ألاّ أساعده منذ البداية وأن أنصحه بطلاق زوجته قبل أن يقدم على استدعائها بالطريقة التي تعرفينها.؟

- لكني لاأفهم ماذا تعني بالمثالي؟

خلال السنتين التي أخفق فيهما على حيازة اللجوء تردد على الديسكوات وشارع البغايا ويبدو أنهن تفنن في تعاملهن معه بما لم يألفه من قبل، فذكر لي مرّة أنّ الأوروبيات الإنكليزيات والبولنديات بخاصة ينقلن الرجل إلى عالم لاتقدر عليه الشرقيّة، وكنت أرى أنّ الأمور تعود إلى مجاريها بعد قدوم زوجته، وأنّه نفسه كان يظنّ أنّ قدومها سينتشله من العالم الغريب الذي تهاوى إليه لكنّ توقعاتي كانت كلّها خاطئة فسارت أحواله من سيء إلى أسوأ.

مع ذلك رزق منها بأطفال.

في البداية عاتبته فعلل ماحدث بالخطأ، وحدّثتها وجها لوجه لأني خشيت أن أفتح الموضوع معها عبر الهاتف حين ذكرت لها بصراحة أنّ من حقّ الطفل أن يرثني، فاعتذرت أنّ مافعلته كان محاولة منها لإرجاع نادر الذي وجدته يتهافت على المخدرات والحشيش والبغايا عندئذٍ لم يكن أمامي بد من أن أطلب الطلاق لابسبب عدم انسجامنا أو اختلافنا بل نتيجة للخيانة الزوّجية وهذا ماأثبته الفحص الجيني للطفلين.

 يبدو أنّ فهمي لتلك العلاقة جاء متأخرا..عندما اطلعت على الحكاية بصفحاتها الواضحة. في البدء أخذتني الدهشة بعيدا حين عرفت أنّ سوزان حامل للمرة الأولى.امرأة تزوجت بطريقة ما من رجل أوصلها ثم تعيش مع زوجها الحقيقي فتحبل منه وهي على ذمّة زوج آخر وفق السجل المدني الرسمي... ثم وأنا أحضر جريمة القتل وأكتشف تهافت نادر على المخدرات والبغايا فأدرك تماما أنّ سوزان كانت كالغريق الذي يحاول أن يتشبّث بقشّة، تعجلت الحمل كي تشدّ زوجها إليها فجاءت النتيجة محبطة لآمالها إذ أصبح الأولاد سلاحا بيد زوجها لكنّي كنت على أمل في أنّهالم تخسر كلّ الأوراق بعد، هناك حجّة قد تخفف عنها الحكم كثيرا، وأنّي خلال يوم واحد يمكن أن أفعل لها أشياء كثيرة.الشرطة طلبتني بعد وقوع الحادث بساعات، ووعدوني بمقابلتها خلال مدة قصيرة.الإشارات الأولى تدلّ على أنّه كان يهددها تحت تأثير المخدّر، نسيت تماما بعض الخوف الذي راودني من إخفاء معلومات عن الشرطة.قصة زواج مزوّرة الغرض منها حيازة إقامتين في بريطانيا واحدة لزوجة وهمية قدمت مع زوج مزوّر من العراق، والأخرى للزوج الحقيقيّ صاحب طلب اللجوء الذي تم رفضه .خانت الأوّل وقتلت الثاني، لكنّ الصحف كانت قد صدرت منذ الصباح الباكر وفي الغد تسري الفضيحة وبيننا ونشرة الأخبار على الشاشة الصغيرة بضعة ساعات.كثير من التفاصيل سوف تختفي وتذوب، ولو انتبه الإنكليز وقارنوا بين جينات الزوج الثاني والأطفال لعرفوا القصة كاملة.قد تحوم حولي بعض الشكوك كوني أخفيت قصة تهريب عن السلطات ولاأظنّ أنّ سوزان أو عادل سيشيان بي حتى وإن حدث ذلك فيمكنني الإنكار .كانت صدمة الهاجس التي أذكتها اللحظات الأولى للاعلان عن الجريمة تتلاشى رويدا من داخل أعماقي، فأجدني أندفع بكلّ حماس للوقوف مع سوزان التي رأيت فيها ضحيّة أكثر منها قاتلة.لم استلم أي نداء من الشرطة عبر هاتفي النقال، لكني اتجهت بوازع ما إلى غرفة المحقق:

- هل بإمكاني أن أتحدّث معها الآن؟

- دقائق معدودة.

كانت شاحبة منفوشة الشعر كمن استيقظت للحظات من نوم ثقيل حتّى خشيت أن تضرب عن الكلام معي:

- لماذا قتلته؟

زجاج سميك يفصلني عنها، أراني أواجه ساحرة ذات مخالب منفوشة الشعر وأنف متورم ترتسم على وجهها وخديها كدمات، وتحيط محجري عينيها سماوات داكنة الزرقة، أنسى صورتها الأولى يوم قدمت وصحبتها معي بصفتي مترجمتها المعتمدة.كنت كمن ترافق طفلة إلى حديقة الحيوان منبهرة شاردة كما هي الآن، فأضغط على سماعة الهاتف لأسمع صوتها الذي تحوّل إلى بحّة خشنة:

كان يرتجف. مثل الثور الهائج.ذئب..كوسج...هستيريا عارمة تراوده كلما احتاج إلى مخدّر.هددني بالقتل وأوعدني أنّه سيطلقني كما فعل زوجي الأوّل.كان يروم نقودا لابتياع مخدر ولم يكن معي سوى بضعة باونات بقيت من مساعدة الدولة الأسبوعيّة للأطفال ثم اندفع كالزوبعة نحوي ليحطم كلّ شيء، طوّح بالكرسي في الهواء، وقذفني بالكأس الزجاجي.ركل الحائط، وبسط يديه نحو عنقي. كأي ثور انساه الهياج أنّي أحمل سكينا وأنساني الخوف كلّ شيء غفلت عن البصل والثوم والسكين في يدي لحظتها ....

وانخرطت في البكاء...ثمّ انسلّت من خلف الزجاج ونسيت حتّى أن تسألني عن أطفالها.كيف أواجههم بل كيف أواجه عادل.الفكرة خطرت بذهني من دون مقدمات إذ لابدّ أن أطلعه على الخبر لعلني أجد في الحوار معه بعض الأمل الذي يخفف عن سوزان الحكم .قد يغضب في البداية ويصرّ على عناده ثمّ يتراجع مثلما أصرّ على الإجهاض حين سمع بخبر المولود الأول واقتنع فيما بعد بأن يتركوا له كلّ شيء وقبل بفكرة فحص الحامض النووي .استقبلني بوجه متجهم.كان لمّا يعرف الخبر بعد.اصفرّ وجهه وكاد يتهاوى ثمّ تماسك:

- لاتظنّي أنّ نادر كان ذلك المثال خلال انتظاره سوزان قبل أن آتي بها.

- توقع أنه كان يروم منها الحصول على الإقامة فقط؟

- في البداية لا.حين اتفق معي على استدعائها إلى هنا.

- !ذاًً كيف تغيّر.

ظننته أوّل الأمر صاحب نزوة سرعان ماينسى رغباته مجرد أن تقدم زوجته للعيش معه لاسيما أنّه كما يذكر تزوّجها عن حبّ غير أنّه كان يدمن الذهاب في كلّ عطلة أسبوع إلى المرقص وفي الأيام العادية إلى بيت الدعارة أو تعاطي بعض المخدرات كانت يشتغل بعض الساعات معي أو في توزيع البيتزا على البيوت ساعدناه كي يوفر بعض المال من أجل سوزان وكان ينفق بعض النقود في..ربّما فعل ذلك في البداية قتلا للوقت، وهربا من فراغ كان يعانيه وقد اعترف لي يوما وهو تحت تأثير المخدر أنّ المرأة الشرقية لاتقدر أن تمنح الرجل ماتمنحه المرأة الغربية.

سكت وقد راوده خجل ما:

- متى تظنّه بدأ بتعاطي المخدرات؟

فتأمل مليا وأجاب:

- أعتقد بعد تعرفه على فتاة بولندية مهاجرة ثمّ فتاة هندية بريطانية الجنسية سيكية الدين أعجب بها وذكر لي إنّه لولم يكن متزوجا من سوزان لاقترن بها!

- لكنهما كانا سعيدين وأنجبا.

- هذا في الظاهر لأنّ سوزان على مايبدو لم توفّر له الجو المطلوب الذي عايشه قبل قدومها مع الإنكليزيات والبريطانيات والبغايا المحترفات.

- هل يمكن أن تحصل لي على اسمي تلك الفتاتين ؟

- هذا ليس بالمحال.

- متى زارك آخر مرة؟

قبل بضعة أيام جاء يطلب نقودا، ومن غير أن يسألني عرفت أنه سيذهب لشراء مخدر فحذرته منبها إيّاه أنها آخر مرة أمدّ له يدي.

لِمَ لم تخبر سوزان إذن أو تخبرني على الأقلّ.

لم يكن بإمكاني أن أحدثها عن خصوصيات يمكن أن تفعلها مع زوجها غير أنها اتصلت بي بصفتي قريب العائلة وحدثتني عن قصة المخدرات وإن نادر بدأ يتجاوز على مخصصات الأولاد واتفقنا على أن يبقى الأمر سرّا بيننا بصفتنا اقارب لأنّ البيوت اسرارا ولايمكن أن نبوح بأمر يخص سمعة العائلة.

اسمع عادل من خلال خبرتي في المحاكم معلوماتك يمكن أن تخفف الحكم عن سوزان!

لمحت أن انفعالا يعاوده وهاجسا ما من الخوف يلاحقه، مع ذلك وثقت برجولته فأنا أمام شاب يمكن أن يتجاهل الخطر الداهم أمام استثارة حماسه:

- أقصد إدمانه على المخدرات واستدانته منك النقود لاسيما أن تشريح الجثة سوف يثبت إلى وجود بقايا المخدرات في جسده!

- أتظنين ذلك؟

- بكل تأكيد خاصة حين نثبت أنه كان تحت تأثير نوبة هستيرية دفعته إلى مداهمتها ليبتزّ مخصصات الأولاد.

ثم تأمل وقال مترددا:

- لكن قد تثار مسألة زواجها الأول.

تلك مسألة انتهت ونحن الآن أمام جريمة قتل لاأريد منك أيّ شيء سوى الشهادة بأنه مدمن مخدرات يصاب بهستيريا إن لم يتدارك نفسه بجرعة، وأنّه جاء إليك ليستدين نقودا وهددك، ليس هذا فقط بل سوف يحضر الجيران الذين فزعوا على صراخهما مرات وأبصروا على وجهها آثار الضرب!

- وهل يخفف ذلك عنها؟

- تذكر أنك الذي استدعيتها إلى هذا البلد وتستطيع أن تخفف عنها الكثير؟

فتأمل قولي مليا وهزّ رأسه:

- لكل حادث حديث.

ثمّ ينتبه إلى شيء ما فيسأل كطفل ساذج:

- لكن مامصلحتك أنت من كلّ هذا؟

فقلت أسثتيره:

- وماكانت مصلحتك وأنت تغامر لتهرب سوزان من دولة عربية إلى هنا وتعرف سلفا أنّك يمكن أن تقع حينها عرضة للعقاب في كلّ لحظة!

- لوكنت أعرف النتيجة لما قمت بالعمل.

- أنا يهمني الأطفال لو حصلت على حكم مخفف لأمهم كونها قتلت نادر دفاعا عن النفس بدلا من أن تتبناهم منظمة إنسانيّة أو العوائل الإنكليزيّة "وبصيغة أثارت فيه الحماس"أنت رجل أثبت رجولتك في المرة الأولى وتقدر أن تتمّ فضلك!

لم أقطع الأمل بإقناعه .غابت عن عينيّ تماما مسألة الحياد والقسم الذي قطعته على نفسي أمام القضاء والدوائر الرسمية بأن لا أتدخل سلبا أو أيجابا أو انحاز لطرف على آخر.أجدت مهمة الحاسوب كأنّي قطعة معدنية باردة لاحس فيها تدخلها الكلمات بلغة ما لتخرج منها بلغة أخرى.مغتصبات ....حالات شجار...مدمنون...لاجؤون يبحثون عن حيلة قانونية ينفدون منها، شرقيون ربحوا قضايا وآخرون خسروا من دون أن أتأثّر.أوراق مزورة قصص مختلقة.الموت الكاذب.شعور غير عادي يدفعني هذه المرّة لأتدخل وألقن سوزان كلّ الخروقات التي يمكن أن تنقذها ولم يغب عن تصوري أنّ الأطفال سيجدون صعوبة في قبول أمهم التي خانت أباهم وقتلته، غير أنّهم سيفهمون كلّ شيء فيما بعد. كنت أترك عادل إلى مدرسة الأولاد لألتقي بهم كما وعدت أمهم.كان ذهني مشغولا بهم كأني غفلت عن صحف الغد ونشر الفضيحة الجديدة.كنت أسأل نفسي: كيف أنقل إليهم الخبر سؤال ألح في ذهني مرات ومرات حملت إلى لاجئين كثر أخبار سوء كثيرة ومعلومات خير لاتعد ولاتحصى لكني لم أنقل أي خبر إلى طفل.لم يحدث ذلك قط، مع تلك الخيالات التي انبثقت هذا الصباح فجأة حفرت في ذهني دقات الساعة الكبيرة الشامخة في أعلى برج المدينة هاجسا آخر يذكرني بالزمن.إنّها الواحدة الآن ساعتان ويغادر الأطفال المدرسة.أمامي ساعتان فقط، وفي خاطري يتذبذب سؤال واحد:

كيف ياترى أواجه الأطفال الثلاثة ؟!

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم