صحيفة المثقف

مراثي غيلان (2): من جعبة الأسى

saad alsalehiأدخلوه عليَّ إلى صالة العمليات وقد غطوا عريه بوشاح معقم . لم تكن سوى عينيَّ ظاهرتان من بقية وجهي المكمم بالكامل، لكنه عرفني ونظر إلي مباشرةً وقال بإيرانيةٍ واضحة لكنها بصوت متهدج:

- سلوم ألَيكم دُكتُر

وهم يتابعون إجراءات التخدير كان مستمراً بالتحديق في عينيَّ وأنا أقف لصق جانبه الأيسر متمماً فيهِ تسليمه لقدرٍ سوف تحفل به أكفي على صفحة وجهه الذي انكسر منه عظم الوجنة بحادث عرضي . أحسستُ وجيب قلبه ينبض متسارعاً مع تسارعِ شجني وأنا أشعر في نظراته نحو وجهي توسله لشيءٍ ما، أو حنينٍ ما، وأنه وحيدَ المضجع لا أهلٌ ولا رفيق أو قريب .. إلَاي .

فراح صارخٌ من أعماقي يتدفق مصوِّتاً، أما له من أمٍّ لا تعلمُ الساعةَ أن قد ترفَّ روحه فوق رأسها لطاريءٍ ما أثناء عملية من هذا النوع المحفوف بكل الإحتمالات المميتة؟ أو أبٍ أو أخٍ أو ... حبيبة ؟

بعد أن أنهيت عمليته، عًدْتُهُ مساءً، ووجدته يتحدثُ ببهجةٍ مع أقرانٍ له من الأسرى في ردهتهم . حاول النهوض ليحتضنِّي فوضعتُ كفَّيَّ على كتفيهِ وأعدته الى وسادته . لم تكن بيننا لغة مشتركة سوى ما تبوح به الأعين . فقالها عربيةً فصيحةً بصمت وكانت دموعاً هطلت مصحوبةً بنشيجِ امتنان ما قدِرْتُ على تحمله، فغادرت الردهة وأنا على وشك أن يكون نشيجي كذلك نحيباً مسموعا .

وصلني بيد مريض أسير آخر، مغلَّفٌ صغير منه بعد ان غادر المستشفى بأسبوعين . كان المغلف يحتوي هديته إليَّ، معجون أسنان وفرشاة وعلبة سكائر، ورسالةً عربيةً كتبها بيده وبخطٍّ فارسي، مفادها كما رُسِمَت :

(تقديماً لحضور الدكتور السيد الرائد سعد فاضل، اطلب الله تعالى صحتكم وصحة اهلكم ومن جهتي اشكر من الطافكم واخلاقكم الحسنة، هذه الهدية الصغيرة يراوي اخلاص وحب قلبي لأنها بلا سعر ويراوي رضاية قلبية حارة وارجو الله ان يطوّل هذه العلاقات بيننا وبينكم وانا خجلان من خدماتكم واخلاق الرئوفة، اندعي عند الله تعالى ان الاسرى يرجعون وساذكرك انشاء الله عند اهلي، اسمح لي لان الاسير ماله شيءٌ، يا اخي العزيز ما انسيك انشاء الله وارجوك ان لا تنسيني،

اسير / اخوك الصغيرحسين نوشهري) .     

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم