صحيفة المثقف

الصندوق (1-5 /8)

qusay askar(في إحدى زياراتي إلى البصرة قبل زارني صديق أعتز به واعتذر عن تأخره كونه كان مشغولا باستقبال جثمان أخيه القادم من النروج .. حكى لي أن له أخا من أبيه بعثته الاسرة للدراسة في بريطانيا فعاد عام 1966 بزوجة نرويجية الأمر الذي جعله يترك البصرة للعمل في بغداد ثم يرحلان 1979 نهائيا إلى النروج)

الصندوق الحديد وصل بعد الانفجار الأخير ببضعة أيام فاضطر أن يحمل يده على صدره برباط يتدلى من عنقه .. وقتها كان في الحمام .. أوشك أن يخلع ملابسه شأنه كلما جاء من العمل .. ينتعش برذاذ بارد .. الصوت الهائل هز كيانه .. انفجار له طعم الانفجارات التي يراها في اخبار الفضائيات .. السيمر لاتعرف الصخب والحارة تنعم بالامان ونادرا مايطل في الزقاق غريب ضل الطريق أو جاء لزيارة معارف من أهل الحي .

غيَّر فكره وهرع إلى الردهة.

قالت أمه أن الصوت من نهاية الشارع الموازي لشارعنا ..

وقالت زوجته: الله الحافظ

 صراخ .حركة غير عادية:

أمه تعود للسؤال:

لم ْتستحم .. ماذا تنوي أن تفعل؟

سأخرج لأرى ما الذي يجرى!

يا ألله ! أتخرج والله العالم ماذا حدث على بعد خطوات!

 وقالت زوجته وهي تضم ابنها:

 لا تخاطر سنعرف بعدئذ جليّة الأمر.

 خائفتان أمه التي توارت سنين الطمأنينة والأمان في تجاعيد وجهها .. زوجته التي ملأت عليه البيت فرحا وسعادة فأصبحت سند أمه وساعدها بعد أن بان الكبر عليها .. البيت لا ينقصه شيء .. لسنا بحاجة إلى جاه ومال .. هو الأمان .. وفي باله قبل أن يخرج صندوقٌ يأتي إليه ، بعد بضعة أيام، محلقا في الهواء. قال:

الانفجار من جهة بيتنا القديم عليّ أن أرى الأمر!

وخرج دون أن يلتفت لأحد.

الفصل الأول: الابن العاق

 هاهو أخي ناصر يستعد للرحيل!

 قد أجد عذرا له .. إني مقتنع بسلوكه .. لم يسيء أبدا لأحدٍ ما أو يؤذ أيا منا .. لعلّ أبي ووالدته يرون في سلوكه عقوقا وخروجا على تقاليد وأعراف توارثوها أبا عن جد حتى شقيقي هشام نفسه استغلّ الوضع أبشع استغلال إزاء ذلك كله لم يجد ناصر بدا من أن يرحل من بغداد من دون أن يأتي إلى البصرة للسلام على العائلة في البيت الكبير.

ذهب قبل سنوات وقلبه النقي لا يعرف الحقد على أحد ..

 والحق إني لم أنسه أبدا منذ حادثة فندق أور التي جعلتني أقرب أفراد أسرة آل الصالحي إليه .. وبقيت اتصل به عبر الهاتف وأغتنم زياراتي إلى بغداد خلال العطلة الصيفية أتابع أعمال أبي وتجارته فأمر على منزل ناصر .وراودتني الشجاعة في أن أبلغ الشيخ تحيات ابنه البعيد وسلامه فيردّ والامتعاض باد على وجهه بتحية باهتة باردة تشبه تحيتك على رد سلام من شخص لا تجهد فكرك في تذكره .. لكنه لم يمنعني – بعدأن قبل ناصر في السكن عنده ذات يوم- من زيارته،حاولت ألا أثير أهل البيت الكبيرمع ذلك أعرف أن ذكره أمام والدته يشيع في نفسها بعضا من الراحة وإن بدت تكابر وتعاند وتدعي أنها وإن تحمل قلب أم إلا أن ذلك لا يمنعها من الغضب على ابن ترك الأهل والجميع من أجل امرأة ليست من ثوبنا وجلدنا ولا من ملتنا!

 وكنت ألاحظ في كل زيارة – على مدى تلك السنوات وبالرغم من قصر زياراتي - تغيرا في بيت أخي .. زوجته أصبحت تدخن بشراهة وخالطت شقرتها صفرة لا تبعث على الارتياح .. ولداه وبنتاه يعيشون في عالم آخر كأنهم مخدرون. يحلمون بشيء ما أو يهربون إلى حيث لايدرون .. كان قلق أخي يزداد حين تضطره ظروف العمل إلى أن يستقل طائرة إلى مصافي النفط بعيدا عن عائلته فيبيت ليلة أوليلتين في كركوك .. كل ما أراه ويجري حولي دفعني على أن اجرؤ فأقول له:

- الحال لا تعجبني هناك شيء غريب يحدث اليس كذلك؟

أمنّي نفسي كمن أزاح عن صدره كابوسا ثقيلا:لو استقبل البيت الكبير أخي وزوجته بالأحضان لشعر الجميع الآن بالأمان فتتفتح للعائلة كل الأبواب .. زوجته تجد عملا، وأولاده يذهبون للمدرسة فلا يفارقوا جدتهم وجدهم وعماتهم:

- زوجتي تشعر بالقلق عندها خوف phobia! أتعرف ماذا تعني فوبيا؟

 يقولها بنغمة حادة تخفي ملامح وجهه .. كأني أقنع نفسي ولو كذبا فقد حاولت أن أتشبّث بأيّ عذر يثنيه عن السفر:

- هناك الكثيرون من اقترنوا بأجنبيات يعيشون حياة طبيعية ماذا تقول عن خبراء قدموا بزوجات من روسيا وألمانيا وعن اساتذة جامعات تزوجوا من أمريكيات وروسيات!

فعاد إلى هدوئه:

- لكل بيت خصوصيته أما ..

- لكن لديّ اقتراح لماذا لا تطلب نقلك إلى البصرة فتعمل في الشعيبة فأجد لك بيتا قريبا من بيتنا في هذه الحالة يكون أولادك قريبن مني في حال غيابك!

فهز رأسه بأسف:

- هناك بوادر سكر عند زوجتي!

- أهذا كل مافي الأمر؟

- لا أخفيك أن حالتها تطورت إلى الأسوأ خوف من الآخرين عودتها إلى البصرة تزيدها رعبا نحن هنا في بغداد،حين نمشي في الاسواق تظنّ أن شقرتها تلفت الأنظار وأن هناك من يحاول التحرش بها واغتصابها أو قتلها .. كدت أدخل في مشاجرات مع بعض العابرين والأنكى أنها بدأت تلقن الاولاد وتحذرهم فظنوا أن هناك من يتربص بهم شرا ويحاول الاعتداء عليهم.

 للمرة الألى تشمئز أحاسيسي من أختي إنعام وإقبال وأخي هشام .. وأبي الشيخ .. أسرة آل الصالحي ، وجدتني أنا الذي انحنى وانكسر أكثر من ناصر .. خلت أن العائلة في البيت الكبير ملاكاً شفوقاً وجلاداً في الوقت نفسه:

- وماذا نويت أن تفعل!

- سأسافر إلى النروج حالما تحين إجازتي السنوية قبل أن تستفحل الأمور وتستعصي وربما تطرأ أحداث أعظم وأدهى تعيقني عن السفر!

معك حق قلت في نفسي أواسيه بصمت من دون أن تتحرك شفتاي فالأحداث الجديدة والمظاهرالمسلحة والانقلاب الجديد .. المظاهر الحماسية في الشارع ووسائل الإعلام .. قد تجعل حالة زوجته تزداد سؤا .. لا أريد أن أخسر ناصر الذي أعدّه أبا ثانيا .. سأشعر بفراغ هائل .. على الرغم من أنه في بغداد إلا أني أراه قريبا أستطيع زيارته متى أشاء:

- أليس هناك من حل آخر؟

فانتفض كالملسوع:

- أي حلّ وزوجتي على حافة الانهيار؟ والأولاد يظنون التلاميذ في المدرسة أعداءهم؟

- سبقته مقاطعا:

- ماداموا يتكلمون العربية فسيخفف ذلك عنهم!

مجرد تشبث به .. لم أشعر بفراغ وهو يدرس في بريطانيا .. أملنا رجوعه والآن هاهو يعلن الرحيل دونما عودة

لا أظنّ !أبدا محال!

 قبل أن يسافر اتصل بي يودعني عاتبته على أنه لم يمنحني فرصة للحاق به في المطار ، لعله لم يرد أن يتعبني أو أراد أن يتحرر من لحظات الوداع .. لحد الآن لم أفهم لغز سفره من دون أن يلتقيني، وعندما دخلت البيت الكبير وأبلغت الحاجة الخبر مدعيا أن ناصر يسلم عليها مع أنه نسي او تجاهل الجميع حتى أمه .. وجدتها تتهالك .. وتنفجر عن بكاء متواصل .. ساحت دموعها أكثر مما ذرفته يوم سمعت بزواجه من أجنبية ولعلها تبكي الآن إذ فقدت ناصر إلى الأبد .. كان في بغداد فتشعر أنه قريب منها وإن لم يكلمها ولربما يكفي أن أقول لها - كلما عدت من سفري- إن ناصر يخصك يا خالة بالسلام تسمعه .. تحسّ أنفاسه .. غير أنها هذه المرة لم تستطع أن تحبس الدموع.

2

 الصندوق القديم

.. أما الصندوق الآخر فقد كان من معدن خفيف حين يكون فارغا يقلبه الاطفال يدحرجونه ثم يعيدونه إلى مكانه .. الشارع فوضى .. حركة غير مضطربة .. أناس يهرعون .. وآخرون يحثّون عبر هواتفهم سيارات الإسعاف .. كيف حدث هذا .. عجيب .. أيعقل أن تصل النار إلى هنا .. امرأة تصرخ تبحث عن ابنها الذي خرج يلعب مع أولاد الحارة .. صوت من الزاوية البعيدة المطلة على الزقاق من فتحة بيتين متقابلين .. تقطع طائرة عمودية الفسحة باتجاه المدينة .. الجميع يهرعون .. نساء تصرخ .. الصخب من نهاية الزقاق الثاني .. اجتازَ البيت الكبير وانعطفَ مع أول استدارة .. الفوضى تشيع في كل مكان

بعض قطرات دم على الزقاق بقعة زيت ..

سيارة تحترق .. سخام ..

الناس يتناثرون كورق جريدة عبث بها الهواء .. هناك سيارة مركونة بداية الزقاق تحولت إلى ركامٍ يشعّ دخاناً يتلوى في الهواء وعلى بعد منها صندوق قمامة:

ماذا جرى ..؟

سيارة مفخخة

كيف حدث؟سيارة غريبة تدخل الزقاق؟

هل يتذكر أح قسماتِ دمن ترجل منها؟

 أذناه تستوعبان الضجة وتكهنات المحتشدين والفضوليين وعيناه تحومان بين السيارة والصندوق .. تساءل بفضول: يا ترى هل نقل الصِّبيَةُ الصندوق من مكانه ونسوه !

الفصل الثاني: فندق أور

لم أجرؤ على أن أخبر أمي بالأمر .. مع ذلك فقد قلبت الفكرة مرارا في رأسي .. ربما- كوني الأصغر- يختلف إحساسي عن مكابرة أخي هشام الذي أبدى انزعاجه لا عن محاباة منه لأبي بل إني متأكد هو طبعه وإحساسه يعبر عنه بطريقته الخاصة مثلما فعلت أختاي الكبريان وأمهما ساعة ورود الخبر الذي هزّ البيت الكبير من الأعماق وقلب كيانه رأسا على عقب.

 لقد استأثر البيت الكبير بالهاتف فاعتادت أمي على أن تبعث زوجة أبي إحدى شقيقاتي لبيتنا حين يطلبها جدي أو أحد اخوالي من البحرين،ولم أكن أتردد – لو ان البيت يخلو لحظةً من أحد- في أن اختلس فرصة ما فأرفع سماعة الهاتف وأتصل بفندق أور حيث يسكن أخي ثم أتذكّر فيما بعد أني أجهل رقم الهاتف .. بالأمس سمعت البيت الكبير يتحدث عن عودة الابن الضال وفندق أور .. وكانت أم شقيقي تبدي أسفها وحسرتها أنه عاد ولم تره مع ذلك فقد تلبستني فكرة ما.شوق لرؤية ناصر أكثر مما هما فضول وحماس .. غادرت الحارة وأنا اتساءل ياترى هل تغيّر أخي.أذكر أنه زارنا مرة واحدة حين كان في السنة الثانية وأنا في الصف الخامس .. جلب لكل منا هدية .. لم ينس أحدا ،فازدهيت بالقميص الجميل الذي ذهبت به للمدرسة.افتخرت أمام زملائي التلاميذ.إنه من لندن جلبه أخي .. وقتها لا أظن أنه تحدث مع أبي بشأن زواجه ثم مرت ثلاث سنوات،وها أنا أجد والدي يغلق باب البيت الكبير بوجهه .. قلت لنفسي وأنا أعير الرصيف المحاذي لإعدادية العشار نحو باب الفندق المقابل، لا أظن أخي هشاما الذي يدرس الحقوق في بغداد يجرؤ على المجيء لرؤية ناصر فهو نسخة من أبي وكثير من آرائه وأفكاره لا تختلف عما يراه الشيخ .أخذتني نشوة زهو وأنا في طريقي إلى الفندق .. هل غيرته تلك السنوات الثلاث التي غابها عنا.خمس سنوات قضاها في الدراسة زارنا خلالها مرة واحدة .. ترى ماشكله الآن؟كيف تبدو زوجته؟ أمي وزوجة أبي أم ناصر يخفين انبهارهن فيدعين أن كل هذا هو بهرج للزينة والتبرج .. قشرة خارجية لا أكثر .. رجعت بي الصورة إلى اليوم الذي غادرنا فيه ناصر إلى بريطانيا .. وقتها بدا أنيقا وقف دقائق أمام المرأة يسرِّح شعره .. يعدل قميصه حتى قبل سفره لم يرض أن تكوي إحدى شقيقتيه ملابسه .. غمر أنفاسي عطر بروت لحضة ضمني وربت على خدي في محطة قطارالمعقل قبل أن يطلق القطار صيحته الأخيرة .. قال لي أبي: أخوك ليت أخاك هشاما يختار الفرع العلمي ليلتحق بناصر وأنت إذا اخترت الفرع العلمي سأبعثك أيضا إلى بريطانيا!

 استقبلني ناصر بذراعين مفتوحتين ثم صعد بي إلى الطابق الأول حيث تسكن زوجته .. غرفتهما تطل على شارع التحرير فيرى الواقف عندها ساحةإعدادية العشار وضريح الولي عبد الله بن علي،هناك عند النافذة وقع بصري على زوجته. شقراء رائعة الجمال.طويلة ممشوقة القوام أطول من أخي .. جمال خارق لا يصدق ابتسامة واسعة لا تفتر من شفتيها:

- زوجتي "رووث" قال ذلك وبسط يده:

- أخي الأصغر نبيل .. واضاف بلهجة مرحة:

نبيل Nobel

- أووه نبيل Nobel مستر نوبل!

نطقت اسمي بلثغة ونهضت اندفعت إليّ ووضعت يدها بيدي .. جذبتني وطبعت قبلة على خدي، ثم راحت نحو درج قرب السرير، فاستلت صندوقا ذا ألوان مزركشة، وقدمت لي بعض الحلويات:

- حلويات من النروج خذ منها لأختك !

 لا أدري .. ارتبكت قليلا .. فقد شعرت بالخجل .. والحيرة .. النرويجية الشقراء تتصرف معي كما لو كانت تعرفني منذ زمن بعيد تتحدث مع أخي باللغة الإنكليزية وتلتفت إليّ عرفت فيها الطيبة وودت لو أنها تسكن معنا .. ابتسامتها الواسعة لا تغيب لفتتها شكلها .. شيء آخر جديد في البصرة .. وحين شعر أخي بحرجي وخجلي بادر إلى أن نجلس في صالة الاستقبال، فاتخذنا مجلسنا في ركن يطل على الشارع العام وسياج ثانوية العشار:

- عطشان؟ تشرب شيئا؟

- أبدا لا أرغب في شيء.

قلت عبارتي كأن وجود أخي وزوجته في الفندق سد نفسي عن أي مأكل ومشرب في الوقت نفسه ليس هناك ببعيد عن فندق أوربيتان كبيران من بيوت آل الصالحي:

- هل تعرف أمك بزيارتك؟

- أبدا لم أخبر أحدا!

فابتسم ابتسامة واسعة بين المرارة والفرح وقال محذرا:

- إحذر أن تخالف الحاج في قول أو فعل حتى لا يغضب منك!

- هل تعني أنك لا تريد أن تراني؟

إني أخاف عليك ولا أحب أن تقع تحت غضب أبينا هذا كل ما في الأمر!

واردف:

ماذا عن "هشام " هل عرف بالأمر؟

أخي يسألني عن أخيه الشقيق، أما أنا فأظن " هشاما " صورة للحاج لا يختلف كثيرا عنه مثل أختيّ وزوجة أبي:

- " هشام"يتصل بنا كل أسبوعين أوثلاثة من مركز البريد ولا أظنه يعرف إلى الآن!

وبعد فترة صمت سألته:

- هل وجدت عملا في شركة النفط لكي تؤجر بيتا؟

أووه العمل مضمون لا تفكر بهذا لكن مع ذلك أحتاج إلى أربعة أشهر سأصحب زوجتي وأسافر إلى بغداد غرض معادلة الشهادة وهذا يحاتج إلى شهرين لن أبقى في بغداد سأعود إلى الفندق ثم أقدم طلب تعيين كل شيء يهون!

- لكن هل معك نقود تكفي؟

قلتها كأني أملك كلّ شيء فأودّ أن أمنحه أوأسلفه ماعندي:

- معي الآن عشرون دينارا .. أحتاج إلى أربعين أخرى تكفيني سفرا ومدة انتظار التعيين!

متى نويت السفر إن شاء الله؟

- بالكثير ثلاثة أيام!

وصمت أضمر أمرا ما ثم نهضت فضمني إلى صدره، وهو يربت على ظهري ويقول:

-لا تغامر هكذا بغضب الحاج فأنت مازلت صغيرا!

لكني خرجت منه في غاية الفرح .. وفي بالي مغامرة أخرى كأن عدوى العصيان انتقلت خلال تلك الدقائق منه إليّ !

3

صناديق خشبية

تحدث زوجة أبيه بنتيها عن فيضان أيام زمان .. كان يجلس جنب اخته الكبرى سمعها تحكي عن أيام الفيضان .. أحد اجدادها مات وقتها فاضطروا إلى دفنه في البصرة عند مكان يدعى الأمانات ثم نقل جثمانه فيما بعد إلى النجف .. وضعوه في صندوق عادي .. هناك من يقول جمعوا عظامه وبعضهم يدعي أن الأرض لم تأكله فقد خرج كما هوحي ..

في تلك اللحظة حامت عيناه على صندوق القمامة .. كانوا وهم صغار يلعبون ألعابا مختلفة .. يغمضون أعيننهم فيروح أحدهم يختيء في مكان ما وما عليكم أيها الصغار إلا أن تجدوه .. .. أما أنت ياسمير فقد أطلقنا عليك لقب " كيكوز" لابدّ أن خالتنا والدتك مازالت وأنت في هذه السن تطعمك حليب كيكوز الكامل الدسم .. مازال كريم كيكوز لم يتغير .. لا أحد يفكر أن يختبيء في صندوق القمامة .. قيْدَ شعرة وينحشر في الصندوق .. ثم يفاجيء رفاقه برشاش محشو بالماء كأنه جندي محترف في حرب حقيقية أخذ يرشّ وهو يطلق من بين أسنانه صوتا متقطعا متواصلا كصوت البنادق الآلية .. طق طق طق ..

- فات الوقت ولم تجدوا مكاني ..

- أصبحنا مبللين بالماء أيها الخبيث!

- أنتم خسرتم أنا ربحت

 في هذه اللحظة انشغل الناس وخرج معظم الرجال من البيوت .. حارتنا يارجال تشهد أول تفجير .. احتشد الزقاق بالناس .. أطفال شويخ .. شباب ونساء .. بعضهم ينقل جرحى .. وآخرون يأتون من حارات بعيدة ..

 ولا أحد يلتفت إلى صندوق القمامة الذي اختبأ فيه كريم كيكوز ذات يوم ..

الفصل الثالث: البيت الكبير

كان بيتنا الذي يقع في بداية الزقاق لايبعد عن البيت الكبير سوى بضعة مترات، وقد اعتاد والدي حين ينهي عمله أن يمر بنا فيسلم والدتي ما نحتاجه ثم يذهب إلى بيت الخالة أم ناصر .. إن بيتنا أصغر من بيت خالتي أم ناصر غير أنه مهر أمي مكتوب باسمها وفق شرط جدي. كان أبي يتردد علىالبحرين وارتبط مع أخوالي وعائلة أمي بعلاقات تجارية متشابكة وحين طلب يد أمي وافق أن يكون البيت بعضا من مهرها حتى تشعر بالأمان ولم يكن هناك أي تحفظ من إخواني على دخولي البيت الآخر بل عاملتني أختاي إقبال وإنعام وأخواي ناصر وهشام بلطف وأمهم كما لو كنت ابها ، كنا أنا وأختي لؤلؤة .. نمر على البيت الكبير كل يوم وفي أي وقت .. وكثيرا ما تشجعنا أمي على الذهاب لا لتتأكد شأن بقية النساء من أن هناك شيئا جديدا خص به الحاج بيت ضرتها وحده به بل كانت، وهي الفتاة الشابة السمراء المفعمة بالحيوية القادمة من الخليج، تحثنا على أن نكون قريبين من إخواننا غير الأشقاء فتطمئن على سلامتنا غير أني تلك الساعة جعلني أشعر بالرهبة والخوف .. اليوم اختلف الأمر .. عبرت السيارة على عجالة من أمام بيتنا دون أن تتوقف .. في البدء ظنت والدتي أن هناك بعض الضيوف قدموا مع أبي لكننا لمحنا من الباب والدي يترجل وحده .. استغربت وهرعت باتجاه البيت الكبير ..

للمرة الأولى حقا أرى أبي محمر الوجه يزعق والزبد يتطاير من شفتيه .. لعله في مواقف يغضب لكنه يكبح جماح نفسه وقد يعاقبنا .. أتوقع كل شيء أما أن اراه بهذا الأنفعال والهيجان فأمر بدا بعيدا عن خيالي ..

ويبدو أن أخي ظنها لعبة ذكاء فاتصل بأمه وطلب منها أن تخبر الحاج .. أما أم ناصر فتريثت ساعة قبل أن ترفع سماعة الهاتف .. ساعة أقل أو اكثر .. لا يهم هي نفسها لم تصدق وخامرها شعور بالقرف ..

 وحين دخلت البيت أثارني شكل أبي المخيف .. انتابني بعض الرعب.كان يعاقبنا فلا نخاف .. لا نشعر مهما أخطأنا أنه ينتقم منا أو يصب عليها جام غضبه بقسوة .. كانت ملامحه في أي مشهد غاضب لا توحي بمثل تلك الصورة الهائجة التي هو عليها في ساعة النحس الآن .. والحق إننا كنا نتحاشى أن نثير غضبه بخاصة بعد أن اصيب بمرض الضغط .. توقعت أمرا ما .. مشكلة تستعصي على الحلول .. حدثا مفاجئا .. خسارة صفقة ضخمة .. احتقنت أوداجه واحمر وجهه تناول حبة ضغط وصاح، وقد تهدج صوته من التعب واللهاث:

- آه إني اعض الآن أصابع الندم .. والله ذلك لن يكفي ولو قطعت إصبعي .. الغلطة غلطتي نعم إنها غلطتي أنا الذي بعث ذلك الولد العاق إلى الخارج ..

فهمت أن الحديث يدور حول أخي ناصر وبريطانيا والدراسة .. هل أخفق أخي في الامتحان .. أكان يكذب علينا حين أخبرنا أنه نجح .. أصبح مهندس بترول وسوف يعمل في شركة نفط البصرة .. لقد خصه أبي باهتمامه أكثر من أي منا .. ما يطلبه ناصر ينفذ وما يراه هو الصحيح .. هو الوصي على إخوانه وأخواته .. هو الأكبر .. قدوتنا نحتذي بناصر في كل أمر .. الدراسة الاجتهاد الأخلاق .. العمل .. طريقة الحياة الملبس .. ويوم أنهى دراسته الثانوية تعهد أن يبعثه إلى بريطانيا على حسابه كي يعود إلى العراق مهندسا يرفع رأس العائلة وينادي الناس الحاج بكنيته الجديدة أبي ناصر المهندس ..

 ولم تكن النقود لتهم أبي كبير تجار الاقمشة والمعني بالعطور .. كان أبي لا يمسك يده عنه والآن في هذه اللحظة بان المستور وظهر ناصر مثل الماء االسائح تحت التبن .. انقلب كل شيء رأسا على عقب .. ليت ناصر أخفق في دراسته .. ليت سيارة صدمته .. ليت .. ليت .. زوجة أبي ساكتة متجهمة الوجه اختي الصغرى إنعام واجمة والكبرى إقبال تروح وتذهب بين المطبخ والصالة كأنها لا تعرف أين تجلس .. على الأقل أجدهم صامتين في هذه اللحظة في انتظار أن يهدأ أبي من سورته .. قبل أن ينطق بالحكم على الولد العاق ..

- متى كلمك؟

 للمرة الأولى تجرأت زوجة أبي التي خيل إلي أنها شعرت بالذنب الذي ارتكبه ابنها،وقد دلت بحة صوتها على تأثرها وحزنها اللذين لم أعهد لهما مثيلا من قبل؟

- لم اتأخر عن إبلاغك اتصل بي ليخبرني أنه يسافر اليوم إلى النرويج ليتم المراسم الخاصة بزواجه!

فصرخ بوجهها وهو يلقي عن غير وعي دواء الضغط على المنضدة جنب الهاتف:

- ليتها كانت مراسم دفن ليته مات قبل اليوم ليته ..

وعاد للتساؤل:

- هو في بريطانيا كيف تعرف عليها؟

- يقول إنها طالبة معه في الكلية واليوم يرحلان إلى بلدها يتمان عقد الزواج !

 اتضح لي غامض الأمر ..

انكشفت الزوبعة ..

كل مافي الأمر أن ناصر عاد مهندسا في هندسة البترول من جامعة لندن .. حقق رغبة كبير العائلة في ثمّ نقض كل شيء. يبدو أنه تحاشى أن يخاطب أبي وجها لوجه حين زارنا بعد سنتين في الصيف .. وكان يداعب اختيه قائلا ماذا لو جئت ومعي فاتنة شقراء .. الجميع ظنها نكتة لم نصدقه .. لعبة .. هزل .. عبارة أشبه بالحشو .. كلام فارغ جعل الحاج يبتسم .. أما أصدقاؤه زمن الثانوية فقد لاموه على المجيء في هذا الوقت .. الحمار أبو صابر تسيح اذنه من الحر .. فكيف تأتي في هذا الموسم .. لكن لهفة ناصر إلى لقاء أمه أنسته حر تموز .. هذه المرة اتصل بالبيت الكبير .. تحدث مع أمه التي ظنها تتوسط له غير أنها لم تكن مقتنعة في أن تصبح لديها كنة تأتي من بلاد بعيدة غريبة الوجه واللون والدين واللسان .. ربما لن يصدق أحد أن أبي تفاءل بالبنات .. إلى حد أنه قال يوم ولادة أختي الكبرى سأسميها إنعام .. نعمة من الله .. ويوم جاءت إقبال تمتم هي بركة أقبلت ذلك ماسمعته وقد رايته يقول لامي يوم ولدت أختي أنتم أهل الخليج تحبون اللؤلؤ ساسميها لؤلؤة مع ذلك الحب المفرط يرى أن على البنت أن تكتفي بالشهادةالابتدائية فذلك أكثر حشمة لها ..

 أما أختاي فتجلى الامتعاض على وجهيهما كأنهما قادمتان من مجلس عزاء .. امتعاض شبيه بالتنمر والغضب،يمنعهما من الكشف عنه غضب أبي الذي أثار الرعب فينا دقائق أبت إلا أن تكون وقتا طويلا تباعدت نهاياته لولا أن مفعول الدواء سرى في جسده فمال انفعاله إلى غضب مكتوم الأمر الذي أزاح عن صدورنا بعض الرهبة فتهاوى على مقعد قريب ونفث الهواء وعاد إلى التساؤل:

- هل عرف أخوه بالأمر؟

- لا لم يتصل اليوم!

- حسنا لاتخبريه حتى يؤدي امتحاناته.

أختي التي تناولت كأس الماء من على المنضدة وقالت قبل أن تتوارى الى المطبخ:

- وماذا لو جاءنا بعد يوم أو يومين!

قال أبي وهو يهز رأسه:

- والله هشام أنبل من ذلك العاق ليته هو الذي أنهى العلوم وسافر إلى بريطانيا ..

شقيقتاي صامتان، حتى زوجة أبي عادت إلى صمتها،هل تدخل النجاسة البيت؟ .. هؤلاء الأوربيون يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور والعياذ بالله .. بناتهم يقترفن الزنا قبل الزواج .. كم شخصا يواقع االفتاة قبل زواجها .. البكارة هناك عار .. العيون في البيت الكبير حائرة .. القرف .. والاشمئزاز .. أخيرا قطع أبي الشك باليقين وقال محذرا:

- اسمعوا جميعا هذا العاق لن يدخل بيتي بصحبة زوجته ليذهب إلى الجحيم، "والتفت إلى الخالة أم ناصر محذرا وهوينهض من مكانه" إسمعي حرام عليك أن تتعاملي معه لا تكلميه حتى وإن اتصل عبر الهاتف أنا لا أعرفه وسوف سيكون فراق بيني وبينك يوم أعرف أنك التقيته أو كلمته!

توارى عنا داخل غرفته أما أنا فكنت أقف صامتا جنب أختي" إنعام " بل لم أجرؤ على أن نعقب بأية كلمة كما لوأنني كنت أحلم بأشياء اسمع عنها ولا أراها!

4

في اي صندوق

فقاعات .. كثيرة تتطاير .. تحلق بعيدا في الهواء

يضع الاطفال مسحوق الغسيل في اسطوانات بلاستيكية ويصبون عليه الماء ينفخون في قصبة فتتطاير فقاعات كثيرة تنشطر وترتفع في الهواء ثم تنفجر: سأل الصبية سمير كيكوز لم اخترت صندوق الأزبال فأجاب ساخرا: هل يدور في أذهانكم أني ساختبيء هناك؟

وسألت المحتشدون الغاضبون صاحب الدكان: ألا تتذكر شكل الذي ركن السيارة في نهاية الزقاق (ظلوا يلحونفي السؤال كما لوأنهم يستنطقونه) وصرخ آخر ساخطا: يا سيد أمين مادمت حاضرا فالاولى أن تنتبه .. رد أمين غاضبا أنا على باب الله معظم الوقت داخل المحلّ كيف أنتبه لمن هبّ ودبّ ،ما كاد يتم عبارته حتى انفجر البرميل ..

برميل القمامة نفسه فأين كريم كيكوز .. احترقت السيارة فجرح شخص عابر سبيل وانفجر برميل اللعب فتناثر قتلى أحدهم أمين .. جرحى ..

كان يمسك ذراعي ..

والناس حوله كالنحل ..

دبق على التراب

دم ..

لكن أين هو في هذه اللحظة كريم كيكوز؟

الفصل الرابع: السرّ

 لم اصبر على أن احتفظ بالسرّ .. أنا ووالدتي وحدنا .. أختي الصغيرة ذهبت إلى البيت الكبير .. السرّ بدأ يتلجلج بصدري .. يخفق .. كل خبر يمكن أن أكتمه إلا عن أمي .. والدتي لا تتدخل في شؤون بيتنا الآخر .. كثيرا ما كانت تشكو أن لا أهل لها ولا أقارب وتدفعني – لأحمي نفسي من مخاطر الزمن وحوادثه- إلى أن ألوذ بأخوي .. كان ناصر الأقرب إلي حتى إني اخترت مثله كلية الهندسة وتفرغت بعد تخرجي لاستيراد الأجهزة الألكترونية والإشراف على مكاتب أبي .. كانت أختاي تقبلان أية حصة من دون أن تسألاني عن أي كشف من الكشوفات أما هشام فيروح يدقق في الحسابات ويتأمل كل شاردة وواردة .. حتى والدتي التي ناءت بنفسها عن مشاكل البيت الكبير قالت: ماالذي تتوقعه من محام،المحامي ياولدي بالعربي الفصيح حرامي مع ذلك يبقى أخوك .. حزام ظهرك .. عندما وعيت عرفت أن هشاما لا يفكر إلا بمصلحته .. نفسه فقط ولو احترقت الدنيا .. ويوم كشف أخي الأكبر عن ثورته على أبي وزواجه من نرويجية حينذاك ظننت أن موقف هشام الطالب في كلية الحقوق ردة فعل عن وعي .. اندفاع مع الحاج مثلما فعلت زوجة أبي واختاي .. ثم اتضح لي فيما بعد أنه لا يفكر إلا في نفسه.يظل يتربص بالآخرين .. ينتهز الفرص .. يثبت نفسه على حق مقابل أي خطأ يأتي من الآخرين ولعل سلوكه زمن الحصار بعد وفاة الحاج يكشف عن سريرته وطبعه الجاف حيث قبل قسمة الميراث .. مادام بيتنا باسم أمي فقد اصبح البيت الكبير من حصة أختيَّ وهشام الذي اشترى بيتا في العشار يجاور مكتبه الفخم .. سرح بي الخيال بعيدا إذ ظننت أنه ليس بحاجة لمال ويمكن أن ينزل عن حصته في البيت لأمه وأختيه غير أنه لم يفعلها .. مع ذلك كنت أتحايل من دون تأنيب ضمير أن أعزل حصة ناصر من تجارة أبي .. أغطي على بعض الصفقات ولا أدون الأخرى فأستفيد من تنقلي بين الخليج وتركيا أحول تلك المبالغ إلى النروج .. مثلما فعلت يوم خرجت ولا أحد يعرف أني ذاهب إلى فندق أور .. لكنني حين عدت إلى البيت والتقت عيناي بعيني أمي خامرتني نشوة الزهو.نسيت الخوف قليلا من التمرد على الحاج .. إحساس منتصر .. شعور بالبطولة .. قلت وأنا الصق خدي بصدر أمي:

- كنت في فندق أور عند ناصر!

- ماذا أنت مجنون؟ ألا تخاف اباك؟

- آه لوعرفت كم هي جميلة ورقيقة زوجته .. آية في الجمال .. لا أعرف لماذا كرهوها قبل أن يروها ويعاشروها.

شردت والدتي كأنها تنتظر مني أن أتحدث وأتحدث .. غير أن خوفها علي من غضب أبي أوحى لها بالكلام:

- إعلم أن والدك لا يهزر ولا يضحك في مثل هذه الأمور وأنت لست أحرص منه على أخيك!

- ناصر يا أمي سيتعين بعد ستة اشهر أو اكثر ومعه نقود بالكاد تكفيه هو وزوجته للسكن والطعام لبضعة اشهر ..

عندئذ تمتمت بحسرة:

- مسكين الله في عونه " لحظات ثم قالت وهي تهز رأسها وعيناها تتأملاني .. . ثم وضعت يديها على كتفي وقالت: إذهب إلى البيت الكبير مع أختك وقل لخالتك أم ناصر أن تأتي إلي بشغل ضروري ..

- هل تخبرينها بزيارتي لناصر؟

فردت بضيق: هذا ليس شغلك!

 لا أعرف بعد ذلك ماذا جرى بين أمي وخالتي أم ناصر التي راحت منذ تلك اللحظة تنظر إليّ بابتسامة حلوةٍ مرةٍ وتخصني ببعض الاهتمام .. أما في اليوم الثاني فقد وضعت الدتي في يدي مظروفا وقالت خذ هذه الثمانين دينارا إلى اخيك سلفة مني وقل لناصر إن الحاج جعل أمه تقسم على المصحف أن تقطع علاقتها بك وهي لا تريد أن تحنث بِقَسَمها وسوف ترجع إليّ النقود حالما يهدأ غضب الحاج ويعفو عنك!

5

صندوقان

أحضرت الأم صندوقين معدنيين، للصبيّ وأخته، قالت لهما وهي تلوح بالحلقة في يدها:سأحتفظ بالمفتاحين عندي، يضع كل منكما مايفيض عن حاجته من نقود هنا .. كلّ في صندوقه .. فاذا امتلآ سلمتكما المفتاحين لتجدا أن هناك نقودا كثيرة تجمعت في كل صندوق!

 راحا يتسابقان فيحشر كل منهما ما يأخذه من أبويه في صندوقه .. وسأل أمي ذات يوم إن كانت تعطي أخته أكثر منه فردت بامتعاض أنها لاتفرق بينهما .. خاطر شيطاني مر بذهنه فشك .. تمتم مع نفسي أنها تتعاطف مع "لؤلؤة " كونها بنتا .. وظنّ أن صندوقها أثقل من صندوقه .. نسيت أنه يخرج أكثر منها ويشتري من حانوت المدرسة .. مضت بضعة اشهر فقل صبرالصبي .. في غفلة الأم أحضر مطرقة ووضع الصندوق على دكة المطبخ راح يضع كلابتي المطرقة في أذن القفل فيسحبه .. كاد يندفع إلى الخلف فيصطدم ظهره بالجدار .. انكفأ الغطاء على الدكة وانقلب الصندوق على الأرض فتطايرت النقود منه وتبعثرت على ارضية المطبخ .. خمسات .. عشرات .. قطع من ذوات الخمسة وعشرين فلسا والخمسين .. نقود كثيرة لفت الصوت اهتمام الأم فهرعت نحوه قالت والدهشة ترتسم على وجهها:

مابك تعجلت على الصندوق قبل أن يمتليء كأيِّ محروم لم يشاهد نقودا من قبل ..

الفصل الخامس: وجاهة

يأتي زائر ويروح آخر ..

وجهاء وشيوخ عشائر

أصدقاء والدي ..

 لا أحد يضع اللوم على الشيخ .. الجميع يشيرون إلى أن الحق في سلته .. والشيء الذي زادني دهشة أن الخالة أم ناصر لم تنبس ببنت شفة فوجد أبي أن الجميع معه في غضبه على ناصر ولم يبق إلا هؤلاء الأقرباء والعشيرة والوجهاء من الأهل والمعارف .. هل يعقل أن يسكن ابن الوجيه الثري الشيخ الصالحي مع زوجته في فندق .. يا شيخ صالحي أنت ساعدت فلانا وفلانا .. هل نذكر أسماء من غمرتهم بفضلك .. القريب والبعيد ينعمون بخيراتك .. ولا ينسى أحدأنك كنت تعطي أيام العسر من غير أن يعرف المحتاج من أعطاه .. مهما يكن ناصر ابنك ..

لا أظنني أجانب الصواب إذ أرى زيارة بعض أعيان آل الصالحي للبيت الكبير شفت بعض روح الاستعلاء عند والدي .. كان الحاج يبدي تزمته في كثير من الأمور يعنى بالعادات والتقاليد التي راح ضحيتها أخواتي الثلاث حيث جعلهن يتركن المدرسة حالما أنهين المرحلة الابتدائية، لقد رآى امتداده فينا نحن الذكور،وربما أراد أن يعزز مركزه حين وجد أن زوجته الأولى أم ناصر توقفت عن الانجاب اقترن بأمي إذ عرف أهلها خلال علاقات تجارية واسعة مع جدي في البحرين الذي لم يتردد ولم يطلب شيئا لابنته سوى الستر وبيت باسمها كما لوأن البيت يغطي تلك المسافة البعيدة التي تنتقل إليها من البحرين ..

 كل ذلك ليرزق الحاج بمواليد ذكور أكثر فيزداد زهوا وفخرا بين آل الصالحي وهو أب لمهندس في النفط وآخر محام وأنا - فيما بعد - المهندس المدني .. لكن ناصر يبقى تاج العائلة وكبيرها وأول مولود اكتحل به عينا أبواه.

 والذي زاد أبي زهوا وفخرا وجعل يلين هو مارأيته من رجاء أبداه آل الصالحي أمامه وزيارات كبيرهم وعمدتهم له لا استبعد أن أخي زارهم ورجاهم وحدثهم في التوسط.شخص جاء وطرق بيتنا ،آخر يأتي اليوم، ونحتمل زيارة مفاجئة يوم غد ويوما آخر، يأتون فرادى يطلبون العفو وفي أحد الايام جاؤوا مجتمعين يسير أمامهم عمدة آل الصالحي ، كنت أتردد بين غرفة الاستقبال والمطبخ حيث أخواتي وزوجة ابي أنقل الماء والشاي في حين انتظرَ الجميع قبل أن يمدّ أي منهم يده ليرتشف جرعة ماء ،وكسر صمت الجميع كبير العشيرة:ابنك ابني وأنت أخي، ماذا يقول الناس .. عشيرتنا تخلت عن ابنها سوف يلحقك العار أجل. إن لم تؤوه فسآخذه أنا في بيتي، سأتحمل نجاسة زوجته فلعلها في يوم من الأيام تعتنق الإسلام ولي في هذا عمار الدارين لكن تذكر يا ابا ناصر سيقول الناس أننا دخلنا بيتك ولم نرتشف جرعة ماء!

كان أبي يردّ بزهو تشع منه مرارة ما:

- أنا لم أخطيء ياشيخ ربما غفرت له لو سافر على نفقة الحكومة .. أقول بنقود الدولة التي تأتيها من الحلال والحرام تزوج ابني .. طالب بعثة . الدولة أنفقت عليه .. ماذا يقول الناس بنقود أبيه الحاج الصالحي عاد ومعه منكر .. كافرة سافرة لا تنطق الشهادة ولا تعرف الدين ..

- ولوياحاج مهما يكن فهو ابنك الظفر لا يتبرأ من من اللحم ووالله الحي القيوم إن لم تقبله في بيتك فسآخذنه عندي ولن أخطو بعد عتبة بابك وأنت الكريم!

عندئذٍ صاح أبي بصوت غليظ يكسر قسما قطعه على نفسه:

- ولو ياعمدة آل الصالحي بيته بيتي وزوجته كنتي ليأت متى شاء ..

ولم يلتفت أحد منا أن أبي لم ينطق اسم ناصر على لسانه وظل هذا ديدنه إلى أن مات .. قد يرد على ابنه تحيته إذا ما التقاه مصادفة في الصالة أو يمد يده ليقبلها غير أني منذ ذلك اليوم لم أسمع الحاج يذكر اسم ناصر ، كنت بدوري أنتظر الوقت ينصرم .. هناك فرح ما يغمرني، اختي الصغرى اغادرت إلى بيتنا وأختاي تنظران نحوغرفة الضيوف ذاهلتين .. الكبرى تعض شفتها قرفا .. امتعاض وارتياح يبدو على وجه أم ناصر لكن عدم الرضا هو الغالب .. كنت أنتظر خروج الضيوف مع ذلك لم أصبر. سألت:

- خالتي هل أذهب؟

وردت أختي:

- أما شبعت من اللعب؟ إنتظر حتى تجلب الصينية والاقداح فقد يحتاجون إلى شاي أو ماء.

 أعرضت حالما غادر الضيوف عن الذهاب إلى الساحة القريبة من بيتنا ولعب كرة القدم .. وصلت فندق أور زهذه المرة عرفني موظف الاستعلامات فأشار أن أصعدإلى اخي .. قبل أن يسمع الخبر من أي أحد .. فرح ما يغمرني .. ناصر سيكون في البيت الكبير .. اليوم .. غدا أو بعد غد ربما هذه الساعة .. قال لي تعال معي " روث" ستبقى في الغرفة تحب أن تنام الآن وعندما وصلنا إلى مقهى الشاطيء على الكورنيش:

- لا بأس سنأتي في الليل أنا ورووث هنا مكان جميل!

قلت بدافع الفضول:

- ناصر هل جاء كبير آل الصالحي من تلقاء نفسه أم أنت طلبت منه؟

فابتسم بعفوية وقال:

- نعم أنا .. المسألة ليست نقودا أستطيع العيش على الكفاف استلف من أصدقائي إلى أن أحصل على شغل لكن لم أرد أن أقطع أية صلة بي معكم فكرت أن حياتي معكم أنا وروث تجعل أهلي يتغيرون من يدري!

ناصر دائما يتحدث بأحاسيه وعقله لا ينسى مشاعره قط أما أنا فقد تلاعب بذهني سؤال عفوي بعقل طالب في الصف الأول الثانوي:

- أقول لماذا لا تجاريهم رووث .. تدعي أمامهم أنها مسلمة وتنتهي المشكلة من الأساس!

بابتسامة واسعة فاتني مغزاها قال:

-رووث امرأة لا يعنيها الدين إنها اسكندنافية لا تفعل شيئا من دون أن تقتنع به لو أن اهلي استقبلوها ورحبوا بها ربما تفكر بتغيير قناعاتها فيما يخص الدين والروح والعقيدة التي تعني عندها أمرا ثانويا ورثته ولا يهمها أمره!

- إنها تحبك .. تركت بلادها من أجلك قبلت بالحر والغربة وضحت السعادة في وطنها ..

العواطف والاختيارشأن ىخر والكذب قضية أخرى .. الاعتقاد وحرية الاختيار شيء مقدس عند الاوروبيين عندما تكبر ولا أظن أبي سيبعثك للدراسة على نفقته بل أنا مازلت عند وعدي لك عندئذ ستعاشر الأوروبيين وتعرف خصوصياتهم!

فهمت ولم أفهم .. اما الذي طغى على مشاعري وقتها أكثر من أي حدث فهو عودة أخي ناصر إلى البيت الكبير،وقد غاب عن ذهني أن والدي يبيت تلك الليلة عند والدتي،حين وصلت سألتني أمي بصوت منخفض: اين كنت قلقنا عليك أختك ذهبت ولم تجدك في ساحة كرة القدم، ورأيت سحنةلا تدعوإلى القلق على وجه أبي الذي بادرني بسؤال مألوف كلما وجدني أتأخر، فقلت منكسا رأسي:

- حين علمت أنك رضيت عن ناصر ذهبت لأبشره بعفوك قبل أن يبادره غيري!

لا عقاب .. لا غضب .. كأنه يشعر أن هناك علاقة تشدني إلى أخوتي .. يعرف مشاعر ناصر .. ويتذكر تمرده عليه فاندفع ينفث الهواء من فمه بضحكة مريرة:

أنا عفوت عنه لكني لن أرضى عنه ما حييت بل إن لساني لا يطيق ذكر اسمه!

قصة طويلة

 

قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم