صحيفة المثقف

حوار ميتافيزيقي.. في زمن أجوف (2)

almothaqafnewspaperفَكَرَ وهو يمضغ علكة ولم تبق بين فكيه سوى بضع دقائق، بعد أن امتص حلاوتها ورماها في الحاوية، التي بجانبه وهو جالس على مصطبة خشبية أنيقة تحت شجرة تتخلل أغصانها شمس نيسان وهي تطل على ساحل البحر الساحر.

- لماذا تخاطر؟

- أخاطر بماذا؟

ألتزم الصمت وأطبق عليه كالميت .. ثم استيقظ ذلك الكائن في داخله وأجاب.. حريتك.!!

- وماذا عنها؟

- إنها كل شيء لديك .. وليس وحدك .؟!

- لا، ليس كل شيء، إنها قد تنتهي في أي وقت .. ولا أحد يدري متى وكيف، ولكنها في النهاية ستنتهي في يوم ما، بالموت مثلاً، أليس كذلك؟

- نعم ولا ..  إذا حشرناها بين الوجود والعدم، فأنها لكذلك، وقد يحقق أحدًا حريته بالخلاص كما يريد هو .. ولكن الذي أعنيه شوط حياتك هذا هو حريتك .. هل تجازف؟ تجازف بحريتك؟ إنك لا تملك غيرها .. إنها تمثل كل وجودك، وإنك من دونها لا شيء .. حريتك في أن تشعر بهذا الوجود .. الشعور بالوجود الحقيقي من خلال الحرية .. كيف تشعر وأنت تفتقدها أو لا تملكها .. ولا تملك خيارًا .. وكما تعلم أن التفكير الصائب يتم من خلال الحرية .. حريتك التي تتوقف عندما تبدأ حرية الآخرين .

- إذن، الشعور بالوجود والشعور بالتفكير لا يتم إلا من خلال الحرية، هذا ما تريد أن تقوله؟

- دعك من كل هذا، سئل عنك أحدهم، ربما ستجد جوابًا لتساؤلاتك  الكثيرة.

نهض وسار، وهو يتحدث مع لا أحد، مع نفسه .. وكاد أن يرتطم بالعمود، وأمامه عدد من الأشخاص بعضهم مشغولون بـ(موبايله) - وهي أزمة العصر الكارثة - حتى كاد أحدهم أن يرتطم بالعمود أيضا .. ولكن، ربما كان يمتلك حاسة إستشعار أنقذته في اللحظة الأخيرة. كان يسير على طريق نظيفة محفوفة بأشجار السنديان، وعند الزاوية، مقهى صغير(ستار باكس)، اعتاد الجلوس في ركنه الشمالي القريب من زجاج الواجهة يحتسي قهوته ويرتب أوراقة .

جائته القهوة مع قطعة صغيرة من الحلوى - ثمن فنجان القهوة وقطعة الحلوى تسع دولارات وهي تساوي برميل نفط خام -!!

رأى شبحًا يحدق بصعوبة من خلال الزجاج المضبب .. شابة تحاول ان تفتح الباب ولم تستطع .. تحرك وفتح لها الباب العصية .. دخلت مع كلبها الكبير.. شكرته، وأختارت مقعدها القريب تقريبًا من زجاج الواجهة المطلة على الساحل، وما أن جلست حتى أخذت تعبث بموبايلها كالعادة التي تشغل الناس جميعًا.. تأخر النادل وهي تتلفت بين الفينة والأخرى .. سألها وهو يغادر مقعده إلى الداخل لسبب ما، هل تحبين أن توصي بشيء أنا ذاهب لأطلب شيئًا -  نعم، قل للنادل أن يأتي، من فضلك .

وبعد لحظات جاءها النادل .. أوصت القهوة، فجائتها مع قدح من الماء .. شكرته بإنحنائة خفيفة مع إبتسامة ساحرة .. ثم أخرجت علبة السجائر وأخذت تدخن، وهي تعلم أن هذه (ترازة) مقهى MADO مسموح لها بالتدخين، عندها سألها ما إذا كان بإمكانه أن يشاركها طاولتها أم هي ترغب بمشاركته إياها، أستجابت بإيمائة خجولة من رأسها أن لا مانع لديها من ذلك .. تحرك على الفور مع حقيبته الجلدية الكبيرة التي يحمل فيها أوراقه، ثم حمل قهوته لينضم إليها .

-  يا لهذا العالم الذي لا يكف عن الضجيج والصراخ والكلام .. هل تعلمين أن أطنان من الكلمات تتدفق علينا في كل لحظة وفي كل يوم .. من كل هذه الأطنان لا يرصد منها ما ينفع سوى بضعة أسطر تدخل دائرة المعرفة الحقيقية والحكمة، أما الباقي فهو مجرد طفيليات يبتدعها العقل المجرد وينشرها من أجل التشويش ومنع الناس من التركيز الذهني .

-  نعم، هي مصطلحات جافة تثير الشكوك والجدل، وتدفع بالعالم إلى الصخب والتهور المبالغ فيه لحد الغثيان .

-  الغثيان بات موجة طاغية تجدينها في كل زاويا الفكر .. وأيًا كانت النتيجة فأنها تعكس الحاجة إلى المثل العليا وإلى نقاء السريرة وصفاء الذهن لكي يكون الطريق واضحًا .. كيف يمكن أن يكون الوضوح أمام الناس، وملايين أطنان من الكلمات والمصطلحات والأفكار الهامشية والصور تنهال لتتكدس على الطريق كأكوام  زبالة .!!

-  ضحكت .. لم أسمع أحدًا من قبل يشخص هذه الحالة المذهلة من قبل، الكل يدور في عالمه، والعوالم تدور وتحتك وتتصادم حتى في فراغات الفكر الكثيرة العائمة.!!

-  المشكل في الأمر.. أن الفكرة المطروحة فيها من (الذاتية) أكثر بكثير من (الأنسانية) أي بمعنى علم النفس (الأنا) الغارقة في الأنا، وليس المنفتحة التي تحمل (النحن) .. الخاص يهيمن على العام، يخنقه ويقوده كالقطيع !!

-  يا للهول، هذا ما أراه وألمسه في روافد الفكر والثقافة، عدا جزء قليل يتحدث عن الأنسانية في الأنسان .

-  العالم يسبح يوميًا بين أمواج ملوثة بالمفردات والمصطلحات الجافة والمتحجرة، التي تنضج بدورها : سيناريوات لسياسات توزع على أركان العالم من أجل تحريك ماكنة التصادم والتهديد بسلب الحرية والأشتغال لغير الوطن، أي وطن .

-  قاطعته بأدب ممزوج بغنج أنثى .. ما الذي (يمكن) أن تعرفه لكي تستطيع أن تفعل ما تريد.؟ وأضافت، وهل أن ما تريده يمنح الحق مجرد أن يدخل عالم تفكير(ينبغي) أن يكون وليس كما يجب أن يكون؟، ألا ترى أن هذه معضلة أساسية في الفكر؟

-  أأأأه، يا ألله .. هنا إلى أين نحن ذاهبان؟، هل درست الفلسفة حقًا حتى تأتي منك هذه الأسئلة المزمنة التي قد لا يعرفها، على بساطتها، إلا القليل من الناس؟!

-  قرأت القليل .. أنا طالبة تحضر الدكتوراه في علم الأجتماع .. ولكن أود أن أهمس في أذنك، ليس منطقيًا أن يقرأ الأنسان كل شيء لكي يفهم، إنما يمكن أن يقرأ ما يرد وأن يضع أولوياته .

-  تعنين أولويات الفهم الصحيح .. من أين يبدأ؟ من فوق أعلى الُسلم أم من أسفله؟

-  ضحكت بفرح غامر.. لو كنت قد بدأت من أعلاه، لما وجدتني أمامك على طاولة الحديث الرائع هذا .. ولكان عنقي قد دق في سقطة مروعة من أعلى إلى أسفل، فهل فهمت ما أعنيه؟

-  تمامًا، يا الآهي، لم أجد أكثر فهمًا من ذلك .. إذن، ماذا يمكن أن تعرفيه لكي تستطيعين أن تفعلي  ما تريدينه واقعيًا ومنطقيًا على حدٍ سواء.؟

-  يا لك من مخاتل .. قالتها بشيء من المزاح، لقد طرحت عليك هذا السؤال أولاً ولم تجب عليه، هيا  تحدث؟

-  قبل أن أراكِ، لم أكن أرى ما أريده .. والآن، عرفت أني أريد .. وما أريده حقيقة شاخصة .. لا تتعجبي، إني أمارس حريتي في مسألة الأختيار.. قاطعته ...

-  وهل أن مثل هذا الأختيار قد اكتمل لكي تكتمل حريتك؟!

-  ليس بعد .. أنا في الحقيقة أنتظر ما يتمخض عنه جدل اللحظة الراهنة؟

-  تعني، ما هو كائن وما ينبغي أن يكون .. وأود هنا أن أقول ان ما بينهما هو زمن تتحكم فيه السيرورة.!

-  كيف؟ قد يُعَلَقْ ما ينبغي أن يكون في رحاب المثالية التي يتوجب (وقعنتها)*، حتى لا تغيب بعيدًا عن الواقع وتصبح في هاجس الغيب.

-  وماذا بشأن ما هو (كائن)، هل هو النهائي؟

-  كلا، إنه ليس نهائيًا، إنه ينظر إلى ما ينبغي أن يكون .. تلك الصورة العقلية، التي هي إنعكاس للواقع، والتي يتوجب (مثلنتها)* في صيغة واقعية، دون تقزيم أو تضخيم.!!

-  يالك من بارع في المصطلحات .

-  نظرت إلى ساعتها ... آآآه تأخر الوقت على المُشْرِفْ، سأذهب، أشكرك على كل شيء .. لقد استمتعت كثيرًا بهذا الحديث .. وقفت ثم أستدارت نحو الباب بأدب جم ,, وحين ألتفتت، قال لها :

-  أنا هنا في هذا الركن كل يوم ..!!

-  أرتسمت على وجهها الجميل إبتسامة ساحرة قد يكون مبعثها الحرية في الأختيار..!!

 

د. جودت العاني

21 / 04 / 2017

..............................

* (وقعنتها)، جعلها واقعية .

* (مثلنتها) ، جعلها مثالية .

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم