صحيفة المثقف

الظمأُ الأنطلوجيُّ والدعوة إلى أنسنة الدين

1046 rifaei‏أعتقدُ بأنَّ جدلَ السؤال والجواب باعثٌ حقيقي ٌّ لأي فعل ٍ فلسفيٍّ، فقد تتصور بأنَ للسؤال الوجودَ الأولَ ثم يأتي الجوابُ، لكنَّ المتأمل لحقيقية الجواب نفسه يجدَ أنّه ــ هو الآخر ــ محفزاً صالحاً لتوليد الأسئلة، وهكذا يستمر الجدل، وتتولد الافكار.

وهنا لابد َ أنْ نفرق بين سؤال مُنتجٍ، وآخر عقيم لا فائدة من ورائه. السؤال المنتج سؤالٌ حقيقيٌ يولّدُ اسئلة ً وأجوبة هرميَّة. بمعنى آخر أنهَ يبدأ عاماً حتى ينتهي بالتفاصيل، أي حتى يندك بالتفاصيل، أقصد بالحياة والانسان والمجتمع.

وما أحوج مجتمعاتنا اليوم إلى مثل تلك الأسئلةِ المُنتجة والمولِّدة، وما أمس الحاجةُ إلى فلسفة مثمرة تعانق الانسان، الإنسان العربي المنهك من ورم التنظيرات، وتضخم المصطلحات.

يحاول عبد الجبار الرفاعي مثابراً أن يحتكم إلى الانسان في مشروعه، لذلك نجده في أكثر من كتابٍ له يصرُّ بعناد على ضرورة تغيير سلم البناء الفلسفي، بغية إدارة الدفة نحو قضايا الإنسان، إلّا أنَّه قد اختار منطقة الدين.

واختياره هذا ربَما لا فرادةَ فيه، فأغلب المثقفين المتنورين قد استشعروا ضرورة إعادة قراءة الدين والتراث أمثال: حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وجورج طرابيشي، وحسام الدين الآلوسي، وأبو يعرب المرزوقي، وأنورعبد الملك، وزكي نجيب محمود، وصادق جلال العظم، وبرهان غليون، ورضوان السيد، وطيب تيزيني، وطه عبد الرحمن، وعبد الله العروي، وعبد الرحمن بدوي، وهشام شرابي، ومطاع صفدي، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد باقر الصدر، وعلي حرب، ومالك بن نبي، وفهمي جدعان، ومحمد عزيز الحبابي.. وغيرهم.

لكنَ الرفاعي أختطَّ لنفسه طريقاً في المعالجة، فحين نادى البعضُ بضرورة التخلي عن التراث، ونادى آخرون بالتمسك الحرفي بالتراث، ونادى طرفُ ثالث بالمزاوجة بين الطرفين، يحاول الرفاعي أنْ يجعل من التراث ــ والدين حصراً ــ منطلقاً لمشروعٍ نهضويٍّ، يضعُ الانسانَ في قمةِ اهتمامه، دون أنْ يغفل المسلًمات القارة التي لا يمكن هزهزتها، وفي الوقت ذاته استشعر بأنَّه منشغلٌ في الإنسان، وهو في زمن الميديا - والكلُ يعلم ما تعنيه الميديا -: تقارب المسافات وانفتاح العوالم على بعضها، وانعدام الحدود، ووفرة المعلومة.

أمام كلِّ هذا لابدَّ لمثقف مثل الرفاعي أنْ ينتبه إلى أهمية (السؤال المساوق)، وأقصد بهذا المصطلح المجترح ذلك السؤال الذي يضع في الحسبان كلَّ ما تقدم.

أكاد أجزم بأنَّ السؤال المحوري في كلِّ ما كتب الرفاعي، وخاصة في كتابه الظمأ الأنطلوجي، هو : كيف نجعلُ الدين انسانيا؟ كيف نخلِّصه من شوائب الخرافة، وتطفل الساسة والمنافقين؟ كيف نجعل من الدين دينا عقلانيا ديمقراطيا يؤمن بالحرية والمساواة والعدالة بالممارسة، فقد شوِّهت هذه المفاهيم، أو بالأحرى شوِّه الدين حينما أُريد له أنْ يكون أقنعة مزيفة.

إنَّ الانشغال بالدين أمرٌ أهمَّ الكثيرين وشغلهم، لكنْ ما الداعي لكلِّ ذلك لم لا يتركُ الإنسان وشأنه يمارس دينه كيف شاء؟

هذا التساؤل لا يحمل أدنى قيمةٍ، إذا عرفنا بأنَّ الأمرَ ليس بهذه السهولة، فلم تعدْ الممارسة الدينيَّة بريئة تماما، بعد أنْ لوّثتها الآيديولوجية.

يفترض الرفاعي انَّ عالمنا اليوم أصبح فقيرا ظمئا ً؛ يعاني فقره الوجودي، سيّما حين غاب عنه دين الإنسانية، أو غابت السمة الروحية للدين، فالحلُّ إذا ممكن أنْ يستنتج من فرضية الكتاب، إذ أنَّ هناك فقراً انطولوجيا، يتمثلُ في غياب الإنتشاء بالوجود نقيا. علاج ذلك الفقر بالدين، فضلاً عن المعرفة وشراهة العلم والثقافة والفن، لكنَّ الدين يظلُّ هو العلاج الأساس.

لكن أيّ دين الذي يتبنى دور العلاج: إنّهُ الدين الذي يرتقي بالإنسان إلى سلم الكمال والتوق لاكتشاف معنى الوجود للوصول إلى (الأنا الخاصة) التي تسشعر الحرية وحقيقية الوجود.

ولابدَّ أن نسأل انفسنا حين نفرغ من قراءة كتاب الظمأ الأنطولوجي: هل أنَّ الكتاب يمثل دعوة إلى تصوف جديد معتدل، أم أنَّهُ دعوةٌ واقعيةٌ جديدةٌ، وإلّا ماذا أراد الرفاعي بمصطلحي: معنى المعنى، والأنا الخاصة؟

 

د. علي حسين يوسف - أكاديمي متخصص في فلسفة النقد الأدبي.

 من مؤسسي الملتقى الفلسفي بكربلاء.

...................

 ورقة مقدمة في الأمسية التي أقامها الملتقى الفلسفي ونقابة المعلمين للدكتور عبد الجبار الرفاعي بكربلاء.   

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم