صحيفة المثقف

في الصراع من أجل البقاء.. تحولات الأزمنة في مسرحية: تراجيديا بابلية للكاتب العراقي عبد الرحمن جعفر الكناني

eljya ayshتكاد القصيدة تقف على عتبة خشبة مسرح، تتحرك دائرته بنص حواري حركي متصاعد نحو الذروة،  في كتابات شعرية صاغها الأديب العراقي عبد الرحمن جعفر الكناني،  تبرز وقائع المشهد الراهن، بكل تفاصيله، مستندا إلى التاريخ بما ينطوي عليه من رمزية، ترتقي إلى مستوى الدلائل في الكشف عن دوافع ما يجري في الزمن الحاضر، هكذا يقرن الكاتب العراقي عبد الرحمن جعفر الكناني الأسطورة والواقع ليحرك بها  مشاعر القارئ العربي ويستفز العقول للتدبر لعمل شيئ ما في هذا الزمن اللعين الذي نعيشه 

"تراجيديا بابلية" هي قصيدة شعرية لبست ثوبا مسرحيا ، كتبها الإعلامي والكاتب عبد الرحمن جعفر الكناني، وعاد بها  إلى زمن عصور قديمة...، زمن تأسّس فيه المشهد القائم على حركة صراع عنيف، بهدف انتخاب الأحق بالبقاء، في قمة هرم، يتسلقه الطامحون لبلوغ عرش التفرد بوجود مرموق..، حيث يرسم الكاتب عبد الرحمن جعفر الكناني لوحة لزمن يقف على أسوار بابل مثقلا بالأحزان والجراح، يراه كما لا يراه أحد، وعلى بعد أمتار ..

أراه كما لا يراه أحد

ينتظر الرحيل خلسة من حصار عيني صبية

فرضت طوقا حول المكان

غادرت مخدعها المرتعش في اهتزازات ليلة قلقة

تنر النفس روحا تطارد آثار الفجيعة

كتبت قصيدة " تراجيديا بابلية " في زمن معاصر، لا يرى انقطاعا فاصلا بين زمني الماضي والحاضر، فانتقالات الزمن في نظر "الكناني" هي امتداد لوجود أزلي منذ بدء الخليقة، فقد تتشابه مضامين الحدث التاريخي، مع الحدث الراهن، لكنها تختلف في الشكل والزمان والأدوات، أما الشخوص فهم متوارثون، وارثون لتركة الأزمنة المتقادمة، ويلتقون في قاسم مشترك، هو الصراع من أجل البقاء، نقرأ له هذه الكلمات ، وترحل بنا إلى الزمن الماضي، إذ يقول:

صرخة عذراء افتض جلجامش بكارتها

تهز جدران بابل الصماء

فتتساقط حجرا فوق حجر

و يرى صاحب التراجيديا أن النص المسرحي لا يتشبث بالتاريخ متغنيا، فالتاريخ له مساوئه، مثلما له مزاياه، كما الأبطال حين ينسجون حضورهم المتوارث، أو الأشرار الذين يذكرنا وجودهم الفعلي بقيمة استرجاع الخير في حياة بشرية، تنشد السلام، هكذا يضيف الكناني الذي ينتقل مع الحدث التاريخي في تقنيات النص إلى حدث محسوس، يكشف فيه عن دواعي اندلاع حرائق تلتهم الحاضر، بما تبقى فيه من قيم إنسانية، أضحت فيه أنباء الموت حدثا عابرا، لا يثير مشاعر أحد، في ظل مغريات وأوهام، عصر جديد، يعبر عنه بإيقاع شعري :

"أودعني الطاغوت في تابوت

 وتكفل حفار القبور مطالبا بكفني

 أحالني إلى مومياء منفي في عمق الأزل

أوهمني بمعجزة الارتقاء في دنيا السماوات السبع

فجعل أحلامي بلا ذاكرة"

و التاريخ عنده يبدو حاضرا الآن، باستحضار روح من شكلوا الحدث فيه.

وهذي هي عشتار آلهة الحب والخير والجمال، تصرخ على أبواب المدينة المعاصرة من هول الفاجعة:

في مساحات القلب وطن

ترقص فيه عشتار على إيقاع حزين

تشق الثوب

تعري الصدر

تندب الخدين

وأشلاء الأحفاد في قاع الجنائن المعلقة

وإزاء هول الكارثة ، الممتدة في كون واسع، يبدو أن الحاضر بلا إله يخشاه البشر في سريرتهم، ففي زمن سقوط القيم، لم يعد الكائن الحي يشعر بوجود قوى غيبية، تترصد أفعاله ليكافأ عليها أو يعاقب :

لقد شاء الشيطان أن يعتلي العرش البابلي

ويمسك بيده الصولجان ,,

ويغتصب عشتار في ألف ليلة وليلة

أمام أنظار الإنس والجان.

فرؤيا الأديب عبد الرحمن جعفر الكناني تغير قوانين المطلق في زمن مقلوب، مستندا إلى رمز إلهي أسطوري، هو "أنليل" إله الماء في الأساطير البابلية القديمة :

يقرر الإله " أنليل " الإرتقاء إلى مصاف البشر

يذرف دمعا ... يرتعد خوفا

فيعد البابليون العدة .. لإختيار إله جديد

شيطان في هيئة بشر

وتتوالى تحولات الأزمنة في نص "تراجيديا بابلية" التي تتخطى الأشكال التقليدية، وتتحرك هذه الأزمنة فوق خشبة مسرح، فكما تتغير الدهور، تتطور قواعد جماليات الفن، بتجليات رؤاه، إزاء الواقع المعاصر .

نبي منفي:  نبي الطوفان يضطجع على ظهره عند ضفاف نهر الموت منفيا.

إله غاضب: غضب الإله فشد الرحال إلى سفوح عزلة، يبعث كتابا مندثرا.

وملكة تفتح قصرها المهجور ملجأ لبابلي يرمم قلبا منكسرا.  

لكن العائد من أزمنة بعيدة، يضع أوراق منفاه في رفوف ذاكرة عتيقة:

ها أنا أقف شاخصا خارج جدران العزلة

مختتما رحلة العودة إلى أول المدن

الناطقة بلسان قافية اختصرت "تراجيديا الكون"

في لحن ناي حزين

راغبا في عناق العودة إلى الذات

مرددا قصائد عشتار آيات لمدينة حب أبدية

 هي طبعا تشبه القصائد التي كتبها  جعفر الكناني،  والتي دمعها في ديون شعر بعنوان : بغداد تلعن زرادشت" أهداها إلى الجزائر: الأرض والإنسان والثورة، فكانت رؤية تراجيدية لوقائع تتحرك في المشهد العراقي الراهن، تستمد تفاصيلها الرمزية من الملاحم البابلية المزدحمة بأحداثها وشخوصها الذين أسسوا أولى المفردات في لغة حضارية دونت بها البشرية حضورها القائم على صراع يشتد عنفا كلما بلغت البدايات نهاياتها.

يقول النقاد أن أسلوب عبد الرحمن جعفر الكناني يختلف كثيرا عن أساليب بعض الكتاب الذين حين يشتد الكرب وتُستباح الديار ويقتل الأبرياء لا يجدون من حل سوى الاستنجاد بالماضي، هو الاستنجاد بالأمجاد الفائتة، وكأن أبطال التاريخ سيهبون هبة رجل واحد من قبورهم لنجدة أبنائهم في حضارة البؤس، ولعل ارتباط الكاتب عبد الرحمن جعفر الكناني بالكتابة التراجيدية تعود إلى الظروف القاسية التي عاشها، حين تعرض إلى التهديد بالاغتيال الذي طال أخاه، بسبب كتاباته المناهضة لسياسة الاحتلال الأميركي والخطط المعتمدة لفرض مجموعات غريبة عن المجتمع العراقي في السلطة، اضطر إلى اللجوء إلى الجزائر، وهو حاليا يقيم في الجزائر، لكن المضايقات ما تزال تلاحقه، من قبل السفارة العراقية بالجزائر .

 

قراءة علجية عيش

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم