صحيفة المثقف

عبد الجبار الرفاعي: لا قيمة لأفكار تتصل بالدين لا صلة لها بمثال بشري مجسد (1-2)

ذكر الرفاعي في مقدمة كتابه "الدين والظمأ الأنطولوجي: أنّه أراد أن يتحدث في هذا الكتاب عن سيرة روحية أخلاقية فكرية حية، وأنّه لا يكتب للأكاديميين، بل يكتب أشواق روحه، وسيرة قلبه، وأسئلة عقله .. فهذا الكتاب – بحسبه - "رسالة في الإيمان"، بمعنى أنّها وثيقة لإحياء الإيمان، وليس كتابا أكاديميا. الكتب من هذا النمط – فيما يرى – تخاطب الروح، والقلب والضمير، عبر العقل. (1)

إنّ هذا النوع من الكتابة يجعل قراءة مفاهيم الرفاعي وتقييمها أمرا أقل يسرا مما لو كان قد كتبها بلغة أكاديمية. فمن الواضح أنّ قراءة المفاهيم واستيعابها وتقييمها يتوقف على الإحاطة بجميع الأفكار ذات الصلة بها. ولا يخفى على أحد أن الكتابة الأكاديمية يمكنها أن توفر لنا مثل تلك الإحاطة، دون عناء كبير، ذلك أنّ هذه الكتابة، تصرح بمفاهيمها، وتعرّف بكل مفهوم منها باستحضار جميع الأفكار ذات الصلة به في موضع بعينه، لترسم لنا بذلك مرادها منه، في حين أنّ الكتابة المتحررة من القيد الأكاديمي تجد نفسها في حل من إيراد الأفكار في مواضع بعينها، بل هي تترك أفكارها تنساب بحسب مقتضيات وسياق الحديث، فضلا عن أّنّها – في معظم الأحيان – تجد نفسها في حل من التصريح بمفاهيمها، والتمييز بين ما هو أساسي منها وما هو ثانوي، تاركة رصد ذلك كله للقراءة العميقة والمتمعنة.

في هذه المقالة – كما في المقالة السابقة: " الرفاعي وإعادة الاعتبار للذات " - أحاول التعرض لقراءة ما أعتقد أنّه أحد المفاهيم الأساسية التي يتبناها الرفاعي، من خلال استحضار الأفكار ذات الصلة بالمفهوم ونظمها بالشكل الذي يبرز صورته الكلية، على وفق ما تقتضيه نصوص الرفاعي وما يترتب عليها، والتي ربما تأتي مطابقة لتصوراته، أو ربما لا تكون كذلك.

قد يلاحظ من يقرأ مقالتي السابقة " الرفاعي وإعادة الاعتبار للذات "، وهذه المقالة، أنّي أعرض مفهوم الرفاعي دون أيّ تقييم – لا بالسلب ولا بالإيجاب –، وهذه ملاحظة صحيحة، والأمر مقصود عندي؛ حرصا على تحقيق قراءة بريئة من الأحكام المسبقة، قدر المستطاع؛ ذلك أنّ محاولة تجلية المفهوم على ما هو عليه تصبح مستعصية إذا ما كان هدف القارئ المسبق الإصطفاف إلى جانب المؤلف أو الوقوف ضده، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أعتقد أنّه من غير الدقيق التعامل نقديا مع مفهوم هو جزء من مشروع دون استكمال قراءة جميع المفاهيم الأخرى التي تنتمي لذلك المشروع، واستبيان العلائق بينها، وتمييز ما هو أساسي وثانوي منها، وبالتالي تكوين فهم شامل يسمح برؤية أوضح للمشروع ولجميع المفاهيم المكونة له.

انتقل الآن إلى موضوع المقالة، وأقول:

(1): يعتقد الرفاعي: أنّ ما يُلهم الإنسان الإيمان هو اكتشافه صورة الله في الإنسان. الناس لا يمكنهم الشعور بالله خارج إطار العلاقة بالبشر. (لا قيمة لأفكار تتصل بالدين لا صلة لها بمثال بشري مجسد). (2). الناس كي يؤمنوا، يفتشون دائما عن أمثلة حسية، أمثلة بشرية مجسدة للإيمان، وللتدين الإنساني الروحي الأخلاقي. الإيمان يقترن دائما بأمثلة بشرية مجسدة، واثقة بالله متفائلة، حياتها مشبعة بالمعنى، سلوكها مرآة للخلق النبيل، روحها تفيض بالإيمان، يُضيء قلبها سبل الأسفار إلى الحق.

عبر هذه الشخصيات الروحية الأخلاقية الملهمة يتحسس الإنسان وجود الله. الناس يريدون إيمانا حيا، يمشي في الأرض. إنّهم لا يستطيعون العيش من دون عطف وشفقة وتراحم وحنان، ويحتاجون إلى من يُشعرهم بوجود الله وحضوره في حياتهم، لا من يثبت لهم وجوده كفكرة مجردة، لا صلة لها بحياتهم، مثلما يدلل عليه المتكلمون واللاهوتيون. (حينما لا يحيا الإيمان بوصفه صلة حية متوثبة بالله، وإنّما يقدّم بوصفه معتقدات ومقولات ومفاهيم وأفكارا ... فلن يرتوي القلب عندئذ بلذة وصال الحق، ذلك أنّ العقل هنا يحتفظ بمجموعة مفاهيم، هي بمثابة مومياءات محنطة خاوية، مفرغة من أيّة حيوية متدفقة). (3)

الناس يحتاجون إلى من يوقظ أرواحهم، ويوصلهم عضويا بالله، ولا يوصلنا إلى الله إلا ذوو الحياة الروحية الأصيلة. ولا تتكرس الحياة الروحية الأصيلة من دون حب الله ووصاله. معرفة الله غير حب الله.

يبين الرفاعي أنْ ما يعتقد به ينسجم مع ما في القرآن الكريم والكتب المقدسة الأخرى، فـ: (في القرآن الكريم وغيره من الكتب المقدسة يقترن الإيمان دائما بأمثلة بشرية مجسدة لللأنبياء ومن يؤمن بهم) (4)

(يُرسل الله دائما كتابا مع رسول بشر. البشر هو الكتاب العملي مجسدا. النبي الكريم (ص): "كان خلقه القرآن". لا يؤمن الناس بكتاب من دون مثال حسي يهديهم ويزكيهم ويربيهم بسلوكه وأفعاله ومواقفه الحسية. آمن الناس بالنبي الذي كانت أفعاله وسلوكه الحسي "رحمة للعالمين"، ثم بعد ذلك قبلوا الكتاب الذي جاء به. (5)

يهتم الرفاعي برصد الواقع وملاحظته للحصول على معطيات يُمكن أن تؤكد ما يعتقد به وفي نفس الوقت تؤكد على أهمية مضمون ذلك المعتقد، ذلك ما نلاحظه بوضوح فيما كتبه تحت عنوان " اكتشاف صورة الله في الإنسان: (لاحظت أنّ انهيار التدين لدى بعض الشباب يرتد إلى غياب المثال المجسد للتديّن الإنساني الروحي الأخلاقي. ناقشت بعضهم ساعات طويلة، لماذا يمضي إلى مديات قصية في مواقفه السلبية من الدين، لم يُعلن أحدٌ منهم أمامي إلحاده بالله، ولم يحاجنّي بنفي براهين المتكلمين على وجوده تعالى، وإنّما اتفقوا جميعا على أنّهم يقرؤون عن حياة روحية، ويسمعون حديثا مكررا عن مفاهيم أخلاقية، ومواقف إنسانية، غير أنّهم قلما يعثرون على أمثلة لها. إنّهم يفتقدونها فيمن ينادون بها، ولا يرون ملامح صورتها في سلوكهم، ويندر أن يعثروا على من يهتدون بسيرته العملية في المحيط الذي يدرسون ويعيشون فيه). (6)

(يشكو بعض الأصدقاء من هروب بعض الموهوبين في المدارس الدينية إلى خارج الدين. السبب حسبما اكتشفت، هو فقدانهم الإيمان الذي هو الإنسان، والإنسان الذي هو الإيمان، أي ندرة عثورهم على إيمان مجسّد بإنسان، والإنسان المجسّد للإيمان). (7)

وكتب تحت عنوان "تدين مفرغ من الحياة المعنوية" ما نصه: (نلاحظ معظم الشباب المنخرطين في الجماعات الإسلامية، أرواحهم منطفئة، لم يضئها الإيمان، وأفئدتهم جائعة لم تُشبع بالمعنى، وقلوبهم ظامئة لم ترتو بحب الله والإنسان والعالم، وسلوكهم لا يخلو من مفارقات وازدواجية، تنتهك الأخلاق في السر، وإن كانت تتظاهر بها في العلن؛ ذلك أنّهم يفتقرون لمثال بشري روحي أخلاقي مجسّد في محيطهم، سلوكه مرآة للخلق النبيل، وروحه تفيض بالإيمان، ويُضيء قلبه سبل الأسفار إلى الحق.

لا نعثر في هذه الجماعات على نموذج مشبعة حياته بالمعنى، يمتلك كيمياء روحية، تمنح هؤلاء الشباب القدرة على استعادة هويتهم الشخصية المفتقدة، وتشبع حاجتهم للاختلاف والتميز، وتساهم في تعزيز قدرتهم على إثراء حياتهم أنطولوجيا، وتساعدهم على أن تكون حياتهم أجمل، في عالم يتشيأ فيه كل شيء، مكانيا وزمانيا). (8)

وفي نص يتضمن ذلك المعنى، ويشير إلى النتائج السيئة التي تترتب على عدم العثور على الأمثلة البشرية الروحية الأخلاقية، يقول الرفاعي (يتكرر هذا التساؤل لدى الباحثين والمهتمين: ما الذي يسوق الشباب في الغرب وغيره، ممن هم في كفاية معيشية، وبعضهم يعيش ترفا ماديا، للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا، والتسابق على الانخراط في وحشية عبثية، تتلذذ بالدم المسفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحارية؟

الشباب يتساقطون في ولائم الذبح، ويتلذذون بالدم المسفوح، كالفراش المتهافت على لهيب الشمعة في ليلة مظلمة، بسبب ما يعانون من ظمأ أنطولوجي للمقدس، وبسبب رتابة الحياة، وذبولها، وتكرار كل شيء فيها، وانطفاء المتعة التي تمنحها لهم الملذات الحسية، فمهما كان شغفهم بالملذات الحسية، فإنّهم يصلون حدا يفتقد فيه كل شيء معناه في حياتهم، بل يبلغ غرقهم في كل ما هو مادي من متع جسدية درجة الغثيان، عندما تتخشب فلا تبوح لهم بأي معنى؛ لذلك يتهافتون على ما يتوهمونه أنّه منبع المعنى، الذي يفتقدونه في عالمهم، فيحسبون هذه الدروب الخاطئة المظلمة التي تقودهم إلى تناقض المعنى، وكأنّها مسار يوصلهم إلى روح المعنى.

إنّهم ما انفكوا يهرولون بغية التشبث بأي شيء يتكامل به وجودهم، واقتباس لهيب شعاع يوقد جذوة أرواحهم، بعد أن انطفأت فيها جذوة الحياة، والشغف بامتلاك بصيرة تكشف لهم عن تجليات جماليات الوجود المحتجبة عن قلوبهم، وتخلصهم من كل هذا القبح المتفشي في العالم.

إنّهم بمثابة الظامئ، الذي يحسب ماء البحر عذبا، لكنّه كلما شرب منه ازداد عطشا، أو كالعطشان، الذي يحسب السراب ماء لكنه يظل ينهكه المزيد من الجري وراء ذلك السراب الموهوم.

إنّ كل ذلك ينشأ من قلقهم الوجودي، وتفاقم اغترابهم في مجتمعاتهم، وتلاشي الوشائج العضوية للانتماء لأوطانهم، وشعورهم المرير بالعزلة وسط محيط عدائي، وتفاقم إحساسهم الموجع بعدم الأمان؛ لأنّ كل شيء ضدهم: الحياة ضدهم، المجتمع ضدهم، الثقافة ضدهم. إنّهم لا يعلمون أنّ مسار المعنى في حياة الإنسان لا تبتكره إلا الأحلام الكبيرة، لا تنجزه إلا الأرواح المتوثبة، لا يراكمه إلا الصبر الطويل، لا يُشبعه إلا الإيمان). (9)

(الشباب الذين يُلقنون أدبيات الجماعات السلفية الجهادية ينصبون أنفسهم بوليسا إلهيا، وأوصياء على البشرية، يراقبون حركات الناس وسكناتهم، وينتهكون خصوصياتهم، ويستبيحون دماءهم، وكأنّهم لا يعلمون أنّ الله غني عن العالمين، وليس فقيرا أو عاجزا كي يمنحونه احتياجاته. المحزن أنّ هؤلاء الشباب لا يعلمون أنّ صوت الله لا نسمعه إلا بصوت الإنسان. فلو مات صوت الله في ضمير الإنسان لن نسمع صوته في آياته التكوينية والتدوينية، وأنّ الطريق إلى الله لا يمر إلا عبر الإنسان، ورحمة الله لا تتجلى إلا في رحمة الإنسان، ونور الله لا نقتبسه إلا بإشراقه في قلب الإنسان، وكرم الله لا يظهر إلا بيد الإنسان. حين نلتقي عاشقا لله فإنّه أجمل عاشق للإنسان). (10)

وفي سياق تأكيده لما يعتقد به يقول - أيضا –: (تنبهت إلى أنّ البواعث العميقة للتدين ترتبط عضويا بحساسيات ومشاعر الإنسان وعواطفه، وأنّ الإنسان بطبيعته لا يهتدي إيمانيا إلا بالقدوة العملية الملهمة، تلك القدوة التي تسقيه الارتواء الروحي، وتمنحه السلام النفسي، وتغمره بالرأفة والشفقة كي تخلصه من الاغتراب، وتشعره بالحماية والأمن في الحياة.

الناس كي يؤمنوا، يفتشون دائما عن نموذج بشري مجسد للإيمان المتواشج عضويا بالحب، والحب المتواشج بالإيمان، يحتاجون إلى من يُشعرهم بوجود الله وحضوره في حياتهم، لا من يثبت لهم وجوده كفكرة مجردة، لا صلة لها بحياتهم، مثلما يدلل عليه المتكلمون واللاهوتيون. يحتاجون إلى من يوقظ أرواحهم، ويوصلهم عضويا بالله، بوصفه المنبع الحقيقي للطاقة الحيوية الإيجابية، التي يتغلبون بها على ذلك الوجع الأسود المتفشي في العالم، والذي لا تطيقه قدرة عامة البشر ... الناس لا يمكنهم الشعور بالله خارج إطار العلاقة بالبشر. ما يُلهم الإنسان الإيمان هو اكتشافه صورة الله في الإنسان. الناس يريدون إيمانا حيا، يمشي في الأرض، يعيش مثلما يعيشون، يتحسس أوجاعهم، يسقيهم مطر الرحمة الإلهية من خلال ما تفيضه نفحات روحه عليهم. يتضامن معهم عمليا، في كل ما ينهك حياتهم، ويجتاحهم من عذابات، ويسود عالمهم من آلام. الناس لا يستطيعون العيش من دون عطف وشفقة وتراحم وحنان). (11)

(الناس قلقون من فقدان إيمانهم. إنّهم يبحثون عن خارطة طريق تنقذ حياتهم من القلق والاضطراب واللامعنى، وتهبهم الخلاص، وترشدهم إلى دروب النجاة). (12)

يعزز الرفاعي ما يعتقد به (أنّ ما يُلهم الإنسان الإيمان هو اكتشافه صورة الله في الإنسان) عمليا، من خلال ما يحكيه لنا عن إيمانه الشخصي، فهو يؤكد أنّ إيمانه لا يستند إلى العقل، وكيف يكون ذلك وهو يشكك فيما: (إن كان للعقل وجهة أو مسار). (13) فـ - فيما يرى -: (لو كان الإيمان أمرا عقليا يتصدع وينهار بالتساؤلات الحائرة، والأفكار القلقة، لانهار إيمان أعلام كبار المتصوفة والعرفاء والفلاسفة. ففي تراثهم نعثر على إعلاء لقيمة "الشك" وبيان الأثر البناء في الوصول للبصيرة والإيمان الراسخ). (14) يقول: (يتساءل بعض الزملاء: كيف تسنى لك المحافظة على تدينك، وتنمية إيمانك على الدوام، مع أنّك تطرح أسئلة لاهوتية تتصدع معها أسيجة المعتقدات ... ؟). (15)

على أن نشير إلى أنّ تشكيك الرفاعي في العقل إنّما يطاله في مستوى الثبوت لا في مستوى الإثبات، فـهو يقول: (ربما يحسب بعضهم أنّ الإيمان بوصفه حالة للقلب، لا ضرورة للتوكؤ على العقل في تفسيره، وبيانه، وتحليله، وفهم بواعثه، وأنماطه، وصيرورته، وتجلياته. كما لعله يُظن ألا ضرورة للعقل في تفسير وتوصيف الدين وتموضعه في بنية المجتمعات. لا ريب في أنّي لا أريد ذلك، فمن البداهات أنّ كل ما نحكيه هنا يصدر عن العقل، العقل وحده بوسعه أن يمنحنا فهما صحيحا لما يتصل بالعقل والروح والقلب والجسد. لحظة يتعطل العقل يتعذر بلوغ أية معرفة بالعالم والإنسان والحياة). (16)

يذكر الرفاعي أنّ أمه هي من أرضعته الإيمان، وأنّه استلهم دروسه الروحية منها، وأنّ تجربتها الدينية ظلت منبعا لا ينضب يستقي منه تدينه، وإلى نمط تدينها يعود الفضل في رسوخ إيمانه، وتجذر الأخلاق في ضميره.

يقول الرفاعي: (نبدأ يومنا باستيقاظ أمي فجرا، وهي تتلو ترنيمتها اليومية " اللهم صلي على محمد وآل محمد، أصبحنا وأصبح الملك لله، سبحان الله، لا إله إلا الله، الحمد لله رب العالمين ... "، أرضعتني أمي بتلك الترنيمة الصباحية إيمانها الجميل اللذيذ، مثلما أرضعتني حليبها. كنت منذ طفولتي أغفو بجوارها، وأستفيق على نغم تهليلها وتسبيحها وتمجيدها. استلهمت دروسي الروحية منها، لم تكن أنشودتها كلمات، وإنّما هي حالات تسقيني ما يسكر روحي. إنّها ضوء وصور وحقائق، تتحسسها مشاعري، تشع على فؤادي، تهيمن على وجداني، وتشرق في روحي. أحيانا ينتابني شيء من الدهشة، أمام المشهد الذي ترسمه كلماتها. إنّها ليست كلمات يابسة متخشبة، وإنما هي شموع تخلع على قلبي انشراحا وابتسامة.

ظلت التجربة الدينية لأمي منبعا لا ينضب يستقي منه تديني. هي من غرست المنحى الميتافيزيقي الروحي الأخلاقي في حياتي، وإلى نمط تدينها الفطري العفوي البرئ الشفيف، يعود الفضل في رسوخ إيماني وتجذره، ومقاومته لأية مجادلات، أو مناقشات، أو إشكالات، أو مشاكسات، أو قراءات تشكيكية. وإلى تدين أمي يعود الفضل في تجذر الأخلاق في ضميري.

إيماني مطمئن في فؤادي، في فضاء محصن منيع، بعيدا عن شطحات عقلي، ومشاكساته الفلسفية، واستفهاماته اللاهوتية القلقة والحائرة. فشل عقلي في أن يطيح بإيماني، أو ويقوضه أو يزلزله. ما زالت كلمات أمي حاضرة لحظة أستيقاظي، بالرغم من مضي أكثر من خمسين عاما). (17)

بحسبه: إنّه استلهم إيمانه – أيضا – من الميراث المعنوي العميق، واستدعاء التجارب الروحية التطهيرية التنزيهية السامية في التاريخ، (18) ومن النماذج الأخلاقية الروحية التي استكشفها خلال حياته؛ ذلك أنّ الحياة علمته - فيما يقول –: أنّ الكائن البشري تنضب طاقته الإيجابية، وتذبل حياته، من دون تربية الروح على استكشاف بؤر الضوء، وإن كانت شمعة في لجج الظلام. (19)

(2) وفي هذا السياق يحذر الرفاعي الناس الذين يفتشون عن نموذج بشري مجسد للإيمان، من أن تخرج علاقتهم بالقدوة الملهمة، من إطار الشعور بمدنيونية المعنى، وتتحول من علاقة اهتداء بإيمانها وبملكاتها الاستثنائية، وتوقد تجربتها الدينية، ومواهبها الروحية إلى علاقة تتفشى فيها أمراض وعاهات تقاليد الاسترقاق ومسالك الاستعباد والرضوخ والطاعة العمياء للقدوة الملهمة، والمبالغة في صياغة صورة لها تُعلي من مكانتها كثيرا، حتى تُخرجها من طبيعتها البشرية، وتحولها إلى شخصية " ميثولوجية "، عابرة للزمان والمكان، لا تشبه تجربتها البشرية، وتتعالى على مشروطيات وظروف حياتها الأرضية. هنا تنفلب وظيفة القدوة من كونها سبيلا يرشدهم إلى الله إلى حاجز يحول بينهم وبين الله.

(إنّ خطورة أي شخصية دينية تكمن في عبورها من الواقعي إلى الميثولوجي، بل انقلابها من كونها حقيقة إلى متخيل محض، لا حضور له في الواقع. وقتئذ يصير الرمز مُنوّما بعد أن كان مُلهما، مُخدّرا بعد أن كان موقظا. فتنقلب الأديان وتهرب إلى عالم غير عالمها تخسر فيه رسالتها. نعم، في كل ديانة غطاء ميثولوجي، لكن حين يستهلك الغطاء المضمون، تخسر الأديان مقاصدها وأهدافها). (20)

(العبور بالشخصيات الملهمة من الواقعي إلى الميثولوجي ظاهرة متفشية لدى أتباع الأديان والأيديولوجيات والثقافات، لا تختص بثقافة أو أيديويولوجية أو ديانة، لكنها تبلغ مدياتها القصوى عند أتباع الأديان، حيث يبالغ هؤلاء في غرامهم وذهولهم حيال شخصياتهم الملهمة، إذ يبلغ غرامهم حدا يجعلهم أحيانا لا يقبلون لها أن تنتمي لطرائق العيش المتعارفة في الحياة ومشروطيات الاجتماع والزمان والمكان البشري، فيصنعون لها تاريخا مقدسا تنتمي إليه يقع خارج التاريخ، ولا تنتمي لتاريخها الإنساني في الأرض.

لا يكتفي عشاق الشخصيات الروحية ومريدوها بالاهتداء بملكاتها الإستثنائية، وتوقد تجربتها الدينية، ومواهبها الروحية، ولا يتوقفون عند صفاتها البشرية، بل عادة ما يبالغون فيها، فيصوغون لها صورة متخيلة تُعلي من مكانتها كثيرا، حتى تخرجها من طبيعتها البشرية. تنسج هذه الصورة أحلامهم الرومنسية، وتغذيها رغباتهم المثالية، وتعززها آفاق انتظارهم غير الواقعية، وتضخمها نزعتهم المتجذرة لطلب الكمال لأنفسهم.

من هنا نراهم يبالغون في إضفاء السمو والكمال على شخصية ملهمهم ومثالهم ونموذجهم الروحي. وتظل تلك الصورة المتخيلة لنموذجهم تتسع وتتمدد باستمرار، أثر مراكمة المناقب والكرامات عليها عبر الأزمنة، وما يخلعه عليها هؤلاء الأتباع، جيلا بعد جيل، من مختلف أشكال الكمالات والصفات الخارقة، إلى أن تتحول إلى شخصية " ميثولوجية "، عابرة للزمان والمكان، لا تشبه تجربتها البشرية، وتتعالى على مشروطيات وظروف حياتها الأرضية.

ذلك ما حدث لشخصية جلال الدين الرومي، فإنّ ما يسكن اليوم مخيال المتصوفة المولوية والمريدين هو مولانا الرومي "الميثولوجي"، وهو غير جلال الدين الرومي التاريخي، الذي عاش حياته الروحية وتجربته الدينية الخاصة في القرن الثامن الهجري في قونية، وتنقل بين محطات عدة من حياته، توجها كما يقال لقاءه شمس الدين التبريزي، الذي سقاه كأس العشق الإلهي، فكان منعطفا، أحدث تحولا في كيمياء روحه، انتقل معه إلى دين العشق الإلهي).(21)

لكل أتباع طريقتهم في المبالغة حيال شخصياتهم الملهمة، وإذا كان بعض المتصوفة قد حولوا جلال الدين الرومي إلى شخصية ميثولوجية، فإنّ السلفية (اختزلت التراث الإسلامي بابن تيمية ومدرسته وتلامذته، بنحو أمسى فقه ابن تيمية فوق كل فقه وفقيه، وتفسيره فوق كل تفسير ومفسر، وشرحه للحديث فوق كل شرح ومحدث، ورأيه في الفلسفة فوق كل فلسفة وفيلسوف، وموقفه المناهض للتصوف والحياة الروحية فوق كل تصوف وحياة روحية .. وهكذا. فلم يعد لفقيه، أو مفسر، أو محدث، أو متكلم، أو فيلسوف، أو متصوف، أيّ حضور مع تراث ابن تيمية وتلامذته.

لقد تحمس بعض المفكرين في بلادنا العربية بالإعلان عن ضرورة العودة إليه، بوصفه أهم مفكر وفقيه ظهر في تاريخ الاسلام، وأية محاولة تقفز عليه أو تتخطاه، إنّما تغامر بفقدانها أصالتها وافتقارها لتمثيل الأمة والإسلام وحضارته). (22)

ذلك ما يحدث عند الفلاسفة أيضا: (إذ ترتد ندرة الإبداع الفلسفي بالعربية إلى الاحتفاء بفلاسفتنا القدماء، وتحويل بعضهم إلى أصنام). (23)

(3): هناك العديد من النصوص التي يبين فيها الرفاعي الأوصاف التي تتحلى بها الأمثلة البشرية الأخلاقية الروحية، والأدوار التي يُمكن لهذه الأمثلة، بما تمتلكه من مقومات، أن تقوم بها في هداية الناس إلى الإيمان بالله.

يقول الرفاعي: (إنّها شخصيات، روحية، أخلاقية، واثقة بالله متفائلة، مفعمة بحب الله والإنسان والعالم، ملهمة. عبر هذه الشخصيات الروحية الأخلاقية الملهمة يتحسس الإنسان وجود الله، كما يطمئن الإنسان أنّ للعالم إلها لا تغيب رحمته، ولا ينقطع لطفه، ولا ينضب معين عنايته. ويشعر أنّه يمتلك معنى للحياة، وسببا للبقاء، ولديه ما يوصله بالسماء، ويربطه بالأرض .. الأخلاقيون الروحانيون في كافة الأديان والفرق والطوائف دافئون جذابون، لأنّهم يتدفقون شفقة وحنانا على الناس، ويمنحون حياتهم المعنى العملي الذي تفتقر له. وذلك ما تجسده حياة نبينا " ص " وأخلاقيات سيرته العملية، وسلوكه الكريم، الذي يطبعه الرفق بالناس والعطف عليهم، والرحمة بهم. كانت سيرته مرآة ترتسم فيها القيم والأخلاق الربانية، التي تحدثت عنها الآيات القرآنية، فهو " ص " رحمة للعالمين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء: 107). (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) (ال عمران: 159). وإنّ هدف رسالته يتلخص في بناء الحياة الأخلاقية (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) (24)

(يستمد العشاق أشواق الروح من الحق، تضيء قلوبهم أنوار الحق، تمتلئ أرواحهم بوجود الحق. يغيبون في حضرته، يحضرون في غيبته. تصير غيبتهم عن رؤيته رؤية، ورؤيتهم غيبته غيبة. كل محبوب سواه هو، وكل ما تحسبه العين ليس هو، ببصيرة أنواره يراه القلب هو، وإن تمثل بوجود سواه. يرتوي ظمأ العشاق الأنطولوجي، فيفيضون على سواهم، حيث يخط الحق على قلوبهم الأسرار، تتحول عناصر وجودهم إلى صفات الحق كما هي، لتكون بها هي. يفتقر سواهم لكل ذلك، فيغرقون في الوهم، ويتهافتون على كل ما هو زائف، بغية إرواء ظمئهم الأنطولوجي، الذي لن يرويه السوى أبدأ.

من يعيش هذه الحالات يجد العبارات تختنق وتضيق في توصيف الحالات؛ ذلك أنّ الكلمة لا تبوح بمضمونها، فكيف تشي بحالات الروح وتساميها. يصل أحيانا بعض أصحاب التجارب الدينية إلى حالات نور بهيج في باطنهم، بنحو يتلمسون فيه، أنّه كلما أمعن يقينهم أن يكون يقينا، رأوا ببصيرتهم أنّ ما يحدث لهم بمثابة معجزة. وكأنّهم قد اغتسلوا بالنور، وعشقوا النور، وأبصروا بالنور، بل صاروا نورا. تلك هي رحلة الكينونة إلى الحق، هكذا يتذوقون مراحل نمو صيرورتهم وتخلقهم. تبتسم لهم حنايا الكون كلما تأملوها، يشعرهم الوجود بفرحة قدومهم للارتواء، تدلهم بصيرتهم دائما على النقاط المضيئة في الناس والأشياء قبل ما هو مظلم. مع أنّهم يبصرون الظلام، لكنهم يشيحون عنه النظر. هكذا يحاولون أن يروا العالم، كي يترسخ حبّهم له باستمرار، خاصة في الأزمات والصراعات والحروب والفتن. ذلك هو منبع السكينة والأمن والسلام الذي يعيشونه مع أنفسهم والعالم). (25)

الأمثلة البشرية الأخلاقية الروحية هم (أصحاب تجارب دينية متنوعة، كتجربة الانجذاب والهيبة، تجربة الاعتماد، تجربة الأمل، تجربة الحب، وغيرها .. والتجارب الدينية بمختلف مستوياتها وأنماطها هي منهل ارتواء الظمأ للمقدس. ومع أنّها تختلف باختلاف البشر، وتمثلهم للإلهي في البشري، لكن كل شخص يرتوي منها حسب استيعاب ظرف وعائه وقدرته على المثول في حضرة الله ... الإيمان الديني يرتكز على هذه التجارب، والنوع الأعمق والأشد لهذه التجارب ما عاشه الأنبياء والأولياء والمتصوفة والقديسون؛ إذ كانت لهم تجارب متسامية، يسافرون عبرها للحق. التجارب الدينية أعمق مستويات الأديان؛ ذلك أنّها النواة المركزية لللأديان). (26)

(4): وحتى لا يُفهم مما تقدم من بعض النصوص أنّ وجود النماذج الملهمة أو الأمثلة البشرية الروحية الأخلاقية هو محض وهم وخيال، وأنّ (هذه النماذج مثالية متعالية على الزمان والمكان، غير بشرية) ينبه الرفاعي – علما أنّه قد عاش مثل هذا الفهم في إحدى مراحل حياته – (27) ويقول: (رغم ما يجتاح عالمنا من حزن، ويتجرعه من مرارة، ويغرق فيه من ظلام، غير أنّ في الحياة بؤر ضوء يبحث عنها الناس، كي يستلهموا الحلم بغد أجمل، ويتذوقوا ألوان صور خرائط الوجود المدهشة. بؤر الضوء هذه قليلة جدا، لكنها موجودة). (28)

وهو يحث المؤمنين إلى العمل على استكشاف النماذج الروحية الأخلاقية والاهتداء بها، حيث يقول: (علمتني الحياة أنّ الكائن البشري تنضب طاقته الإيجابية، وتذبل حياته، من دون تربية الروح على استكشاف بؤر الضوء، وإن كانت شمعة في لجج الظلام). (29)

(5): في ضوء ما تقدّم من حديث عن أهمية الأمثلة البشرية الأخلاقية الروحية، وأهمية تجاربهم الدينية، بوصفها منهل ارتواء الظمأ للمقدس، وركائز الإيمان الديني، والدعوة إلى الاقتداء بهم، يشعر الرفاعي بضرورة التمييز بين التجارب الدينية الحقيقية والزائفة. وهو في هذا السياق يحيل إلى المعرفة الدينية، ويذكر أنّ: (معارف الدين تهتم بتفسير هذه التجارب وتصنيفها، والكشف عن الحقيقي والزائف منها، وكيفية تمييزها عن: الحيل، والشعوذات، والهلوسات، والاضطرابات، والتشوهات، والعقد، والجروح النفسية، والأمراض العقلية، والانهيارات العصبية. ففي ميراث التصوف المعرفي والعرفان النظري نعثر على شروح وتفسيرات، تضيء لنا: حقيقة التجارب الدينية، وطبيعتها، وحدودها، وأنماطها، ووسائل تحققها، وآثارها في بناء الحياة الروحية. وبيان العلاقة العضوية للتجارب الدينية بإرواء الظمأ للمقدس) (30)

لم يكتف الرفاعي بالإحالة إلى المعرفة الدينية، بل حاول بنفسه أن يُسهم في مسألة التمييز بين التجارب الدينية الحقيقية والزائفة، علما أنّ مسألة التمييز في ضوء معتقداته تصبح أكثر تعقيدا؛ ذلك أنّه يعتقد – متفقا في ذلك مع العرفاء ومخالفا للاهوتيين – أنّ التجارب الروحية لا تحدّها حدود الأديرة والصوامع والمعابد، بل أنّ الحياة ميدان رحب يتسع لظهور وتطوّر أعمق التجارب المعنوية. إنّ التجارب المعنوية – بحسبه – تتعدد وتتنوع بتنوع الأشخاص، ولا تختصر في نمط واحد.

يقول الرفاعي في مقالته: " كامل شياع متصوّف خارج إطار الأدين " ما نصه: (لم تدهشني مناقبية وأخلاقيات ومعنويات إنسان أدمن في حياته الارتياض الروحي، وغرق في الطقوس، واعتكف بعيدا عن ضجيج الحياة، لتأديب نفسه وتنمية ضميره ومعنوياته، مثلما يفعل المرتاضون من المتصوفة والعرفاء والرهبان، لكن فوجئت حين عثرت على إنسان لا تعنيه الطقوس، ولم يرهق نفسه ويعذب بدنه في الارتياض الروحي، ولم يعتزل في صومعته، إلا أنّه طوى مدارج السالكين وارتقى إلى مقامات متسامية في قوس الصعود (حسب العرفاء) من دون أن يترسم ذلك الدرب. عندها أدركت أنّ التجارب المعنوية تتعدد وتتنوع بتنوع الأشخاص، ولا تختصر في نمط واحد، كما تحكي ذلك سير القديسين في الحياة.

ربما يعترض المرحوم كامل لو كان حيا، أو يعترض بعض رفاقه، على مقاربتي الروحية الشخصية، ذلك أنّ التجارب الروحية حدودها الأديرة والصوامع والمعابد، كما يحسب اللاهوتيون، وإن كان ما يقوله العرفاء لا يتطابق مع ما يراه اللاهوتيون، إذ تغدو الحياة لديهم ميدانا رحبا يتسع لظهور وتطوّر أعمق التجارب المعنوية ...) (31)

نعم، لو كانت التجارب الدينية تختصر في نمط واحد، وتُحدّ بحدود الأديرة والصوامع والمعابد، لكانت مسألة التمييز بين الحقيقي منها والزائف أقل تعقيدا مما عليه الحال فيما لو كان للتجارب الدينية أنماط متعددة ومتنوعة؛ إذ في الحالة الأولى ما علينا إلا أن نتجه نحو ميادين محددة، تنتج معاييرها المحددة للتمييز، ولكننا في الحالة الثانية، وحيث لا نجد حدودا معينة تختصر فيها التجارب، سوف لا نجد أيضا معايير محددة للتمييز بينها.

فما الذي فعله الرفاعي؟

لقد أدرك الرفاعي أنّ حديثه عن الصفات التي يتسم بها أصحاب النماذج الروحية الأخلاقية، لا يساعد كثيرا في هذا المجال، بمعنى أنّه لا يمكن التعويل على اتخاذ هذه الصفات كمعيار أساس للتمييز بين التجارب الدينية الحقيقية والزائفة، خاصة مع إمكان ادعاء هذه الصفات من قبل أصحاب التجارب الدينية الزائفة، وأنّ الكثير من الناس قد لا تتوفر لديه القدرة على كشف مثل هذا الادعاء. فـ (التجربة الدينية جوانية، غاطسة في الذات، بل متماهية معها، لا يمكن بلوغها بأدوات ووسائل حسية، وربما لا تشير إليها ظواهر التدين الخارجية، أو قد تشي بعكسها أحيانا، كما لدى معظم رجال الدين، الذين ربما يؤشر خطأ ما يمارسونه من قداسات وطقوس، إلى عمق تجاربهم الدينية، رغم أنّ عالمهم الباطن بعيد عن الله) (32)

في ضوء ذلك لم يجد الرفاعي نفسه قادرا على نحت معايير محددة للتمييز، ولذلك لجأ إلى محاولة تقليص المسافة أمام المؤمنين الساعين إلى البحث عن النماذج الروحية الأخلاقية، من خلال التنبيه إلى أنّ ثمة أنماط من التدين أو المعرفة الدينية أو الاتجاهات أو الجماعات الدينية لا يمكنها أن تكون هدفا للبحث عن تجارب دينية أصيلة تقود إلى إيمان حقيقي، لخلوها منها، ذلك أنّ هذه الأنماط – بحسبه - بطبيعتها لا يمكن لها أن تنتج مثل هذه التجارب الأصيلة، وأنّ أصحاب التجارب الدينية الأصيلة لا يجدون في مثل هذه الأنماط بيئة مناسبة لتجاربهم. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى وجه الرفاعي نحو أنماط محددة من التفكير الديني، مبينا أنّ مثل هذه الإنماط يمكن أن تشتمل على تجارب دينية أصيلة، ذلك أنّ معظمها بطبيعتها يمكن أن تؤدي إلى هذه التجارب، وأنّ بعضها إن لم يكن ينتج مثل هذه التجارب، فليس فيها ما يعيق ظهورها. على أنّ هذا لا يعني أنّه حصر ظهور التجارب الدينية وتطورها بتلك الأنماط، بل أنّه ترك الباب مفتوحا أمام ظهور التجارب الدينية الأصيلة من خارج هذه الأنماط، بمعنى أنّ الأمر مفتوح أمام الاحتمالات لأنماط أخرى تساهم في ظهور التجارب الدينية الأصيلة. فهو يقول (لا أرى الخلاص والشفاء في ميراث ابن عربي وأمثاله فقط، كما لا أريد القول أنّ ميراثه يتخطى المشروطيات التاريخية للزمان والمكان واللغة والثقافة، لكني أحسبه يتضمن رؤى ومقولات يمكن أن تكون منطلقا يضيء لنا دروب عبور سجون لاهوت التكفير وفقه الكراهية ...). (33)

في الملحق الأول من هذه المقالة سوف يتضح للقارئ الكريم، كيف أنّ الرفاعي حاول أن يبين أنّ أنماطاَ من الخطاب الديني (كخطاب الجماعات والأحزاب الدينية، والخطاب الأيديولوجي، وخطاب التصوف الطرقي السلوكي، والخطاب السلفي، وخطاب المدونة الكلامية والفقهية) لا يمكنها أن تؤدي إلى تجارب دينية أصيلة، في حين أنّ إنماطا أخرى من الخطاب (كخطاب الفلاسفة والعرفاء والمتصوفة) يمكنها أن تؤدي إلى مثل هذه التجارب.

(6): في ضوء ما تقدم قد يفهم البعض أنّ الرفاعي يقف في مواجهة المؤسسة الدينية التقليدية بشكل عام والحوزة بشكل خاص، أو على الأقل أنّه يعمل على تهميشها، وهو ربما يرى أنّ مثل هذه المؤسسات لا يمكن أن تكون موّلدة للقدوات الملهمة، ولكن الرفاعي – كما أفهم - يؤكد نظريا وعمليا خلاف ذلك، فهو من رجالات الحوزة وما زال منتميا إليها، وأنّه ما زال لحد الآن يحث تلامذته – بما فيهم من يواجه صعوبات في الاندماج في الحوزة - على ضرورة المكوث والاستمرار في التعليم الديني، (34) بالإضافة إلى أنّه يعتقد أنّ الحوزة بطبيعتها – رغم كل ما قد يقال عنها - تمتلك إمكانات تمكنّها من الخروج من السياقات المغلقة للفكر الإسلامي. (35) ثم أنّ العديد ممن رأى فيهم الرفاعي نماذج روحية أخلاقية هم من رجال الحوزة بما فيهم هو نفسه. كل ذلك يؤكد على أنّ الفهم السابق قابل للنقاش، وفي الملحق الثاني من هذه المقالة سوف ننقل عن الرفاعي ما يبين بشكل واضح موقفه من المؤسسة الدينية التقليدية.

(7) وإذا كان الرفاعي من الناحية النظرية قد آمن بأن الطريق إلى الله لا بد وأن يمرّ من خلال الإنسان القدوة الملهمة وانه لا قيمة لأفكار تتصل بالدين لا صلة لها بمثال بشري مجسد فإنّه من الناحية العملية لم يقدّم أفكاره أو مشروعه الديني دون أن يقرنه بمثال بشري مجسد. والمثال الروحي الأخلاقي هنا – بحسبه – هو الرفاعي نفسه.

يقول في حديثه عن كتابه " الدين والظمأ الأنطولوجي ": (لعل احتفاء القراء بالكتاب يعود إلى أنّه لا يسعى لتفكيك التفسير السلفي للنص الديني فقط، بل يحاول أن يكشف عن خارطة طريق للوصول إلى الله، بوصفه إله الحب والرحمة والخير والفرح والجمال والإرادة والثقة والحرية والكرامة والسلام، وليس إله الكراهية والشر والحزن والقبح والاسترقاق والخنوع وإهدار الكرامة البشرية والحرب.

يختصر هذا الكتاب مطالعاتي ودراساتي وتدريسي، وما تعلمته من تلامذتي وأساتذتي، كما ترتسم في ثنايا كلماته محطات وجروح حياتي. إنّه شكل من أشكال تدوين السيرة الذاتية.

كتاب " الدين والظمأ الأنطولوجي " خلاصة أسفار الروح والقلب والعقل مدة تزيد على نصف قرن، لبثت فيها أفتش عن ذاتي الهاربة مني، وبصراحة لم أظفر بها كلها حتى اليوم. كنت أغور كالغواص في طبقاتها، وكلما قبضت على شيء منها انزلقت مثلما ينزلق الزئبق بين الأصابع. أدركت ألا باب للنجاة إلا اكتشاف الذات والعمل على بنائها وتربيتها ما دامت الحياة.

لاقيمة لأفكار تتصل بالدين لاصلة لها بمثال بشري مجسد ... أردت أن أتحدث عن سيرة روحية أخلاقية فكرية حية في هذا الكتاب. لا أكتب للأكاديميين، أكتب أشواق روحي، وسيرة قلبي، وأسئلة عقلي. أنشد إحياء إيمان المحبة والرحمة والجمال والخير والإرادة والثقة والحرية والعدل والسلام. تتلخص مهمتي في بناء الحب إيمانا والإيمان حبا، واكتشاف صورة الله الرحمن الرحيم وتطهيرها مما تراكم عليها من ظلام وتوحش، فرحمة الله وطن حيث تفتقد الأوطان.

هذا الكتاب " رسالة في الإيمان "، بمعنى أنّها وثيقة لإحياء الإيمان، وليس كتابا أكاديميا. الكتب من هذا النمط تخاطب الروح، والقلب، والضمير، عبر العقل. ميزة رسالة الإيمان أنّها خطاب الروح والقلب والشعور من خلال العقل. إنّها ليست نصا يابسا باردا، وإنّما هي مثل كلمات الشعر التي يتحول معها كلّ شيء تلامسه شعرا. الكاتب الأصيل يكتب ذاته. أعظم تجل للكائن العميق أن تكون كتابته هو، ويكون هو كتابته. هذا هو الكتاب الذي يمثلني، ويعبّر عن مفهومي للدين والإيمان. كل كاتب يكتب كتابا واحدا، ما قبله تمارين، وما بعده تنويعات. من هنا يرى القراء ومضات من نصوصي الماضية في " الدين والظمأ الأنطولوجي ".

أعرف أنّ كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي" يُغرد خارج السرب، إذ يحاول أن يعزف لحنه الخاص، لكن تفاعل الكثير من القراء معه نشأ من أنّه يسعى للاعتراف بما يتطلبه كل من الروح والقلب والعقل، فلم يحذف أحدها، ولم يختزلها كلها بأحدها). (36)

(" الدين والظمأ الأنطولوجي " مرافعة للدفاع عن الدين، مثلما أفهمه، وأعيشه، ومحاولة بناء الحياة الروحية الأخلاقية العقلية، ونقد تحليلي لأدبيات الجماعات الإسلامية. رساتي تتلخص في إحياء الحياة الروحية الأخلاقية العقلية عبر تكريس حب الله والإنسان، وبناء قيم الحق والخير والعدل والجمال والثقة والسلام). (37)

لقد قدم لنا الرفاعي – بحسب الباحثة هاجر القحطاني – في كتابه " الدين والظمأ الأنطولوجي": (سيرة للذات لم يبخل فيها باعترافات مثيرة في محطات حياته. وهو لا يمر على جميع المواقف التي سردّها لنا في هذه المحطات مرورا عابرا، وإنّما يحاول أن يقدم لنا في سياق كل موقف تفسيرات متنوعة، ورؤى فلسفية، وتأمل نقدي عميق، حتى أضحت وقائع حياته هامشا محدودا حيال ما صاغه من مفاهيم وآراء ونتائج لتحليل وتفسير تلك الوقائع والحوادث، التي تبدو لنا عادية بالنظرة الأولية). (38)

ويُمكن القول أنّ كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي" نابع من إدراك الرفاعي لقلق الناس من فقدان إيمانهم وحاجتهم إلى خارطة طريق تنقذ حياتهم، ذلك ما يمكن فهمه من قوله: (الناس قلقون من فقدان إيمانهم. إنّهم يبحثون عن خارطة طريق تنقذ حياتهم من القلق والاضطراب واللامعنى، وتهبهم الخلاص، وترشدهم إلى دروب النجاة، وحين تغيب الكتابات الإيمانية الجادة يضيعون في كتابات لا يعثرون فيها على إيمانهم، وقتئذ يتفاقم اغترابهم. الإيمان أثمن الممتلكات القدسية للإنسان، الناس يبحثون عن كتابات لا يخسرون معها طاقة أرواحهم ومنابع أخلاقهم. كتابات ترسم لهم خارطة طريق تنجيهم من ضياعهم). (39)

(8): والرفاعي رغم أنّه يؤكد على فرادة تجربته، فـ: " الدين والظمأ الأنطولوجي " يغرد خارج السرب – بحسب ما تقدم منه – وما يقوله أيضا: (كتاب " الدين والظمأ الأنطولوجي " يشدو لحنه الخاص، خطيئته أنّه لم يكرّر الأصوات المكررة في أدبيات الجماعات الإسلامية، أو غيرها من أدبيات الجماعات اليسارية والقومية، التي يغرق المجال العام في مجتمعاتنا في شعاراتها ومقولاتها ودعواتها وأحلامها وأوهامها منذ أكثر من قرن.

غيرُ الإسلاميين من بعض القراء أزعجهم دفاعي الشديد عن الإيمان والدين والوحي والنبي الكريم (ص) ودعوتي لتدين ينشد إغناء الروح والأخلاق. كذلك أزعج بعضهم اكتشافهم أنّي كائن روحاني أخلاقي ميتافيزيقي مؤمن، وامتعض البعض الآخر من تمسكي بالصلاة والفرائض العبادية وتديني التقليدي، إذ فوجئوا بأنّي ما زلت حتى اليوم وسأبقى ألجأ لطقوس تدين أمي.

كما أنّ معظم الإسلاميين أزعجهم إيماني وتفكيري الحر، ونقدي لإحراقهم الدين في عربة الأيديولوجيا والصراعات على السلطة والمال والنفوذ.

لا أستطيع حين أكتب أن أزيّف تفكيري، أو أكذب، أو أتملق أحدا. لا قيمة لكتابة تتملق القراء. ما قيمة صوتي حين يصبح صدى ببغاء تكرّر أصواتا لا تفقهها. الكتابة هي الكاتب، كل كاتب أصيل يكتب ذاته، وينسج من ألوان حروفه لوحة تحيل إلى: مسبقاته ومعتقداته وفكره وأفق انتظاره وأحلامه). (40)

أقول: رغم أنّ الرفاعي يؤكد على فرادة تجربته، لكنه يؤكد أيضا أنّ الفرادة لا تعني الكمال، وهو يشير بهذا الصدد إلى أنّ تجربته تتصف بعدم الكمال من حيثيتين:

فمن حيث التجربة ذاتها، بيّن الرفاعي – فيما تقدم – أنّه لبث مدة تزيد على نصف قرن، يفتش فيها عن ذاته الهاربة منه، وهو يتحدث بصراحة أنّه لم يظفر بها كلها حتى اليوم. حيث بين أنه كان يغور كالغواص في طبقاتها، وكلما قبض على شيء منها انزلقت مثلما ينزلق الزئبق بين الأصابع.

ومن الواضح أنّ عدم اكتمال التجربة بهذا المعنى لم يقف عائقا أمام الرفاعي لتقديمها نموذجا يحتذى به، فالتجارب الدينية، مختلفة ومتنوعة ومتفاوتة فيما بينها، وهي بطبيعتها، غير قارة أو ساكنة، وإنّما هي عبارة عن سياحة وأسفار مزمنة، فما إن تبلغ التجربة محطة حتى ترحل إلى ما هو أعلى وأثرى منها. يقول الرفاعي: (اإنّي أتذوق تجليات جمال الله في كل شيء، ولا أستطيع تذوقها إلا عبر تديني وإيماني. هذه الرؤية خلاصة عمر تجاوز الستين عاما، تكرّس في دراسة الدين والعلوم الإنسانية، وتجربة حياتية لنمط إيمان وتدين اقترن بسياحة وأسفار مزمنة لكائن لن يكفّ شغفه الأبدي عن متعة أسفار الروح والقلب والعقل، متعة الطريق لدى هذا الكائن على الدوام تنسيه متعة الوصول، إنّه لن يبلغ محطة إلا ليرحل منها إلى ما هو أعلى وأثرى منها، وهكذا. إنّها أسفار لن تبلغ مدياتها النهائية مهما امتد به العمر، ذلك أنّها مسكونة بغبطة السير التي تشغلها عن الوصول). (41)

أما من حيث تقديم تجربته للآخرين، فإنّ الرفاعي يذكر أنّ تقديمه لتجربته لم يعكس التجربة كاملة، وذلك لعدة أسباب، منها ما هو خارج عن إرادته، ومنها ما هو أخلاقي، ومنها ما فرضته مجموعة من القيود التي لم يستطع التحرّر منها

يقول الرفاعي: (أن يقدّم شخص شهادة عن نفسه فإنّها بالضرورة تكون متحيزة، فما من كائن إلا وهو عاشق لنفسه، لذلك ينزع كل منا لتنزيه الذات، ويعمل على رسم صورة زاهية مشرقة لها، من أجل أن ترمقه العيون بكثافة ويُحدث اهتماما وضجيجا من حوله، يُشبع غروره ونرجسيته.

أحاول أن أتحدث بشيء من الحياد، ربما المتعذر، إذ لا إنسان متحرر بشكل تام من ترسبات بيئته في أعماق ذاته، وتحيزاته، وأحكامه المسبقة، وآفاق انتظاره. أسعى لأن أكون أشد جرأة في الاعتراف والبوح أمامكم، بالرغم من أنّي جئتكم من محيط يتغلب فيه التكتم، والإضراب عن الاعتراف، والكشف عن الحياة والتفكير الشخصي. فقلما كتب شخص في عالمي الذي عشت وتعلمت فيه سيرة ذاتية تبوح باعترافات وأسرار خاصة، أو تتحرر من التبجيل والتمجيد والثناء على الذات.

منذ بداية دراستي الثانوية حاولت تدوين مذكرات وخواطر يومية، غير أنّي فشلت في المواظبة والاستمرار لأكثر من ستة أشهر، ذلك أنّي أنفر من الانصياع والخضوع لواجبات نمطية تتكرر كل يوم، وإن كنت أنا الذي أفرضها على نفسي، إذ سرعان ما تنضب طاقتي النفسية، فأهرب من رتابتها المملة. لا أعرف مصير تلك اليوميات، بعد مضي أكثر من خمسة وأربعين عاما على تدوينها، وترحالي المتواصل بين الوطن والمنفى.

افتقاري للأرشيف المدون لمسيرتي وتجاربي الشخصية، يمنعني من الحديث التفصيلي عن جميع الظروف والملابسات والمواقف التي عشتها، كما تخذلني ذاكرتي. كذلك تُحرّم على البوح تقاليد التكتم والسرية، وغياب النقد والمراجعة في تقاليد الجماعات الإسلامية والحوزة. مضافا إلى عدم شيوع ثقافة الاعتراف في مجتمعاتنا، ومزاجي الشخصي الذي يحرص بطبيعته على أن أعيش بهدوء، بعيدا عن ضجيج الحياة الاجتماعية وصخبها، والهروب من البشر الذين يحترفون تشويه الغير وانتهاك خصوصياتهم، وتشديدي على سلوكي الذي ينزع إلى الحياد ما أمكنني ذلك، والابتعاد عن التحيز لأي شخص أو جماعة أو حزب، ويسعى للاحتفاظ بعلاقات على مسافة واحدة منهم، مع اعتزازي برؤيتي وتفكيري واجتهادي المستقل، فأنا أتفق مع الجميع وأختلف مع الجميع، بنحو يجعلني " أسير مع الجميع وخطوتي وحدي ".

لا يهمني فضح شخصيات زاملتها في محطات حياتي، وبلدان مختلفة عشت فيها، مع تشخيصي المبكر لعاهاتهم، وأرواحهم المسمومة، وقلوبهم المريضة، وترسخ عقدهم وأمراضهم النفسية، وأساليبهم القذرة الملتوية.

فمثلا: اكتشفت في وقت مبكر أشخاصا من زملائي الإسلاميين " مات الإنسان في داخلهم "، ثم هتكت تجربة السلطة في العراق عورات بعضهم، فـ " مات الله في داخلهم ". إنّهم ممن " نسوا الله فأنساهم أنفسهم ". فوظفوا كل ما وهبهم الله من ذكاء ومهارات في الكيد والغدر، واستهداف البشر، والنيل منهم، والتآمر عليهم.

كذلك لا أزعم أنّي أمتلك ما يكفي من روح المجازفة والمغامرة والشجاعة لتدوين ما يخدش الحياء، أو ينتهك التابوات المتجذرة في عالمنا، خاصة وأنّي ما زلت منتميا للحوزة ومتساكنا مع الإسلاميين بألوانهم واتجاهاتهم كافة، وحريصا على حماية ذاكرتي المشتركة معهم، وعدم التضحية بعلاقاتي التاريخية، بل أعمل على تعزيزها، وعجزي عن الانفصال والخروج من والانشقاق على المحيط الاجتماعي، ذلك أنّ من يعترف بخطئه في مجتمعاتنا يُغامر بفقدان هويته، ويكون الطرد والنفي واللعن مصير كل من ينتقد قبيلته وطائفته وحزبه.

كل ذلك يمنعني من البوح والكتابة المكشوفة عن أيّ شيء لا يدعو للتمجيد والمديح في حياتي. مع كل هذه الممنوعات والاحترازات والخشية، هل أختصر حياتي بما هو مضيء، فأكتب النجاحات والمنجزات والمكاسب والانتصارات .. فيما أهمل الإخفاقات والفشل والخسائر والهزائم.

أليست مثل هذه الكتابة تقدم صورة مخاتلة مراوغة ماكرة، تخفي أكثر مما تظهر، وتتكتم أكثر مما تعلن، وتحجب أكثر مما تبدي، وتطمس أكثر مما تكشف، كما أراه في مذكرات أكثر المشاهير، الذين رسموا لأنفسهم وعائلاتهم وماضيهم، صورة مشرقة ساطعة، كأنّها لوحة فنية بريشة دافنشي، وقصيدة غزل قالها أمرؤ القيس ؟

هل يستطيع شخص التغلب على تمركزه حول ذاته، ويحكي إخفاقاته قبل نجاحاته، ويجرؤ على إعلان أخطائه، بالرغم من أنّ أهم حافز بشري في التاريخ هو طلب اعتراف الآخرين وثنائهم ؟

لا أشك في أنّ كتاباتي المنشورة، بل ما أقوله هنا أيضا، محكوم أيضا بهذا الحافز، ولولا ذلك لما واصلت التأليف والكتابة. مع ذلك هل تبقى قيمة لمثل هذه الكتابة؟

نعم ليست هناك كتابة متحررة من كافة القيود والممنوعات في عالمنا الشرقاني، تربيتنا في الطفولة، وتعليمنا بدءا بالمراحل الابتدائية حتى الدراسات العليا، وتقاليدنا وقيمنا وأعرافنا، تدجننا على تمويه وإخفاء وتغييب ما نحسب أنّه يشوّه صورتنا، أو يحط من مكانتنا، وتحظر علينا البوح بما ينجم عنه الإساءة للعشيرة والجماعة والطائفة). (42)

(تربيتنا على نموذج الإنسان الكامل، وترسبها في لا شعورنا، جعلنا حالمين ببشر عابرين لطبيعتهم البشرية، مجردين من ضعفهم البشري. كأنّنا كائنات كاملة لحظة ولادتها، كأنّ كل شخص في مجتمعاتنا هو " إنسان كامل "، وسيلبث كاملا أبدا. الاغتراب عن المحيط الذي نعيش فيه بل عن العالم ينشأ حين نبحث عن الكمال في البشر دائما، فأما أن يكون الشخص كاملا فنقبله، وإلا فنرفضه بشدة ونمقته.

لم تكفل ثقافتنا " حق الخطأ " للشخص البشري. الخطأ فضيحة في حياتنا، لذلك يحرجنا، بل نرتبك ويغمرنا الخجل والوجل لو اعترفنا به. حتى أطفالنا لا نمنحهم حق الخطأ، بينما لا تنجز التربية والتعليم وعودها إلا بمنح الحرية في ارتكاب الأخطاء). (43)

(الاعتراف ثقافة غريبة على مجتمعاتنا، فبينما ألف القديس أوغسطينوس " الاعترافات "، في القرن الرابع الميلادي " 354-430 "، مدشنا باعترافاته هذا النمط من التأليف. لم يعرف تراثنا شيئا من ذلك، إلا محاولات شاذة منبوذة، لمن اعتبروا مارقين مبتدعين ضالين، ولما نزل حتى اليوم نخضع لمفاهيم الموروث وأحكامه). (44)

(هذا يعني أنّني أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن أمتلك بعض الشجاعة فأتحدث عن شيء من فصول حياتي، بمهارة وحذر، بالحدود التي لا أتجاهل فيها ما مضى من عوائق وممنوعات، أو أصمت كما صمت كثيرون من قبلي، وغادروا الحياة، فدفنت معهم حقائق وأحداث ومواقف وتجارب هامة. أنا فضلت الخيار الأول، وحاولت أن أكتب، مستحضرا بعض جروح طفولتي وفتوتي وشبابي وكهولتي، ووشم ذاكرتي، بالمدن والمجتمعات والمهام والمشاغل والوقائع والكتب والأفكار والمفاهيم والشعارات .. وغير ذلك). (45)

هذا المقدار من البوح والكتابة المكشوفة، يعدّه الرفاعي جرأة، لأنّه يواجه ثقافة "تبرئة الذات" السائدة في مجتمعاتنا، فـ - بحسبه –: (إننا لا نعثر على مذكرات تسجل مسيرة تجارب الأعلام والمشاهير في تراثنا، لئلا تبوح بضعفهم البشري، ما خلا حالات نادرة، مثل كتاب " الاعتبار "، الذي ألفه أسامة بن منقذ المتوفى 538 ه. ودوّن فيه سيرته الذاتية، غير أنّه لم يكتبه إلا بعد مضي ثمانين عاما من حياته.

في العصر الحديث مازال كتاب المذكرات خارج فضاء الحواضر والحوزات الدينية عادة. لم أعثر إلا على حالات محدودة لرجال دين دوّنوا تجارب تعليمهم الديني في الأزهر وتجربة دراستهم في أروقته، بكل ما تحفل به. وهكذا الحال بالنسبة لرجال الدين في الحوزة، ما خلا ما كتبه حسن النجفي القوشجاني، في كتابه المثير والمهمل: " سياحة في الشرق "، الذي يتحدث عن الحياة الداخلية لتلامذة الحوزة، وتقاليدها الخاصة، وما يسودها من تنافس وصراعات في عصر المشروطة مطلع القرن العشرين.

وحتى أولئك الأدباء والمثقفين والسياسيين الذين ينشرون مذكراتهم، فإنّهم في الغالب يمضغون الكثير من التفاصيل الجميلة، التي تؤشر لتطور منحنى شخصياتهم ومنعطفاتها، وضعفهم البشري، وما اكتنف حياتهم من: ألم وأمل، نجاح وفشل، ضعف وقوة، قلق وطمأنينة، وإيمان وحيرة. وعادة ما يلوّنون ماضيهم الشخصي بألوان جذابة، تتغافل عن الكثير من الأخطاء والهشاشة والعجز في شخصياتهم ومنعطفات حياتهم.

قبل سنوات طالعت مذكرات الشاعرة نازك الملائكة، بتحرير حياة شرارة، فكانت كأنّها قصيدة غزل تتغنى فيها بشخصيتها وعائلتها. شعرت بالغثيان، لفرط نرجسيتها وشعورها بالتفوق. وعجزها عن إعلان شيء من صوت الشاعر المتوهج القلق المتمرد في ذاتها. وهواجس وخلجات واحلام وأوهام الرائي في وجدانها. وتكتمها على العجز الطبيعي في شخصية كل كائن بشري.

ربما نجد من يشذ عن هذه الحالة، مثل الروائي سليم مطر كامل الذي كتب سيرة تفضح " ثقافة العيب "، وتعلن عن " مذكرات رجل لا يستحي "، حسب تسميته، تصرخ حياته فيها بعنفوان وضجيج، وتتكشف شخصيته عن منحنى تمزقها وهبوطها وصعودها وانقباضها وانبساطها – حسب ما يقوله المتصوفة – بشكل صادم لوعي القارئ في مجتمعاتنا). (46)

(9) وأخيرا، أود الإشارة إلى ما أجد أنّ الإشارة إليه لا يضر بالتزامي بعدم التقييم إلا في إطار القراءة الشاملة للمشروع:

لاحظت وأنا اكتب هذه المقالة أنّ مقدار ما كتبه الرفاعي من سيرة ذاته في كتابه " الدين والظمأ الأنطولوجي " محدود جدا بالنسبة للأهداف التي لأجلها كتبت هذه السيرة، ورغم أنّه قد ذكر أنّ هناك قيودا وأسبابا معينة قد منعته عن الكشف الكامل لسيرته، إلا أنّني أجد أنّ هناك مساحات واسعة خارج إطار تلك القيود كان يمكن له أن يتوسع في الحديث عنها.

يكتب الرفاعي أحيانا عبارات تشير إلى تبلور بعض الحالات الروحية أو الأخلاقية أو العقلية لديه دون أن يشير إلى الكيفية إلى أدت إلى تبلور هذه الحالات. فهو يشير في سيرته إلى أنّه قد تعلّم وتنبّه إلى العديد من الأمور، وأنّ الحياة أيضا قد علمته أمورا أخرى، دون أن يسرد لنا الكيفية التي تعلّم بها تلك الأمور أو تنبه لها. (47) الرفاعي يعلم أنّ الناس الذين يبحثون عن القدوة الملهمة يبحثون عن خريطة للطريق، بها يتعلمون كما تعلم ويتنبهون كما تنبه، ولا يكتفون بمعرفة ما تحصّل عليه القدوة فحسب، فهم يعرفون ذلك مسبقا، ولو على نحو الإجمال، ولولا معرفتهم بذلك ما اتخذوه قدوة.

يكتب الرفاعي في بعض الأحيان عبارات تشير إلى جوانب معينة من شخصيته، ربما يشعر بعض القراء الذين يهمهم أمر الرفاعي أنّهم بحاجة إلى معرفة المزيد بشأن مضمونها، كمثل عبارته التي يقول فيها: (أنا حزين على غيابي عن الحياة وعكوفي الأبدي بين الأوراق، أنا حزين على حرماني من المتع البريئة وغير البريئة، حزين على هذا النمط من السجن الذي غيبني على الدوام عن الفئة العمرية التي أنتمي لها، وأجهل أحلامها وتطلعاتها ومشاغلها وجدها وعبثها .. لو استقبلت من حياتي ما استدبرت منها، ربما أنخرط بتجريب ما في هذا العالم، ربما أتذوق شيئا من متع الحياة ومرارتها الشديدة الغنى والتنوع). (48)

يقول الرفاعي: (كل كاتب يكتب كتابا واحدا، ما قبله تمارين، وما بعده تنويعات. من هنا يرى القراء ومضات من نصوصي الماضية في " الدين والظمأ الأنطولوجي "). (49) من هنا ربما يتساءل البعض عن السبب الذي جعله لا يُضمّن في كتابه " الدين والظمأ الأنطولوجي " نصوصا أخرى كان من حقها أن تُضمَن في هذا الكتاب، لانسجامها مع روح الكتاب، وخاصة أنّها تضئ للقارئ شيئا من السيرة الذاتيه للرفاعي، كمثل مقالته: " في حضرة مولانا: سياحة في عالم المعنى "، ومقالات أخرى وردت في " الكتاب التذكاري ".

لعل ما تقدم من ملاحظات وغيرها كانت هي السبب وراء تمني الرفاعي أن تمنحه الأيام فرصة العودة إلى ما كتبه عن سيرة الذات، كي يعززه – كما يقول - بما نسجته دروب أحلامه، ورسمته خرائط أيامه، وتكلمت عنه أقدامه الحافية التي لم يرهقها تراب الأزقة. (50)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم