صحيفة المثقف

من يوميات لاجئ (2) وقفة مع سوق الاحد Sunday markt

salam alsamawiاشتد الحر في تلك الايام فغدوت لا أطيق الجلوس في البيت بدون مروحة، ولقد سمعت الناس يقولون ان طبقة الازون في استراليا تتخللها فتحات تسرب ضوء الشمس، وحقا ما قالوا فعلى الرغم من انحدري من بيئة ساخنة جدا الا اني اكاد اختنق حينها من شدة الحر.

وقد احدث نفسي في بعض الاحيان ان الخلل ليس في طبقة الاوزون وانما في طبقة الصبر والتحمل في نفسي التي اشعر بانها بدات تميل الى النزاكة والشفافية في هذه البلاد !! .

وعلى اية حال فقد خرجت من البيت في الصباح الباكر وعدت وانا احمل بين يدي مروحة منضدية طالما حلمت باقتنائها طيلة الفترة الفائتة .. والحق اقول اني لم اجازف في شراء مروحة جديدة لعلمي بقيمتها الباهضة، وانما قصدت " سوق الاحد " على غرار  "سوق الجمعة " في بلداننا المسمى عندهم المستعملة يوم الاحد بقيمة مخففة، كما لا اود ان اخفي ان اكثر السلع المنزلية التي يكتظ بها منزلي هي اغراض مستعملة لفترات قد تقصر او تطول .. وبينما كنت احاول ان اتنعم بالنسيم المنعش لمروحتي الجديدة واذا بالباب تطرق، فاتذكر اني كنت على موعد مع احد الاصدقاء .. جلس صاحبي على مقعده وحدق في المروحة بنظرة عتاب .. ثم اخذ ينتقد بشدة ظاهرة الانكباب المفرط في معيشتي على السلع المستعملة ابتداءا من الطاولة  ومرورا بالراديو وانتهاءً بالثلاجة ذات الدوي المستمر .. فمازحته حينها قائلا:

دعك يا صاحبي من هذه الانتقادات، فنحن نعرف بعضنا بعضا، ولعل الذي يشتبه بنا هو ذلك الانسان البعيد عنا والذي يتصور اننا نعيش هنا في جنة الخلد ومستقر النعيم !!

فاجابني مبتسما:

ماذا تقصد ياصاحب الافكار المهلكة !!

فقلت له:

قل لي بربك من اين اتيت بالبدلة الزرقاء التي سافرت بها لجلب خطيبتك قبل شهرين، ومن الذي اعطاك قنينة العطر الفرنسي التي قضيت عليها خلال اسبوع واحد؟؟

اجاب:

لقد استعرتهما منك ياسيدي، وما من ذلك من مكروه؟!

اطلقت حينها ضحكة عالية وضربته على كتفه قائلا:

لقد اشتريت تلك البدلة من " كراج الاحد " القريب من بيتنا يا ايها الرجل العصري !!

واردفت اقول:

اسالك بالله اما سالتك المسكينة التي قابلتها بتلك البدلة عن مصيرها المجهول؟ أم انها استعارت بدورها فستان الخطوبة من صديقة لها حالمة كحال صديقك البائس الفقير !!

فانطلق صاحبي معي ضاحكا حتى استلقى على قفاه، ثم قال:

لا اخفي عليك ان زوجتي مولعة بالسلع الجديدة، ولا تطيق ان ترى اي سلعة مستعملة داخل البيت، ولكن اخاك لايختار من السلع المستعملة الا التي تبدو في غاية الجودة، بحيث انها تتصور ان كل ما اتي به الى البيت انما أأتي به من الشركة المنتجة مباشرة، ويا ويلتي لو اكتشفت ذات يوم بان اغلب سلع المنزل وحتى لوازم الطبخ قد اشتريت من كراج محلتكم !!

فقلت له: اذن يجدر بك ان لا تكن مثاليا معي وتكيل الي الانتقادات وكأنني قد ارتكبت مالم لم يرتكبه احد من عشرات اصدقائك الذين تعرفهم وتدري بمشترياتهم حق الدراية !!

وبعدها قلت له: ثم انه ليس من العيب على الانسان .. وخصوصا من امثالنا انا وانت الذين نعيش على مرتبات الضمان الاجتماعي  البسيطة ان نملأ بيوتنا بالسلع المستعملة، ولكن العيب هو ان نتبجح امام الاخرين باننا من ذوي الراحة والثراء في هذا البلد الكريم !

فقال لي بصوت ممزوج بشئ من الجدية: ماذا تقصد؟

قلت: لا اقصد حتما، اذ لا يجوز استثناء هذه القاعدة في موارد الزواج طبعا !

فعاد يضحك واحسست باني استطيع ان اصل الى مقصدي معه كما هي عادتي ان افعل ذلك حيث اسدد ضربتي القاضية من خلال المداعبة والمزاح .. فقلت له:

اني اقصد اولئك الذين يلتقطون الصور الجميلة في الحدائق الاسترالية الغناء، وامام السيارات الفارهة، وقرب الورود الجميلة لكي يرسلوها الى خارج البلاد ويوهموا الاخرين بانهم في نعيم لا مثيل له، فيعرضوا نصف الحقيقة ويكتموا نصفها الاخر .

فقال صاحبي: اوه .. رجعنا الى تعريضاتك وكناياتك مرة اخرى .

وهنا اخذت نبرة صوتي تميل الى الجد وبدأت مواعظي كالعادة فقلت له:

ياصاحبي اننا يجب ان نواجه الحياة، ويجب ان نواجه الحقيقة، وكل ما نريد اخفاءه الان فلابد له وقت يظهر فيه، لقد شغلتنا الحياة الدنيا عن الاخرة، وبدانا ننظر الى القيم بمنظار اخر، حيث نوحي للاخرين الذين يعيشون بعيدا عنا باننا في منتهى السعادة، بينما نحن نرى البؤس الذي يعيشه الكثيرون، فهذا الذي يلهث ليلا ونهارا ليحصل على طعام زائل، وذاك الذي يذل نفسه في المطاعم والاسواق ليرتزق القليل من المال، واخر قد غرق في الديون المتراكمة لانه اقدم على مشروع زواج، وناهيك عن الشبهات التي تختلط مع الكثير من المرتبات !!

فقال صاحبي: يا أخي ماهذه النصائح ! حقا انك لا تحسن الكلام ابدا، وان كلامك هذا لابد ان يخنق قبل خروجه من فيك .

فقلت: حقا انه سيخنق بين دفاتري العتيقة، لانه سوف لن يعدو ان يكون الا مذكرات اكتبها عن رحلتي المريرة هذه، وسوف لن تطيب نفسي الا اذا ماعشت وسط من احب، وسوف لن ينعم قلبي بالبشر الا اذا ماشممت ريح الوطن وتنفست الحرية في اجوائه النقية، ولامست ارضه الطيبة .

قام صاحبي واقفا واتجه نحو الباب وهو يقول:

ها .. قد اتعبتنا بمواعظك هذا اليوم .. لا تنسى ان اليوم هو الاحد ولابد لنا من زيارة الكراج القريب الى بيتكم لعلنا نجد مروحة بنفس القيمة التي اشتريت بها مروحتك !!

فقلت له: ولكن لا تنسى ان تشتري كيسا جديدا تلفها فيه لئلا ينكشف امرك امام زوجتك المسكينة .

قال ضاحكا: بالتأكيد ..

وذهبنا لكي اعود في الظهيرة الى البيت واغفو على هواء مروحتي المنعش واصوات قرقرتها الحالمة ....

 

سلام البهية السماوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم