صحيفة المثقف

عبد الجبار الرفاعي: لا قيمة لأفكار تتصل بالدين لا صلة لها بمثال بشري مجسد (2-2)

الملحق الأول

في هذا الملحق سوف يتضح للقارئ، من خلال ما ننقله من نصوص للرفاعي، كيف أنّه حاول أن يبين أنّ أنماطاَ من الخطاب الديني (كخطاب الجماعات والأحزاب الدينية، والخطاب الأيديولوجي، وخطاب التصوف الطرقي السلوكي، والخطاب السلفي، وخطاب المدونة الكلامية والفقهية) لا يمكنها أن تؤدي إلى تجارب دينية أصيلة، في حين أنّ إنماطا أخرى من الخطاب (كخطاب الفلاسفة والعرفاء والمتصوفة) يمكنه أن يؤدي إلى مثل هذه التجارب.

1 – فيما يخص خطاب المتكلمين، يقول الرفاعي: (المتكلمون واللاهوتيون يثبتون للناس وجود الله كفكرة مجردة، لا صلة لها بحياتهم) (51) إنّهم: (يعرفونناعلى أدلة وجود الله وصفاته، لكن لا يوصلنا إلى الله إلا ذوو الحياة الروحية الأصيلة. ولا تتكرس الحياة الروحية الأصيلة من دون حب الله ووصاله.

معرفة الله غير حب الله. حب الله سعي القلب وسفره إلى الله، وهو في الختام ليس سوى أن يكون القلب وطنا لله. معرفة الله هي تدبر العقل وتأمله وتفكيره في خلق الله وآياته، واعتقاده بوجوده ... لا يروى الظمأ الأنطولوجي للمقدس بمعرفة الله، وإنّما يرتوي هذا الظمأ بحب الله ووصاله. مثلما لا يتكرس الإيمان بمعرفة الله، وإنّما يتكرس بحب الله. لا يتحقق السفر إلى الله إلا بحب الله، وليس بمعرفة الله. كذلك لا يكون الدين دواءً وشفاءً إلا بحب الله، ولا تكفي لذلك معرفة الله. القلب الذي خطت عليه أسرار الحب هو القلب الذي لا يكف عن إنشاد ترانيم حب الله والإنسان والعالم ... مجتمعاتنا غارقة بضجيج الحديث والمتحدثين في الدين والإيمان بالرغم من أنّ الإيمان ليس علفا يأكله القطيع. الإيمان كما يقول كيرككور: " ليس في مجمله علفا يقدم للسذج من الناس؛ لأنه لا يمكن أن يكون فكرا ". وأنّ كثرة كلام من يحسبون أنهم الموقعون نيابة عن رب العالمين، لا يكرس الحياة الروحية، ولا يثري الحياة الأخلاقية. وكأنّ أولئك لا يعرفون أنّ التجربة الروحية من الحالات. وكل ما هو من جنس الحالات، تفشل في الإخبار عنه الكلمات، فما تتذوقه الروح تخون اللغة نفسها في التعبير عنه، ذلك أنّها لا تتسع لاستيعابه، ولا تطيق حمله، وتفشل في استبصار مدياته، وتعجز عن توصيله.) (52)

(إنّ إسراف المتكلمين في استعارة المنطق الأرسطي، وتوظيف مفاهيمه في صياغة علم الكلام فيما بعد، نجم عنه تشبع التفكير الكلامي بمنهج هذا المنطق، فانحرفت وجهته، وراح يفتش عن عوالم ذهنية مجردة، بعيدة عن الواقع وتداعياته ومشكلاته، فتغلبت بالتدريج النزعة التجريدية الذهنية على المنحى الواقعي في التفكير الكلامي، وتحول علم الكلام إلى مشاغل عقلية تتوغل في صناعة آراء ومفاهيم عوالم أخرى غير الحياة البشرية وعالمها، والتدقيق في مسائل افتراضية ترتكز على محاججات منطقية من دون أن تكون لها صلة بالواقع.

ولم يقتصر أثر العقلية التجريدية على التفكير الكلامي فحسب، وإنّما امتد أثرها إلى المشاغل ألأخرى للعقل الإسلامي، فتجلى بوضوح في العلوم الإسلامية، وما برح الفكر الإسلامي ينوء بعبء هذه النزعة إلى اليوم، فلا يكاد يتخطى عوالم الذهن، ويطل على الواقع، ويواكب التجربة البشرية وما تزخر به من آلام ومواجع وآمال ورؤى وآفاق.

إنّ غياب الممارسة العملية عن صياغة الأفكار، وعدم معاينة حضور الأفكار وأصداء تطبيقها في الحياة، أفضى إلى أن تغدو وظيفة التفكير الديني مجرد تمارين ذهنية صرفة، تبدأ بالذهن لتنتهي بالذهن. وهي حالة لم تقتصر على حقل معين، بل تفشت في علم أصول الفقه، وانتقلت إلى غيره من معارف الشريعة الأخرى ... وكان إيغال العقل الإسلامي في التجريد منشأ لتغليب النظر على العمل، واعتبار العلوم النظرية أرفع من المعارف العملية ... وقد ظل هذا اللون من التفكير أحد القيم السائدة لدينا قرونا طويلة، ولما تزل آثاره تطبع حياتنا الثقافية، لذلك نبجل عادة من يتأمل على من يهتم بالتجربة والممارسة والعمل، من دون أن نتدبر عطاء كل واحد منهما، ودوره في تطور المعرفة، وإعادة بناء علوم الدين.

... علم الكلام الذي تمت صياغته لاحقا – بالاستناد إلى أدوات المنطق الأرسطي – لم يقتصر على تعميق البعد النظري في العقيدة فحسب، بل تجاوزه إلى تفريغ التوحيد من مضمونه العملي، والتعامل مع المعتقدات كمفاهيم ذهنية مجردة لا صلة لها بالواقع. ولم تعد مظاهر السلوك المختلفة تندفع في وضوح وتلقائية من مرجعيتها العقيدية، وغدت حقائق العقيدة تشبه أن تكون تصديقات ذهنية، غايتها في ذاتها، وضعُف الشعور بغاياتها السلوكية. وأنّ قيم التوحيد الروحية الأخلاقية التي كانت تطبع حياة المسلمين أصبحت بعد ذلك منحسرة في أذهان المسلمين إلى بعد واحد تجريدي، هو وحدانية الله، وتقلص أثرها في مناحي الحياة العملية.

ومع أنّ المسلم أصر على التمسك بالإيمان بالله وبوحدانيته، ولم يتخل عن إيمانه، غير أنّ هذا الإيمان فقد إشعاعه الأخلاقي، وتجرد من فاعلياته الروحية، فلم يتجسد في نزوع للتضامن والمؤاخاة في حياة المجتمع المسلم، باعتبار أنّ عقيدة التوحيد توحّد التضامن المجتمعي، بل أمسى المسلمون جماعات وفرقا متصارعة، وأُهدرت طاقاتهم في نزاعات أفضت إلى مواقف عدائية، وأقحمت في حروب أهلية، كلما خبت شبّ أوارها، ومازلنا نكتوي بحرائقها حتى اليوم. وهكذا يضمحل دور العقيدة، فلا تحول دون اقتتال الأمة الواحدة، ولا تكون منبعا للتضامن والمؤاخاة، حين تفرغ من محتواها العملي.

... إنّ النتائج السلبية التي خلفها منهج المتكلمين في الحياة الإسلامية، تتلخص باشتمال المؤلفات الكلامية على " نظريات وأقوال يأسف العقل السليم لوجودها "، مضافا إلى " افتراض أهل كل مذهب إجماعات ومسلمات مذهبهم من الضرورات، وعليه عدّوا كل من لم يذعن من المسلمين لنظرياتهم ومسلماتهم منكرا للضروري ومن المبتدعين ". وبذلك دخل علم الكلام مرحلة السبات، وحيل بين العقل المسلم وبين ممارسة النقد، وانطفأ النقاش الحرّ الذي عرفته الحياة العقلية للمسلمين، في عصر ازدهار التفكير الديني في الإسلام. ولم يزل تفكيرنا الديني ينوء بتركة تلك المرحلة، ولم تكف سلطة السلف عن قمع المبادرات الجادة في إعادة بناء التفكير الديني في الإسلام، والتعرّف على العناصر المعطّلة للعقل عند المسلمين.

لم يدرج المتكلمون في مؤلفاتهم مبحثا خاصا بالإنسان، يتناول تأصيل موقف نظري يحدد موقع الإنسان في سلم المخلوقات، أي منزلة الإنسان وقيمته بالنسبة إلى غيره، والهدف من وجوده وحقوقه وحرياته، وطبيعة وظيفته، وأنماط حياته، وثقافته، وعيشه، وعلاقتها بما يتشكل لديه من رؤية للعالم، وما يرتبط بذلك من مسائل.

على أنّ أهمية هذه القضية تتنامى مع تطوّر الحياة الاجتماعية، وشيوع ألوان القهر والاستبداد، وامتهان الإنسان، وإهدار كرامته، وتدجينه على المفاهيم والقيم الرديئة، فما لم نتوافر على صياغة رؤية للعالم تفصح لنا عن مكانة الإنسان، وتحدّد نوع علاقته بالدين، وتؤكد أنّ الدين جاء لتكريم الإنسان وهدايته وخدمته، تغدو دعواتنا لتحرير الإنسان مجرد شعارات لا مضمون لها.

يستغرق علم الكلام التقليدي في البحث عن الله وصفاته وكل ما يتصل به، في سياق مستقل عن الإنسان. وعندما يذكر الإنسان، فإنّ الحديث عنه لا يشير إلى ما يتصل بطبيعة، ومرارات هذه الحياة وشجونها وشؤونها وأوجاعها ومتطلباتها، وآفاقها وأحلامها وآمالها. وتوق الشخص البشري الأبدي للحرية، وحاجته المزمنة لتأمين حقوقه، واحترام كرامته، والتعاطي معه بوصفه المخلوق الأسمى والأشرف والأكرم في العالم، بل لا يكف التراث الكلامي عن تجاهل قيمة الإنسان، ونسيان ذاتيته وكينونته الخاصة.

صورة الله في علم الكلام القديم " الأشعري "، هي صورة السيد المخيف المرعب، المتمرّس في البطش والتنكيل والعقاب والعذاب. الإنسان عبد مسترقٌ خانع ذليل حقير. لله أن يفعل به ما يشاء، بلا أن يوصف أيّ فعل من الله – مهما كان – بالقبح أو الحسن، فله أن يعذب العادل، ويثيب الظالم.

لقد نشأ عن هذا التصور لاهوت الاسترقاق ... الذي يصادر حريات وحقوق الشخص البشري الاجتماعية، ويكرس أشكال العبوديات، ويحجب لاهوت الرحمة والمحبة. يجعل لاهوت الاسترقاق الإنسان عبدا ذليلا خانعا مسحوقا، وينسى أنّ هذا النمط من العلاقة بالله يفضي إلى إلحاد مختبئ، وإن كانت تبدو مقنعة بتدين زائف. ذلك أنّ الشخص البشري بطبيعته ينفر ممن يستعبده، ويمقت من ينتهك كرامته، ويكره من يمتهنه.

إنّ العلاقة بالله لا تأخذ نصابها في تشييد حياة روحية أخلاقية أصيلة إلا إذا كانت حرة، أي ينبغي أن تكون علاقة مبنية على حرية واختيار، لا إكراه وامتهان. " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " (الأعراف: 157)

البسطاء من عامة الناس، إن تأملنا نمط إيمانهم نجدهم يعيشون وهم يتذوقون شيئا من الوجد والوصال بالحق؛ ذلك أنّ إيمانهم برئ، عفوي، حميمي، يتحسسون الله أقرب إليهم من حبل الوريد، ليس بوصفه أميرهم وسلطانهم، الذي يبطش بهم، بل بوصفه صديقا جميلا غيورا، كريما، رحيما، رقيقا، شفيفا.

المؤمن الحقيقي عابد بوجوده وكينونته وروحه وقلبه. عابد لله، أي مطيع له طاعة المحب، الذي ليس بينه وبين محبوبه مسافة وإكراه وإجبار. العبادة تتحول على هذا النحو إلى انجذاب حميمي، حب متجل في الجوارح كلها، والكيان كله، حب تترجمه الكينونة والوجود في كل تجلياته، ابتداءً من " اليومي "، واستمرارا وصعودا مع المفارق والعابر، وذلك بأن يتصل الحس والشعور والتعقل بالحبور والدهشة اللامتناهية، ولذة الانكشاف والاكتشاف المستمرة. المحبة صلة بالحياة لا تكف عن الولادة كل آن. والطريق إليها لا يمر إلا عبر الولادة كل يوم من أرحام الظلمات والجهل والخوف والسجون. نحن لا نولد كل يوم إلا كما ولدنا أول مرة بالحب.

هاجس المتكلم هو المحاججة والمناظرة في إثبات حقانية مقولاته الاعتقادية الخاصة والتدليل على عدم حقانية ماسواها ... المتكلمون كل فرقة منهم تحتكر صورة لله بعد أن تنحتها في سياق مواقفها ومقولاتها الاعتقادية، وآفاق انتظارها، مع أنّ الله لا صورة له. الله صورة من يتصوره. الإنسان يرى الله على صورته. يحكي محيي الدين بن عربي عن أبي طالب المكي أنّه قال: " لا يرى من ليس كمثله شيء إلا من ليس كمثله شيء ".

وعادة ما يحكم بالمروق والهلاك على كل من يتبنى معتقدا خارج الصور النمطية الراسخة لله في لاهوت الفرق الكلامية، فيما يكون الخلاص والنجاة في الآخرة هو المآل الطبيعي لأتباع هذه الرؤية الاعتقادية، فما لم يكن المرء معتقدا بها لا يكون مشمولا بالنجاة، ومستحقا للخلاص.

لا يهتم علم الكلام القديم بالروح والقلب، ولا ينفك عن إغراق عقل المسلم بجدالات ومحاججات ذهنية تجريدية، لا تستند إلى بديهيات، بل تحيل غالبا إلى فرضيات ومسلمات غير مبرهنة. كذلك لا تتعاطى مقولات الكلام مع الإنسان بوصفه خليفة الله المكرم، ولا تفصح عن تجلي الله فيه بما لم يتجل في سواه من مخلوقاته.

يفتقر علم الكلام القديم للمضمون الأخلاقي؛ ذلك أنّ مباحثه تنتمي إلى ما يصطلح عليه الحكمة النظرية، لا الحكمة العملية، والأخلاق تنتمي للحكمة العملية ... لا نعثر في المباحث القديمة لعلم الكلام لدى المعتزلة والشيعة ما يعالج ماهية القيم الأخلاقية، او ما يتحدث عن وظائفها، أو ما يشرح مصادر الإلزام في الفعل والترك الأخلاقيين، وطبيعة العلاقة بين الوحي والأخلاق. كذلك لا نعثر في علم الكلام على مباحث تدرس الفضيلة والسعادة وكيفياتها، ومنابع إلهامها في حياة الإنسان. هذا في علم الكلام الذي يتبنى القول بالحسن والقبح الذاتيين للأفعال.

أما في علم الكلام الأشعري فالإشكالية تأخذ صيغة أخرى، إذ ينفي علم الكلام الأشعري القول بالقبح والحسن الذاتيين، ويشدد على أنّ الحسن هو ما حسنه الأمر الإلهي، والقبح هو ما قبحه النهي الإلهي. وهذا يعني أن لا عدل ولا ظلم مستقلا عن الشرع، أي لا معنى لحكم العقل بقبح عقاب المطيع وثواب العاصي. وكما يفشل العقل بحسب الأشعري وأتباعه في اكتشاف الحسن والقبح، فإنّه تبعا لذلك لا يمكنه إدراك الأخلاق والفضيلة والسعادة ووسائل بلوغها. من هنا لم يعد للأخلاق من حيث هي أخلاق أي مضمون خارج سياق الوحي في علم الكلام الأشعري.

لو لم تكن هناك نواميس كونية للعدل والأخلاق، وكان كل حسن يحيل إلى ما يحسنه الوحي، وكل قبيح يحيل إلى ما يقبحه الوحي، فسيفضي ذلك إلى تفريغ الأخلاق من مضمونها، وغياب أي فعل أو سلوك أخلاقي في المجتمعات البشرية التي لم تعرف الأديان الوحيانية، مع أنّه حتى تلك المجتمعات التي لا تعرف الأديان الإبراهيمية، ولم تصل إليها تشريعات الوحي، فإنّ مسيرتها التاريخية تبرهن على أنّ هناك حضورا للكلمات والأفعال الأخلاقية، وأنّها تدرك أن للكلمات والأفعال الأخلاقية الأصيلة حياة في ضمير العالم، ذلك أنّها حقيقة أبدية، فلو تكلمت بكلمة طيبة، أو فعلت فعلا حسنا، سيكون لكل منها صدى بحسبه، الكلمة ذاتها تقال عن صاحبها بأبهى صورها، الفعل ذاته يعود لصاحبه بأجمل مما فعل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

الحياة الأخلاقية كما تبرهن الحياة الاجتماعية للإنسان، هي سلسلة مواقف، تصنع بمجموعها طورا وجوديا خاصا للكائن البشري، إنّها الشرط الذي يتحقق به نمط الحضور الحقيقي لهذا الكائن في العالم، والذي يعبر فيها الدين عن حضوره في المجتمع، ويطرد كل تمثيل زائف له، يرتدي أقنعة باسم الدين، في كل من يشي سلوكه بانتهاك الفضيلة وإفساد لمقاصد الدين الإنسانية. إنّ اضمحلال الحياة الأخلاقية يفضي إلى اضمحلال وجود الكائن البشري، وهشاشة كينونته، والذي ينتهي إلى غيابه عن العالم). (53)

2 – وفيما يخص خطاب الجماعات والأحزاب الدينية، يؤكد الرفاعي على خلو هذه الجماعات والأحزاب من الأمثلة البشرية الأخلاقية الروحية، فـ - بحسبه -: (لا نعثر في هذه الجماعات على نموذج مشبعة حياته بالمعنى، يمتلك كيمياء روحية، تمنح الشباب القدرة على استعادة هويتهم الشخصية المفتقدة، وتشبع حاجتهم للاختلاف والتميز، وتساهم في تعزيز قدرتهم على إثراء حياتهم أنطولوجيا، وتساعدهم على أن تكون حياتهم أجمل، في عالم يتشيأ فيه كل شيء، مكانيا وزمانيا). (54)

في رأيه: (إنّ فشل الإسلاميين في بناء الدولة يعود إلى عجز معظمهم وقصورهم من إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة، وافتقار الكثير من المسؤولين إلى أيّ تكوين أكاديمي أو معرفي أو فكري، يؤهلهم لإعداد نظم وبرامج وخطط اقتصادية وإدارية وتربوية وعلمية وثقافية معاصرة، فضلا عن عدم توفرهم على تدريب مهني وخبرة عملية في إدارة الدولة وبناء مؤسسات السلطة.

إنّهم يفكرون في مرحلة ما قبل الدولة، لذلك يحرصون على استدعاء القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العتيقة، ويغرقون في كهوف الماضي، ويفرطون في استهلاك التاريخ، وكأنّهم لا يعيشون في عالمنا إلا بأبدانهم، في حين تلبث عقولهم وأرواحهم مع الموتى.

مضافا إلى أنّ معظمهم لم يتشبع بتربية معنوية أخلاقية، تتسامى بها روحه، وتحقق له امتلاءً ذاتيا، يثري ضميره بالغيرة على الإنسان والأوطان، ويشفيه من عقد الجوع، وجروح الحرمان.

لذلك لم يعرف بعض هؤلاء من الدين سوى الاستيلاء على السلطة، وليست السلطة في مفهومه إلا الظفر بالغنيمة، واستيفاء ديون أوجاعه، المتمثلة بكافة ألوان الاضطهاد والتهميش في الوطن والمنفى). (55)

(لو راجعنا تكوين زعامات الجماعات الإسلامية فلن نعثر على فقيه مكرس أو رجل دين مشهور اليوم في قياداتها. معظم القيادات تخرجوا في تخصصات الطب والهندسة والعلوم الطبيعية، والعلوم والمعارف التي لا صلة لها بدراسة وفهم الدين والشريعة والتراث.

ومن الطريف أنّ أتباع هذه الجماعات كأنّهم يتنبهون إلى هشاشة الثقافة الدينية والفقهية للمؤسسين والمرشدين، فيعملون على تغطية ذلك بإضفاء لقب " شيخ " على هؤلاء عند ذكرهم وتداول أسمائهم، فيصفونهم هكذا: " الشيخ البناء، الشيخ المودودي، الشيخ الغنوشي ... إلخ. لقب الشيخ بمثابة قناع يستغفل الناشئة، ويغطي على هشاشة الثقافة الدينية والفقهية لأولئك المؤسسين والمرشدين.

وأدق تفسير عثرت عليه لهذه الظاهرة هو ما قاله الفيلسوف الشهير " مارتن هيدغر ": " العلم لا يفكر "، بمعنى أنّ العلوم الطبيعية ليست علوما للتساؤل والتشكيك والتأمل والتفكير والتحليل والتأويل والفهم؛ لأنّ القوانين الطبيعية تُكشف وتُطبق، وهي جزمية لدى دارسيها، فلا تتدرب أذهانهم على الظن والتخمين والتشكيك والتساؤل، خلافا للفلسفة والعلوم الإنسانية). (56)

3 - وفيما يخص الأيديولوجيات، يرى الرفاعي أنّ هذه الأيديولوجيات هي أيضا تخلو من الأمثلة البشرية الأخلاقية الروحية؛ ذلك أنّ هذه الأمثلة تستند إلى الأخلاق، بينما – فيما يرى – (الأخلاق على الضد من الأيديولوجيا غالبا؛ ذلك أنّ الأيديولوجيا ربما تصير الحسن قبيحا والقبيح حسنا. حدود الأخلاق الحسن والقبح العقليين، بمعنى ما ينبغي وما لا ينبغي حسب العقل العملي. أدلجة الدين تفسده، بل تفسد الإيمان. الإيمان ليس فكرة مجردة أو مفهوما باردا أو صورة ميتة، الإيمان ضرب من الحماسة والجذوة الروحية المتوثبة والينبوع الأنطولوجي المتدفق بكل ما يُثري الوجود ويكرسه. لحظة تنطفئ هذه الجذوة يُمسي الإيمان رمادا تذروه الرياح) (57)

ثم أنّ الأيديولوجيا – بتعبيره -: (عملية تزييف للحقيقة، وطمس لمعناها عبر حجب الواقع، واحتكار نظام إنتاج المعنى). (58) إنّها (بارعة في حجب الحقيقة، ذلك أنّها تستطيع إنتاج صورة متخيلة للحقيقة تماثل الحقيقة نفسها، وتظهرها كأنّها هي) (59) إنّها: (نسق مغلق، يُغذي الرأس بمصفوفة معتقدات ومفاهيم ومقولات نهائية، تعلن الحرب على أية فكرة لا تشبهها، حتى تفضي إلى إنتاج نسخ متشابهة من البشر، وتجييش الجمهور على رأي واحد وموقف واحد، كأنّها تتمثل قول فرعون: (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (غافر: 29)... الأيديولوجيا تعطل التفكير التساؤلي الحر المغامر). (60) (متى بزغت الأيديولوجيا تعطل التفكير الحر، الأيديولوجيا مضادة للعقلانية ... هي الأشد إعاقة للعقل ... تهتم بتعطيل العقل وإشاعة البلاهة ... الأيديولوجيا تهتم أيضا بإيقاظ ما يختزنه المجتمع من: مكبوتات تاريخية، وجروح موجعة، وإثارة مشاعر مقموعة محبطة، توظف كوقود لتحريض الغرائز، وإنتاج بيئة متوترة مشبعة بالحساسيات الدفينة، بغية إقحام المجتمع فيما ترمي إليه). (61)

الأيديولوجيون بهذه المواصفات لا يُمكن أن يمثلون الأمثلة البشرية الأخلاقية الروحية بالمعنى الرفاعي لهذه الأمثلة.

يقول الرفاعي: (ما درست شريعتي إلا بوصفه مثالا " مبهما ملتبسا " لاتجاه في التفكير الديني الأيديولوجي اجتاح عالم الإسلام الحديث والمعاصر. تفكير شريعتي يتلفع بأقنعة متنوعة، كلماته لا تخلو من غواية فاتنة، عباراته تُدلي بسحر الأدب والفن والشهامة والشجاعة والغيرة والنقد والتحريض والعويل والتعبئة والدعوة للثورة. لذلك يتطلب كشف وجهتها الأيديولوجية مزيدا من الفحص والتفكير والحفر والتفكيك. نقد شريعتي هو نموذج لنقد واسع في التفكير الديني الحديث والمعاصر الفاعل والمؤثر في عالم الإسلام) (62)

(يُقلق شريعتي والبروتستانتية الإسلامية التفكير الفلسفي في الدين، ذلك أنّه يقوض دعواتها الأيديولوجية، وينفتح فيه الوعي على آفاق رحبة لوظيفة الدين، ووعوده في حياة الإنسان، لذلك تشترك في موقفها المناهض للتفكير الفلسفي، منذ سيد قطب وعلي شريعتي ومن اقتفى أثرهم ... يرفض شريعتي سلوك الحلاج وغيره من المتصوفة المعروفين، من ذوي التجارب الروحية العميقة في الإسلام، ويحلو له أن يتهكم على الذروة الروحية المشتعلة بالإيمان التي تسامت إليها روح الحلاج ... انتهى تشديد شريعتي على الأبعاد الدنيوية للدين إلى تمركز مفهومه للدين على العناصر المتغيرة، التي وصلها عضويا بأدلجة الدين، وأهمل التوغل في جوهر الدين، ولم ينتبه لاكتشاف مضمونه الأصيل ومهمته في إرواء الظمأ للمقدس.

نلتقي في فهمه للدين، بمختلف الأبعاد: الحضارية، الثقافية، الزمانية المكانية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية. كما نلاحظ اهتمامه بنزع الأسطورة عن رموز الدين ومقدساته، وإفقاره ميتافيزيقيا، مثلما فعلت الببروتستانتية المسيحية.

قدّم شريعتي تفسيرا تاريخيا للبعثة والدعوة وسيرة النبي (ص) وأهل بيته وصحابته، يهتم بدراسة العناصر والعوامل والظروف البشرية المتنوعة، ويخفّض فيه ما هو غيبي، وحاول أن يفكك بين ما هو تاريخي وما هو ميتافيزيقي، وقد تمحور اهتمامه بما هو تاريخي، وأهمل ما هو ميتافيزيقي.

إنّه سعى لبناء رؤية دنيوية للدين، اصطلح عليها (البروتستانتية الإسلامية)، محاكيا البروتستانتية المسيحية، عبر تحويل كل ما هو دنيوي إلى ديني، وكل ما هو ديني إلى دنيوي ... تنتهي الأدلجة التي أنجزها شريعتي إلى " دنيوية الدين "، بمعنى إهدار الطاقة الروحية في الشعائر والعبادات والطقوس والممارسات الدينية، ومن ثم إنهاك الدين وتفريغه من محتواه الأنطولوجي ومضمون المعنوي. إنّ المفاهيم الدينية في غاية الدقة، وإذا ما خرجت عن حدودها الخاصة، فقدت قابلياتها وإمكاناتها، مثال ذلك أن نعتبر الوضوء ممارسة تهدف إلى النظافة والصحة، قد يكون للوضوء أثر صحي، ولكنه أولا أثر ضئيل المساحة جدا لدى المسلمين. وثانيا الوضوء ممارسة دينية صرفة. إنّه ليس فعلا صحّيّا، وإنّما هو فعل رمزي. وبمجرد أن نجعله صحّيّا، نكون قد أسقطنا عنه طابعه الرمزي ... خطيئة شريعتي والبروتستانتية الإسلامية، الحرص على إحياء إسلام التاريخ ونسيان إسلام الرسالة. وبكلمة أخرى هي السعي لإحياء التديّن، والتمثلات الاجتماعية الاقتصادية السياسية الثقافية للدين والموروث الديني. لكنها تجاهلت وأهملت إحياء الإيمان، والحياة الروحية، والحياة الأخلاقية. لحظة تنهار الحياة الروحية ينطفئ الإيمان، وتتزلزل الحياة الأخلاقية، وأخيرا يتلاشى الدين ويندثر، وإن كانت تتفشى بدلا عن ذلك صور خادعة للدين، وتسود مظاهر زائفة في المجتمعات، تتقنع بأقنعة دينية، غير أنّها يمكن أن تصنف على أيّ شيء، ما خلا أن نصنفها إيمانا وتدينا روحيا أخلاقيا أصيلا.

مشكلة شريعتي وغيره أنّهم لا يبصرون سوى ما يطفو على السطح من تمثّلات الدين في الاجتماع البشري. إنّهم لا يبتعدون عن قشرة الدين، لا يتوغلون إلى طبقاته العميقة. هذه القشرة تحجب عنهم استبصار جوهر الدين، وأبعاده القصية.

وعي جوهر الدين، وإدراك بعده الأنطولوجي، من شأنه أن يضع الدين في حقله الخاص. لكن استبصار البعد الأنطولوجي ومهمة الدين في تلبية الحاجة للمقدس، يتطلب تأملا وتوغلا في أعماق الذات، بمعنى أنّ وعي التجربة الروحية، يتحقق بتذوق سمو الروح وخبراتها، وانجذاباتها والتماعها وتبصراتها واشراقاتها ومكاشفاتها. وهو ما تبوح به أمثلة لا حصر لها في الماضي والحاضر.

لم تتعمق كتابات وخطابات المرحوم شريعتي باكتشاف طبقات الدين الجيولوجية، ولم تتناول ما هو قصي منها، بل توقفت غالبا نقاشاته وحواراته وهمومه في الطبقات السطحية، ولم تدرك تلك الطبقة الأعمق بوصفها لبّ الدين وحقيقته. ولا يتحقق إدراكها إلا من خلال العبور إلى البعد الأنطولوجي للدين ... تتكرر في آثاره الدعوة إلى أنّه ينشد تصحيح الخطأ في فهم رسالة الدين، كي يصحح الدين من أجل الإنسان، وليس الإنسان من أجل الدين، وأنّ الآخرة لا بدّ من أن تكون موصولة بالدنيا، بمعنى أنّ شقاء الدنيا يُمسي شقاء للآخرة. غير أنّ وعود شريعتي والبروتستانتية الإسلامية هذه لم تنجز، بل انتهت إلى نتائج عكسية؛ إذ ما أفضت إليه أدلجة الدين هي عبودية الإنسان للأيديولوجيا، واستلاب الأيديولوجيا لروحه وقلبه وعقله، وإقحامه في أحلام رومانسية ووعود خلاصية موهومة.

يكتب مرتضى مطهري هامشا على حاشية كتاب شريعتي " معرفة الإسلام ": " في رأيي، هذه الملزمة ليست معرفة بالإسلام، غاية ما نستطيع قوله أنّها تتغنى بالإسلام، أو كحد أقصى هي إسلام شاعري، أو أنّها نشيد الإسلام (يصبح الإسلام نشيدا فيها). نعني أنّ الإسلام أصبح موضوعا لنوع من الشعر أو التخيّل، تمت صياغته نثرا، والحق أنّه أصبح نشيدا جيدا وجميلا، ولكن هذا النشيد تلقى من مصادر تتألف من: الاشتراكية والشيوعية والمادية التاريخية والوجودية، أكثر مما تلقى من الإسلام "). (63)

4 – يستبعد الرفاعي أيضا أصحاب التصوف الطرقي السلوكي من دائرة الأمثلة البشرية الأخلاقية الروحية، فـ: (ليس كل متصوف صاحب تجربة دينية، فقد يكون المتصوف خاويا روحيا، هشا أخلاقيا، جائعا للمال والجاه، غارقا بكل ما هو شكلي زائف، لا يمتلك أيّ ثراء معنوي، ويفتقر للمثول الحقيقي في حضرة الله، مثلما هو شأن طيف عريض ممن يمتهنون ذلك، وهم أقرب للمشعوذين منهم إلى ذوي التجارب الروحية، بغية نيل مكانة اجتماعية، أو مصالح حياتية، خاصة في مجتمعات تمنح مثل هؤلاء ألقابا دينية، وصفات قدسية، وتهبهم مكاسب مادية، وفرص عيش مجانية.

التصوف الطرقي السلوكي " الاجتماعي "، الذي هو تصوف الدراويش والخانقاهات والتكايا والزوايا، وهو الذي لدى معظم من ينخرطون فيه من الرهبنة المبتذلة. هذا النمط من التصوف مرآة لتشوهات المسلمين في عصور الانحطاط؛ إذ ترتسم فيه صورة تخلف المسلمين وجهلهم، وأمراض التجربة التاريخية لزمان تراجع المسلمين، وتتفشى فيه أمراض وعاهات تقاليد الاسترقاق ومسالك الاستعباد، مثل، التربية على نفسية العبيد، وذهنية القطيع، والرضوخ والطاعة العمياء لمشائخ الطرق الصوفية، والهيام الذي يصل لمستوى العبادة للشيوخ والأقطاب والمشاهير منهم، وتقليدهم في كل شيء، إلى درجة السعي للذوبان بهم، والعزلة والخروج من العالم، والهروب من الحياة، والتنكيل بمتطلبات الجسد، والتضحية بالغرائز والحاجات الطبيعية للبشر .. وغيرها) (64) (نعم، تورط الكثير من المتصوفة بمتاهات غرائبية، فانفصلوا عن العالم، وانكفأوا داخل عالمهم الذي خلقوه لأنفسهم، وتفشت فيه سلسلة تقاليد وبروتوكولات، تلاشت معها فردية المتصوف، وانقلبت وظيفة التصوف، إذ أنّه بدلا من أن يكون مسعى ينشد استرداد الذات المهدورة، انتهى إلى عبودية وصنمية لأقطاب وشيوخ التصوف، والصنمية مهما كانت تهدر الذات وتهشمها، إذ يتحول معها الإنسان شبحا تُمحى في شخصيته كل ملامحه الخاصة. الصنمية عبودية مهما كان نمط الصنم، حتى في الحب، حين يصبح المحبوب صنما يغدو المحب عبدا) (65) .. (لحظة يتعامل المريدون مع شيخ الطريقة بوصفه صنما، تنطفئ الشعلة في أرواحهم، ويمسون رقيقا لا يمتلكون شيئا من ذاتهم، في حين يمتلك مشايخهم كل شيء في حياتهم.

هنا تنقلب وظيفة التصوف، بوصفها امتلاكا للذات عبر وصالها بالحق تعالى، والاستغناء عن كل شيء سواه، إلى انسحاق مهين للكرامة أمام مشايخ الطرق الصوفية.

معظم المتصوفة من الدراويش المولوية يسكر عقلهم فينام، حين يتماهون مع سيرة وسلوك وتجربة جلال الدين الرومي، ومتى ينام العقل تستيقظ الأصنام.

المشكلة العميقة في تصوف الدراويش أنّه يبرع في نحت الأصنام البشرية. فقد تحول جلال الدين الرومي في وجدان الكثير من أتباعه إلى صنم، وهنا انقلبت وظيفة التربية في التصوف، فأضحت تنتج عبادا لأصنام بشرية. الله يدعونا إلى التوحيد، وأن لا نتخذ من دون الله إلها، ولن نعبد سواه أبدا.

لايمكن قبول دروشة أتباعه ... ولا نتمنى أن تمسي مجتمعاتنا دراويش تتسكع في الأسواق بين الناس، بهيئة ولباس غريب من أسمال بالية أو قطع مزركشة بألوان متناشزة.

لا نطمع أن يقتبس الناس صورة جلال الدين الرومي، فيلبسون كما يلبس، ويمشون كما يمشي، ويرقصون كما يرقص، كما يُنقل عنه أنّه كان يفعل ذلك؛ إذ يُقال أنّ الرومي كان يُنشد " المثنوي " متجولا في أسواق " قونية ". يكتب شمس الدين الأفلاكي " أصبح مولانا ينشد المثنوي في كل حال، في: السماع، الاستحمام، جالسا، واقفا، وأحيانا من أول الليل حتى طلوع الفجر، بشكل متواصل، وحسام الدين الشلبي يحرّر ما ينشده. وكان يُعيد قراءة كل ما كتبه على الرومي بصوت مرتفع وجميل .. كان يرقص في الطرقات، ويخلع كل ما يرتديه على الحكواتيين، حتى أضحى يرقص عاريا ". نستبعد أن تصل الحال بجلال الدين الرومي إلى العري التام، حسبما ذكر الأفلاكي). (66)

5 – وفيما يخص الخطاب السلفي، يقول الرفاعي ـ: (السلفية اتجاه في التفكير الديني حاضر في كل تفسير حرفي للنصوص الدينية، يتفشى في كل الأديان والفرق والمذاهب، يرسم صورته الخاصة لله، وهي صورة يشدّد على تعميمها وفرضها على الكل بالإكراه. صورة تتصف ملامحها بالقسوة والشدة والعنف ومطاردة الإنسان ومحاربته، لا تحضر في ملامحها الرحمة والمحبة والشفقة والجمال والسلام). (67)

(إنّنا جميعا نهرب من تسمية الأشياء بأسمائها، ونلجأ لحيل مفضوحة، تتكتم على ما تتضمنه المدونة الكلامية والفقهية، من أحكام: الكفار، المشركين، أهل الذمة، الرق، الجزية، الردة، وغيرها. وتكفير الفلاسفة وذوي التفكير الحر، وأتباع الفرق والمذاهب. فقد كفر ابن تيمية مثلا من المسلمين: الفلاسفة، والمتصوفة، والجهمية، والباطنية، والإسماعيلية، والنصيرية، والإمامية الإثني عشرية، والقدرية.

لم ينفرد ابن تيمية بذلك، بل نعثر على غير واحد من الفقهاء ممن يُفتي بكفر هؤلاء، وربما غيرهم، خاصة تلامذة مدرسته، ومن ترسموا منهجه في التفكير. ولا تخلو من التكفير مدونة علم الكلام والاعتقادات لدى مختلف الفرق، كما أنّ المدونة الفقهية لكل المذاهب لا تخلو من مثل هذه الأحكام والفتاوى.

سيدرك الجميع متأخرين أنّ هذه المقولات الاعتقادية والفتاوى الفقهية، التي تشبعت بها عقول عدة أجيال في هذه البلاد، وتفشت في المقررات الدراسية في كافة المراحل، وطغت في دعوة وسلوك الدعاة السلفيين، انها ستلتهم الجميع، لتجعلهم رمادا في محرقتها في خاتمة المطاف، لو لم نبادر لمراجعتها نقديا، وتفكيكها وغربلتها.

ما دام تراث ابن تيمية ومدرسته يشكل مرجعية في مقررات التربية والتعليم، ترضية للمؤسسة الدينية السلفية، فإنّ الانتحاريين في مناهج التربية والتعليم يرقدون، ومن آثاره وتلامذته يولدون.

التدين السلفي يفقر الحياة الروحية، ويستنزف الحياة الأخلاقية، ويميت الحياة العقلية ... كلما اتسعت مساحة التدين السلفي ضاق فضاء الروح، واختنق القلب وتعطل العقل.

السلفية تنهك الدين، وتفقره ميتافيزيقيا، وتخفّض طاقته الروحية، وتهمل قيمه الأخلاقية، وتشدّد على القراءة القشرية الحرفية لنصوصه، وإهدار حقله الرمزي، وتعطيله في حدود الأبعاد السياسية الدنيوية.

كل ذلك أفضى إلى ذبول الحياة الروحية، وانطفاء الحياة الأخلاقية؛ إذ كيف تستنبت الحياة الروحية وتنمو وتزدهر في سياق الكراهية والتعصب ونفي الآخر ؟ وكيف تتشكل منظمومة القيم الأخلاقية في هذه المناخات الملعونة ؟) (68)

... (وهل يستطيع قلب يمتلئ بكراهية الإنسان المختلف، وروح لا تشعر بالانتماء للعالم، وعقل مريض ينهكه التشاؤم والاغتراب، ان يؤسس لحياة روحية أخلاقية حقيقية أصيلة، تشفق على المعذبين، وتتضامن مع الضحايا، بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، وتتصالح مع العقل والفن والجمال في الحياة ؟

المؤسسات الدينية السلفية وما يرتبط بها من جماعات دينية تقود مجتمعاتنا إلى معارك مفتوحة مع العصر، لا نفرغ من معركة إلا ونغرق في أخرى، وهكذا، حتى سقطنا في ربع القرن الأخير في حفلات قتل عبثي للأبرياء لا يتوقف.

إنّها جميعا تحذر وتحرم وتحظر التعاطي مع أيّ تأويل وفهم للنص الديني لا يكرر فهمها، فمثلا فهم محيي الدين بن عربي للقرآن، وتأويله للحياة الروحية في الإسلام، من المحظورات جدا لديها، يُلعن من يتداول آثاره، ويُطرد من الملة من يعتنق أفكاره. وهو موقف تلتقي فيه السلفية مع معظم الجماعات الإسلامية باختلاف في درجة الرفض، فصرامة المؤسسة السلفية جازمة، بخلاف الجماعات الإسلامية الأقل تشددا وصرامة، وإن كانت تُهمل ذلك الميراث الغني لابن عربي وغيره، بوصفه لا يقع في إطار المشروعية الدينية.

وكأنّ هناك تحالفا بين المؤسسات الدينية السلفية وهذه الجماعات، على إقصاء أي تفسير للنص الديني يستلهم منه: الرحمة والرفق والشفقة والسلام والمحبة، ويكشف عن صورة لله، يتجلى فيها: إلها للجمال، إلها للرحمة، إلها للمحبة، إلها للشفقة، إلها للسلام، إلها للسكينة، إلها للتراحم .. وهذه التجليات لصورة الله يغتني بها ميراث محي الدين ومن سبقه ولحقه من المتصوفة والعرفاء. ويمكن لهذه الصورة أن تشكل منبعا لإلهام سلسلة من المبادئ والمقولات المفيدة لبناء فهم بديل للدين ونصوصه وتنتج نموذجا للدين يقترن فيه الإيمان بالمحبة والتراحم والعطف على البشر. يمكن أن يستقى التفكير الديني في الإسلام اليوم شيئا من مادته للعبور نحو آفاق تتخطى بها الإنسداد الذي بات مستحكما في دنيا الإسلام، إذ نحرر الإسلام من مأزق استحالة بناء حياة روحية وأخلاقية، وننقذه من السقوط المريع في مستنقع الدم المسفوح، ونخلصه من الصراع الأبدي مع الحاضر والمستقبل). (69)

(لعل السبيل الأمثل لبيان هشاسة هذا النوع من الفهم السلفي المغلق يكمن في السعي الحثيث للكشف عن النزعة الإنسانية العميقة في الدين، وإضاءة الحقول المنسية في النصوص المقدسة، والتنبيه إلى الجهل، أو التجاهل، والإصرار على تغييب مساحة واسعة من تلك النصوص، تغتني بالجوانب التنزيهية السامية، التي تصطفي الإنسان، وترفع مكانته، وتعتبره أكرم موجود خلقه الله في العالم، بل خلق كل شيء مسخرا من أجله، وجعل حياته أغلى رأسمال في الوجود، فهي مناط الخلافة، وموطن المسؤولية والأمانة الإلهية) (70)

6 – أما فيما يخص خطاب المدونة الفقهية، فقد تحدث عنه الرفاعي في سياق حديثه عن خطاب المتكلمين والسلفيين.

7 – وإذا كان الرفاعي يعتقد أنّ أنماط الخطاب السابقة لا يمكنها أن تؤدي إلى تجارب دينية أصيلة، فعلى العكس من ذلك كان موقفه من خطاب الفلاسفة والعرفاء والمتصوفة.

(إنّ المتكلم فيلسوف دين الأيديولوجيا ... بينما الفيلسوف والعارف والمتصوف فيلسوف دين الأنطولوجيا، وأنّ فهمه للدين يلامس العالم الجواني للكائن البشري، وينشغل بتفسير نمط وجوده، والكشف عن مسالك تواصل كينونته وأسفار روحه في عوالم خارج حدود العالم المحسوس المادي).(71)

(تحث الثروة الفلسفية على: بعث العقل، والنظر والتدبر والتفكير والتأمل). (72) و (يعمل العقل الفلسفي على حذف الأخطاء المتراكمة في تفسير الحقيقة، وتصويب فهم الوجود، وابتكار رؤية عقلية للعالم، وصياغة معنى للكينونة يكشف حقيقة الكائن البشري، ورتبته الوجودية. إنّها مسعى لإشباع شغف العقل بالمعنى، حيث يفتقد المعنى. التفكير الفلسفي ينفتح فيه الوعي على آفاق رحبة لوظيفة الدين، ووعوده في حياة الإنسان). (73)

(التصوف المعرفي هو تصوف عقلي خرج على الأنساق المغلقة الحرفية لقراءة النصوص الدينية، وأنتج قراءة لها خارج إطار مناهج وأدوات القراءة والفهم والنظر الموروثة، التي اخترع قواعدها ومقولاتها الشافعي والأشعري وغيرهما، ثم نسجت داخل أسيجتها قواعد ومقولات مختلف أعلام الفرق والمذاهب، وترسخت بمرور الزمن، حتى ارتقت إلى مرتبة المقدس، واحتلت مكانة النصوص المقدسة التي تقرؤها هذه الأدوات.

لقد منج هذا النمط من التصوف المسلم أفقا رحبا في التأويل، وإنتاج قراءات تتوالد منها على الدوام قراءات حية في فضاء يلهم الحياة الروحية الأخلاقية للمسلم. كذلك استطاع هذا النمط من التصوف الخلاص من توثين الحروف وإهدار المقاصد، والتمسك بالأشكال ونسيان المضامين، والغفلة عن الحالات والغرق في الصفات.). (74)

(تتوغل مدونة التصوف والعرفان في فضاء الذات، واستكناه أسرارها، وإيقاظ الروح، وإشعال القلب، وإثراء الوجدان، وتكريس التجربة الروحية الفردية، والحث على سبر أغوار الحياة الشخصية، واكتشاف طبقات النفس، واستبطان، عالمها الجواني، والحفر في سراديبها وانفعالاتها وتوتراتها وعنفها وبراكينها) (75)... الرؤية للعالم في لاهوت العرفاء والمتصوفة أفقية، والصلة بالله من منظورهم ليست سوى وصال حبيبين ... بهذه الرؤية أعاد التصوف المعرفي الاعتبار للذات المستلبة، والعالم الجواني المطموس للشخص البشري، وعبّد دروب القلب في رحلته الأبدية نحو الحق، وانشغل بإرواء ظمأ الروح للمقدس). (76)

(نحن بأمس الحاجة اليوم إلى رؤية الرومي المضيئة لله والإنسان والعالم، وإشراقاته الروحية الأخلاقية، وتأملاته ومفاهيمه الإنسانية الكونية، وأثرها في هتك أسرار كل تلك الحجب والأقنعة المظلمة المتراكمة على النصوص الدينية، والتي أهدرت المضامين القيمية السامية للدين، بما استبد بها من تعصيات ومظالم وانتهاكات باسم الله للكرامة البشرية.

تفصح لنا مفاهيم الرومي الإنسانية الكونية كيف جرى طمس الصورة الجميلة لله، وكيف تم تشويه هذه الصورة، بنحو أفضت إلى ما يضج به عالمنا من حروب الأديان ومذابحها، فذبحت خليفة الله بذريعة الدفاع عن الله.

كذلك ينبغي أن نستقي من الرومي تدفق قلبه بالعشق الإلهي، وما يصوره بيانه من لوحات متلألئة بالمحبة والتراحم والسلام، وكل معنى إنساني، دافئ كي يستفيق إيماننا كما دينامية إيمانه اليقظة المتوثبة المضيئة، وتتسامى أرواحنا بتسامي رؤياه الفسيحة وكونيتها). (77)

(ما يهمني في رؤى التصوف المعرفي " الفلسفي " والعرفان النظري هو التقاط بعض الدرر والللآلئ في رؤياهم المضيئة الرحبة، مما يتصل بقيم: الإيمان والتدين، وعدم نسيان الذات، والجمال والفنون، واحترام الكائن البشري، والارتقاء بمكانته، والتسامي بمقامه، والتعددية الدينية، والخلاص والنجاة والرجاء، وغيرها من قيم ومقولات تدين المحبة والتراحم والسلام).(78)

(يلهمنا ميراث العرفاء والمتصوفة مفاهيم ومقولات ورؤى، ترسخ النزعة الإنسانية في الدين، تشبع حياتنا بالمعنى، تخلع على دنيانا صورتها الأجمل، تهبنا أفقا بديلا للتواصل مع مختلف الأديان والفرق والمذاهب، فلا تضيق مجتمعاتنا وتنفجر بمكوناتها العقائدية والأثية).(79) و (يتأسس ما يمكن تسميته بـ (لاهوت الشفقة، الرحمة، المحبة، العشق، الجمال، الفرح، الحياة، الابتسامة، الأمل، الاختلاف، التنوع، التعددية ... اللهوت الإنساني)، الذي يكمن فيه سبيلنا للخلاص من (لاهوت الكراهية، نفي الآخر، الموت، الحزن، البكاء والتشاؤم). (80)

(يتبنى العرفاء تفسيرا للنص الديني يستلهم منه: الرحمة والرفق والشفقة والسلام والمحبة، ويكشف عن صورة لله، يتجلى فيها: إلها للجمال، إلها للرحمة، إلها للمحبة، إلها للشفقة، إلها للسلام، إلها للسكينة، إلها للتراحم .. وهذه التجليات لصورة الله يغتني بها ميراث محي الدين ومن سبقه ولحقه من المتصوفة والعرفاء. ويمكن لهذه الصورة أن تشكل منبعا لإلهام سلسلة من المبادئ والمقولات المفيدة لبناء فهم بديل للدين ونصوصه وتنتج نموذجا للدين يقترن فيه الإيمان بالمحبة والتراحم والعطف على البشر. يمكن أن يستقى التفكير الديني في الإسلام اليوم شيئا من مادته للعبور نحو آفاق تتخطى بها الإنسداد الذي بات مستحكما في دنيا الإسلام، إذ نحرر الإسلام من مأزق استحالة بناء حياة روحية وأخلاقية، وننقذه من السقوط المريع في مستنقع الدم المسفوح، ونخلصه من الصراع الأبدي مع الحاضر والمستقبل). (81)

الملحق (2)

فيما يلي من النصوص سوف يتبين لنا موقف الرفاعي من المؤسسة الدينية التقليدية بشكل عام والحوزة الدينية بشكل خاص:

(الحوزة هي المحطة الثالثة في حياتي، أعتز بهذه التجربة، التي بدأت عام 1978 وما زالت متواصلة، على مدى ثمانية وثلاثين عاما. تلمذت على يد علماء وفقهاء معروفين، وتتلمذ على يدي المئات من طلاب الحوزة. وبموازاة ذلك واصلت تعليمي الأكاديمي، حتى ناقشت الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية سنة 2005.

لاحظت أنّ من كتبوا عن الحوزة – من خارجها – فشل الكثير منهم في التوغل في بنيتها التحتية الراسخة، ليكتشفوا نسيج العوامل الراقدة فيها، التي تساهم في توليد ما يحكمها من قيم وتقاليد متجذرة، ونوع الروافد التي تستقي وتتغذي منها استمراريتها.

الحوزة بنية عميقة لاهوتيا وروحيا ومعرفيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، تتشكل فيها سلطة ذاتية، تضبط إيقاع وانسجام مكوناتها، وتردع كل مسعى يهدد هذه البنية أو يتحرش بها.

في الحوزة سلسلة من البيوتات والعوائل الدينية، تتشابك في نسيج قرابات منذ عشرات السنين، وبعضها منذ مئات السنين، يضاف لها على الدوام روابط جديدة، عبر زواجات ومصاهرات بين الأجيال الجديدة.

لم يكن سهلا على ابن فلاح مثلي، جاء من العالم السفلي للمجتمع، ومن طبقة فقيرة مهمشة، أن يندمج في نسيج الحوزة، لينتزع اعترافا، ويصبح عنصرا فاعلا مؤثرا في هذا المحيط، خاصة وأنّ كل كائن بشري مسجون في بيئته الأولى، وهذا عالم لا يشبه في الكثير من تقاليده عوالمي الأخرى في القرية، أو التعليم الحديث، الذي تدرجت في مراحله، أو العمل الحزبي السري الذي استنزف سنوات الحيوية في شبابي.

الوفاء للموروث والارتهان في مداراته، بكل ما يكتنفه ويحتويه، هو السمة الطاغية في كل ما تهتم به الحوزة، وما يسود مشاغلها. إنّها تحرص على صيانة وحراسة التراث، وتناهض المساعي للتفلت من شباكه، والتحرر من مداراته المغلقة.

من هنا تحذر من توظيف المعارف والعلوم الإنسانية الحديثة في نقد وغربلة التراث وتشريح الموروث، أو استخدام مناهجها ومفاهيمها في قراءة النصوص الدينية، ذلك أنّ هذا النمط من المناهج والمفاهيم ينتج مفاهيم ومقولات لاهوتية وآراء، لا تتطابق مع ما تقود إليه المناهج والمفاهيم العريقة في: علوم القرآن والتفسير، والحديث، وعلم الكلام، وأصول الفقه والفقه، والفلسفة.

اكتشفت في الحوزة مسالك التراث ودروبه المتشعبة، وتذوقت فيها لذة النصوص الفلسفية والعرفانية، وغموض وتلغيز بعض مدونات أصول الفقه والفقه الاستدلالي .. وغيرها.

نمتلك في الحوزة مفاتيح التعاطي مع المعارف التراثية، في مراحل ثلاث، هي: المقدمات، السطوح، والبحث الخارج. تستوعب هذه المراحل دراسة النحو والصرف والبلاغة، والفقه والإصول، وعلوم الحديث والتفسير، والمنطق والفلسفة، والعرفان، وعلم الكلام.

ندرس كلاسيكيات النصوص، ونتمرن سنوات طويلةعلى تفسيرها، وتفكيك ألغازها، وإعادة ضمائرها إلى ما تشير إليه، ربما يعود الضمير فيها إلى صفحة أو أكثر تقدمت، ونغور في ما تحيل إليه من مضمرات ومعان حافة يتسع لها فضاؤها الدلالي. وعادة ما نعود إلى الحواشي والتعليقات والشروح، كيما نفهمها. ظلت الكثير من تلك الحواشي والتعليقات والشروح مرسومة بأشكال هندسية بارعة، على حافات صفحات الكتب المطبوعة على الحجر، منذ بداية ظهور الطباعة في بلادنا حتى منتصف القرن العشرين.

أغنت الحوزة حياتي بتجارب ثرية متميزة، في مجتمع نسيجه متشابك، تصنع فيه الألقاب الدينية، وتمنح فيه المراتب العلمية، وتخلع فيه السمات الروحية، في سياق تقاليد ترتبط عضويا برأسمال رمزي، ومخزون ثقافي روحي متراكم منذ مئات السنين.

دراستي في الحوزة أضاءت آفاق رؤيتي للماضي والحاضر والمستقبل.

الحوزة واحدة من مؤسسات المجتمع، تطورها لا ينفصل عن الاجتماع البشري المتنوع الواسع، فهي ليست خارج الزمان والمكان الأرضيين، وليست عابرة للتاريخ الإنساني، وتغيير المجتمعات البشرية لم يعد محكوما بالأساليب والوسائل الموروثة، بل تجاوزت المجتمعات النمط الذي ظل فيه التاريخ تصوغه الأفكار والدعوات والمفكرون والأبطال، بعد انزياح عالمنا لصالح العالم الافتراضي، وسطوة تكنولوجيا المعلومات على كل ما يتصل بتدبير الشأن الدنيوي، وإعادة تشكيل الاجتماع البشري في سياق مختلف ... نحن جزء من موكب البشرية الزاحف. العقل البشري والتجارب الكونية مشتركة لدى الكل. لسنا استثناء من الشر، هل يمكن أن يتغير ويتحول كل البشر، بينما نحن نظل مختبئين، ويظل كل شيء في حياتنا عصيا على التحوّل والتغيير ... المعرفة الدينية حقل من حقول المعرفة، تخضع لشروط الإنتاج العامة المولدة للمعرفة البشرية، وتحكمها القوانين والمشروطية التاريخية واللغوية نفسها، وليست هي الاستثناء الوحيد في عملية التفكير وانتاج المعرفة. فلماذا لا يشملها البحث والدراسة في سياق المعارف البشرية كافة، ولماذا نعدها الاستثناء الوحيد الذي لا يخضع لأية مناهج ومفاهيم يكشفها ويطورها الإنسان؟ المعرفة الدينية إحدى تجليات المعرفة البشرية وافتراض أنّها استثناء ولا تنتمي للمعرفة البشرية ناجم عن الجهل بفلسفة العلوم، والمنطق الحاكم في صيرورة تغير وتطور المعارف والعلوم.

نعم، الفكر لا يغيره إلا فكر من الخميرة ذاتها، وتحديث الحوزة يتوكأ على استكشاف المنطق الذاتي للموروث واستيعابه، غير أنّ هذا الاستيعاب لا يعني الغرق في أنفاقه، بل العمل على الالتحاق بالعصر، والسعي لعبور الموروث وتخطيه، وذلك لا يتحقق إلا باستيعاب الخبرات والمكاسب الراهنة للعقل البشري، وما أنجزته المعارف والعلوم الحديثة، والإفادة منها في فهم وتفسير النصوص، وإعادة بناء المعرفة الدينية، في سياق متطلبات العصر ورهاناته ... لا سبيل لتحديث، إلا بالانخراط في مخاضات المعارف البشرية والتعرف على مكاسبها، ووعي فلسفة تغيرها وتحولها. ولا نصل ذلك إلا بالاستيعاب النقدي للتراث، وتوظيف المعطيات الجديدة للمعرفة البشرية في تشريحه، وإعادة بناء التفكير الديني في الإسلام ضمن سياق المنهجيات والمفاهيم والرؤى والمعطيات الجديدة للمعارف والعلوم.

وهنا أستأنف ما تحدثت عنه في مناسبة سابقة، قبل عدة سنوات، حول ضرورة تحديث التفكير الديني في الإسلام من داخل المؤسسة الدينية، وضعف تأثير المفكرين والدارسين والباحثين خارج هذه المؤسسة، بالرغم من أهمية منجزهم وريادته، ففي مراجعة عاجلة لحركات تحديث التفكير الديني الفاعلة والمؤثرة في تاريخ الأديان، والتي امتدت وترسخت عبر الزمان، نجد الحركات المشتقة من المؤسسة الدينية، والمتولدة من الخميرة ذاتها، كحركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر داخل الكنيسة هي ما أحدث منعطفا وتحولا حاسما في تقاليد ونظام المؤسسة الدينية، ويظل على الدوام صوتها مسموعا ومؤثرا في المؤسسة.

تحديث المسجد لا يتحقق إلا حين ينبثق من داخل المسجد، وتحديث الحوزة لا يتم إلا عندما ينطلق من الحوزة، لكيلا يفتقر التحديث للمشروعية، تبعا لذلك كي يتوافر له حامل اجتماعي. بينما لا تجد الدعوات والكتابات في الإصلاح من خارج المؤسسة الدينية حاملا اجتماعيا يعتنقها ويتبناها ويتفاعل معها داخل المؤسسة، ويستخدم الإمكانات التي يتيحها له انتماؤه للمؤسسة الدينية، كالمنابر والشعائر والمواكب ودور العبادة في التثقيف على المفاهيم والمقولات والرؤى والأفكار التي تدعو إليها.

ولا أعني بـ " المشروعية " هنا المفهوم الميتافيزيقي أو الغيبي أو الفقهي، بل أعني المفهوم السوسيولوجي والأنثروبولوجي، أي أنّ خطيبا على منبر بوسعه تعبئة وتحريض المستمعين على اعتناق آرائه مهما كانت، تبعا لما يمنحه له المقام الذي يصدر عنه حديثه من مكانة وقيمة ومشروعية. فيما لا يمتلك المفكر والباحث خارج المؤسسة الدينية ما يمنح آراءه هذه القيمة الرمزية والمشروعية.

قد لا تكون هذه الفكرة محببة لدى بعض المنشغلين بدراسة ونقد الفكر الديني، المنحدرين في تكوينهم الفكري من خارج المؤسسة الدينية، ولعل بعضهم يرى فيها تقليلا من دورهم التحديثي، إلا أنّني أرى أنّ الواقع التاريخي لمسيرة التحديث ينحاز لصالح هذه الفكرة.

في النهاية، تبدو هذه الملاحظة سديدة إذا بقيت مجتمعاتنا في بنيتها الاجتماعية، وفي مصادر تكوينها العلمي والثقافي على ما هي عليه الآن. نعم، في ظل نظام تعليمي جديد، لا سيما الجامعي منه، أكثر حداثة وتنوعا وعمقا مما نجده اليوم، من الممكن توقع دور للنخب العلمية المشار إليها أكبر وأوسع.

كنت قبل أكثر من ثلاثين عاما ممن ينتقدون النظام التعليمي في الحوزة، والمرجعية التقليدية، لكن بعد تجربة تواصلت في الحوزة منذ 1978، وعلاقة عضوية بالدراسة والتدريس فيها، أدركت أنّ عملية اصلاح النظام التعليمي غرقت بالشكل وأهملت المضمون، أعني: جرى توطين نظام التعليم الجامعي في الحوزة باسلوب تبسيطي، يفتقد العمق والتكثيف والرصانة والأكاديمية.

نعم، أطر التكوين الموروثة الراسخة في الحوزة تتضمن عيوبا متعددة، وتُهدر فيها سنوات طويلة من أعمارنا، غير أنّها تتكفل بتكوين عمودي أفقي واسع في المنقول والمعقول، يمنحنا أهلية استثنائية للتوغل في التراث واستكشاف مسالكه ومدياته المتشعبة القصية.

أما المرجعية الدينية التقليدية، فقد تحوّل موقفي حيالها منذ أكثر من ربع قرن، بعد أن تفهمت أنّ حضورها ضرورة تفرضها متطلبات اجتماعنا اليوم. ذلك أنّ مجتمعاتنا ما زالت في " مرحلة ما قبل الحداثة ". بل يمكن توصيف بعضها بأنّها " مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة ". والمرجعية التقليدية في هكذا مجتمع، أي مجتمع ينتمي إلى الماضي بكل ما فيه، هي أهم نقطة ارتكاز في العواصف والمنعطفات العظمى التي تعصف به، مثلما نشاهد المجتمع العراقي منذ الاحتلال الأمريكي.

ولك أن تراجع مواقف مرجعية السيد علي السستاني في هذه الحقبة، ودورها الحاسم والمحوري منذ 2003 إلى سقوط الموصل وغيرها بيد داعش 2014، فلولا مواقفها الحكيمة لغرقنا أعمق مما نحن فيه اليوم في الفوضى والحرائق المزمنة.

إنّ مرجعيات النجف وقم واالزيتونة والقرويين ليست هي السبب للمأزق الذي نغرق فيه اليوم، ذلك أنّها مؤسسات دينية مشتقة من الاجتماع الإسلامي نفسه، وهي تتحرك وتنمو وتتطور في ضوء المنطق الذاتي لهذا الاجتماع وسياقاته الخاصة، ولا تمثل تمردا وانشقاقا عليه.

مأزقنا يتمثل في الانشقاق على الاجتماع الإسلامي الراسخ، الذي يعمل على نحر هذا الاجتماع وتمزيقه. وهو ما نشاهده في كل يوم في ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا.

طوال تاريخ الاجتماع الإسلامي لبثت المرجعيات الدينية في الإسلام فاعلة ومتفاعلة. ولم ينقل لنا تاريخنا القديم أو الحديث أنّها مثلت في مرحلة ما مأزقا للأمة. مرجعية النجف قاتلت الإنجليز سنة 1914 حين دخلوا العراق محتلين، دفاعا عن دولة السلطنة العثمانية، بوصفها تحمل راية الإسلام، بالرغم من أنّ دولة السلطنة هذه ظلت تضطهد الشيعة وتهدر حقوقهم في العراق قرونا عديدة، كما تحكي لنا تواريخ تلك الفترة.

يعرف الأصدقاء ممن يطالعون كتاباتي ويستمعون أحاديثي، أنّي كنت وما زلت ناقدا للنظام التعليمي التقليدي في المؤسسة الدينية، وأنا ممن يعملون على تحديث هذه المؤسسة ووصلها بالعصر، عبر اكتشاف المنطق الذاتي للموروث من أجل عبوره، وتوظيف المناهج الحديثة في دراسة التراث والنصوص الدينية.

لكن ليس من الصواب اتهام المؤسسة الدينية التقليدية وتوريطها فيما أفضى إليه حالنا اليوم . وقائع تاريخ الاسلام الحديث والمعاصر تدلل على براءة هذه المؤسسة من " تحويل ثقافة الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا ". الجماعات الإسلامية هي من فعلت ذلك.

أود أن تطلع على الوثيقة الصادرة عن الأزهر في يونيو 2011، سترى أنّها لا تدعو إلى أيّ شكل من أشكال " الدولة الدينية "، وإنّما تحدثت بصراحةعن: " دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، حيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب ... ".

وهكذا أعلنت المرجعية الدينية للشيعة في النجف أنّها تدعو لدولة غير دينية، تستند المشروعية فيها إلى الشعب، كما ورد ذلك بوضوح في نص مدون لآية الله السستاني المرجع الأعلى للشيعة في المؤسسة الدينية النجفية، والذي جاء فيه: إنّ " شكل العراق الجديد يحدده الشعب العراقي، بجميع قومياته ومذاهبه، وآلية ذلك هي الانتخابات الحرة المباشرة. وأما تشكيل حكومة دينية على أساس فكرة ولاية الفقيه المطلقة فليس واردا مطلقا.

لم تنبثق الجماعات الإسلامية عن المؤسسة الدينية ... ولو راجعنا تكوين زعامات الجماعات الإسلامية فلن نعثر على فقيه مكرس أو رجل دين مشهور في قياداتها). (82)

وهنا نختتم موقف الرفاعي من الحوزة بما ينصح به تلامذته، حيث يقول: (اشتكى بعض تلامذتي، من أبناء عمال وفلاحين وفقراء مثلي، إثر صدمتهم ببعض ما يتفاجئون به في الحوزة، ودهشتهم من غرابة ممارسات وسلوكيات بعض أساتذتهم، وبعض زملائهم من أبناء الأسر الدينية، التي تتوارث المقامات فيها، لكن كنت أشدد على ضرورة مكوثهم واستمرارهم في التعليم الديني، من أجل مستقبل أهلنا في العراق ومجتمعنا، الذي لا يصغي وينقاد إلا لرجل الدين أو شيخ العشيرة). (83)

...................

الهوامش

1 - الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير للطباعة والنشر، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد. ط2. 2017م. ص6.

2 – المصدر السابق، ص6.

3 – نفسه، ص32.

4- نفسه، ص6.

5 – نفسه، ص6.

6 – نفسه، ص79.

7 – نفسه، ص80.

8 – نفسه، ص149.

9 – نفسه، ص16-17.

10 – نفسه، ص294-295.

11 – نفسه، ص79-80.

12 – نفسه، ص295.

13 – نفسه، ص76.

14 – نفسه، ص76.

15 – نفسه، ص76.

16 – نفسه، ص140.

17 – نفسه، ص44-45.

18 – نفسه، ص86.

19 – نفسه، ص74.

20 – نفسه، ص291.

21 – نفسه، ص134-135.

22 – نفسه، ص157-159.

23 – نفسه، ص190.

24 – نفسه، ص78-81.

25 – نفسه، ص131.

26 – نفسه، ص129-130.

27 – الرفاعي، عبد الجبار، " كامل شياع متصوف خارج إطار الأديان، موسوعة الموسم، العدد (105) السنة (26) – (1435ه-2014م)، ص629.

28 – الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص78.

29 – نفسه، ص74.

30 – نفسه، ص130.

31 – الرفاعي، عبد الجبار، " كامل شياع متصوف خارج إطار الأديان،مصدر سابق، ص629.

32 – الرفاعي، عبد الجبار. الإيمان والتجربة الدينية، دار التنوير للطباعة والنشر، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد. 2015م. ص10.

33 – الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص170-171.

34 – نفسه، ص65.

35 – الرفاعي، عبد الجبار، تحديث الدرس الكلامي والفلسفي في الحوزة العلمية، ص7.

36 – الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص5-7 وص293.

37 – نفسه، ص294.

38 – نفسه، ص230.

39 – نفسه، ص295.

40 – نفسه، ص268.

41 – نفسه، ص270-271.

42 – نفسه، ص37-39.

43 – نفسه، ص180.

44 – نفسه، ص39.

45 – نفسه، ص39.

46 – نفسه، ص181-182.

47 – نفسه، لاحظ الفصل الثاني.

48 – نفسه، ص199.

49 – نفسه، ص60.

50 – نفسه، ص90.

51 – نفسه، ص80.

52 – نفسه، ص147-149.

53 – الرفاعي، عبد الجبار، علم الكلام الجديد، دار التنوير للطباعة والنشر، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد. 2016م. ص23-41.

54 – الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص149.

55– نفسه، ص83.

56 – نفسه، ص213.

57 – نفسه، ص10.

58 – نفسه، ص9.

59 – نفسه، ص176.

60 – نفسه، ص105.

61 – نفسه، ص175-176.

62 – نفسه، ص9.

63 – نفسه، ص109-126.

64 – نفسه، ص132.

65 – الرفاعي، عبد الجبار، علم الكلام الجديد، مصدر سابق، ص36.

66 – الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص132-133.

67 – نفسه، ص10.

68 – نفسه، ص156-161.

69 – نفسه، ص169-170.

70 – الرفاعي، عبد الجبار. إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد. ط2. 2013م، ص281.

71 – الرفاعي، عبد الجبار. الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص145.

72 – نفسه، 136.

73 – نفسه، ص109-110.

74 – نفسه، ص136.

75 – نفسه، ص26.

76 – نفسه، ص136.

77 – نفسه، ص135.

78 – نفسه، ص183.

79 – نفسه، ص135.

80 – نفسه، ص74.

81 – نفسه، ص169-170.

82 – نفسه، ص64-66، وص184-187، وص205-212.

83 – نفسه، ص65.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم