صحيفة المثقف

القلب في البلاغة

faroq mawasiسألني صديق: البيت التالي (لعله للفرزدق؟) يحيّرني أمره:

ما قالَ (لا) قطّ إلاّ في تشهّدِهِ ***  لولا التشهّدُ كانت لاءَهُ نعمُ

فلربما كان من الواجب أن يُكتَبَ هكذا:

ما قالَ لا قطّ إلاّ في تشهّدِهِ *** لولا التشهّد كانت لاؤهُ نعم

لعلّ ذلك يخفّف من وطأة ما فيهِ من خطأ نحوي.

 وإلاّ فهل لديكم تفسير لهذا اللحن؟

عزيزي، ولك تحية!

 أولاً- البيت للفرزدق، ومنهم من يرويه للحَزين الكِناني أو لداود بن سَلْم، لذلك فإن علامة استفهامك على حق، مع أن الشائع أن القصيدة للفرزدق.

ولكنك لست على حق إذ كتبت (لاؤه نعم ُ) والصواب (لاءَه نعم). لأن (لاء) خبر مقدم منصوب.

وهذا من باب "القلب" في اللغة، فكان المعنى:

لولا الشهادة الأولى ونقول فيها: لا إله إلا الله - لكانت هذه الـ (لا) نعم، وذلك لكثرة كرمه وإيجابه وقبوله وباستمرارية قول (نعم) المتردد عنده، فهو مضطر اضطرارًا لاستخدام (لا) في صلاته.

أما "القلب" فهو تبديل الكلمات واحدة بدل الأخرى، فقد ورد في القرآن الكريم:

{وأولئك الأغلال في أعناقهم}- الرعد، 5،  فالأعناق هي التي تكون في الأغلال ولكنه قَلب هنا.

ومنه قول رؤبة:

ومهمهٍ مغبرّة أرجاؤه ***   كأن لونَ أرضه سماؤه

أي كأن لون سمائه لونُ أرضه، فعكس التشبيه، وحذف المضاف.

ويدخل "القلب" في باب المبالغة.

اسمح لي أن أذكر من شعري ما قلته في هذا الباب:

إذ قام ينزع جسمَه المدفونَ في ثوبِ العذاب

وأتى بعريٍ وانتباه

ينزع (جسمه) بدل (ثوبه)، وهذا من كثرة القهر، والمعاناة.

أرجو أن أكون واضحًا، فقد كان من حق المتلقي أن يسمع الـ (لا) نعمًا لكثرة ما يستجيب هذا الممدوح، فيقول: كانت لاؤه نعمًا - إذا اعتبرناهما اسمين، لكنه قلب مبالغة، فجعل كلمة الـ (نعم) لاءَه (خبر كان).

 القلب في البلاغة هو للمبالغة، و الباحث يجد الكثير منه.

أحب أن أضيف لك أن القصيدة بما فيها البيت- إذا صحت أنها لداود بن سلم، فالمخاطب فيها هو قُثَم بن عباس، وإذا صحت أنها للحزين فالمخاطَب هو عبد الله بن عبد الملك، بل ثمة من رواها لخالد بن يزيد مولى قثم وقد قالها فيه (انظر الأغاني ج 15، ص 263).

جدير بالذكر أن اللغويين لاحظوا الخروج عن الأصل النحوي (الذي سميته أنت لحنًا)، فروى بعضهم البيت هكذا:

لولا التشهد لم ينطق بذاك فم

وبعد،

 أراك يا صديقي ما زلت مصرًا على رأيك، فأين طالعت (كانت لاؤه نعمُ)؟ في أي مصدر جدي؟  اذكر لي اسم كتاب واحد رجاء!

ثم إن (القلب) ليس مصطلحًا معروفًا في كتب البلاغة التي درسناها أو نعرفها، وهو لا يسمى (قلب المعاني) لأن هذا مصطلح آخر في سياق آخر، فقد تعرفت إلى القلب من كتاب (إعراب القرآن الكريم وبيانه، ج6، ص 309) لمحيي الدين الدرويش..

ثم إن الرواية الأخرى (لم ينطق بذاك فم) لا تقلل من شأن، ولا من سيرورة الرواية التي نعرفها، فإذا أنكرها بعض النحويين فلا يعني أنها خطأ أو لحن.

 

ب. فاروق مواسي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم