صحيفة المثقف

لعبة خطرة

qusay askarعلى الرغم من وجود أسماء أخرى في الصف لا تثير التساؤل، فإنّ المعلمين أطلقوا عليه صفّ القادة ليس من باب السخرية بل على سبيل المزاح فحسب!

كان هناك عيسى موسى، وحسين علي، وآخرون غير أنّهم يشكلون أقلية فيما إذا ما قورنت أسماؤهم بنا، فمن حسن الطالع أننا ولدنا بعد يوم الرابع عشر من تموز، فكانت اسماؤنا ذات هيبة، فينا عبد الكريم قاسم، وعبد السلام عارف، وفاضل عباس، ووصفي طاهر، وماجد أمين، وطاهر يحيى، واسماعيل عارف...كل ما نعرفه أن الحاج قاسم آل عبود صاحب مكتب تصدير الأخشاب سمى ابنه آخر العنقود باسم عبد الكريم والعم البنَاء المشهور طاهر العطبي تيمن باسم وصفي أما صاحب معامل الآجر الشيخ عارف الحامد فكان عليه أن يختار اسما لائقا لابنه مستوحى من أحد اسماء قادة تموز !

ويبدو أن جميع أهل شط العرب انساقوا في هذا السلوك خلال عام عام الثورة!

هكذا حملنا أسماء لم تكن لتعنينا بقدر ماكانت تثير انتباه الآخرين لكن تلك الأسماء لم تعطنا أيّ امتياز ماعدا بعض التعليقات النادرة من المعلمين بخاصة أستاذ العلوم الذي عُرِفَ بطيبة قلب تدفعه إلى أن يغض النظر دائما عن مشاكسات عيسى موسى قائلا له : أنت نبي وأبوك نبي فكيف أعاقبك أما إذا لاحظ أن الإهمال والكسل استشريا في جيمع التلاميذ فإنه في هذه الحالة يخاطبنا والدهشة ترتسم على ملامحه بعبارته المعهودة: قادة وفي الوقت نفسه أغبياء!

والحق كنا كأيّ من تلاميذ الصفوف الأخرى نتشاجر ونتعارك ونتكتل ونتصالح وقد نلعب بعض الأحيان لعبة خطرة تعود نتائجها السلبية علينا لنواجه عقوبة من ذوينا أو معلمي المدرسة ثمّ نعود وننسى كلّ شيء، وقبل نجاحنا من الصفّ السادس الابتدائيّ والتحاقنا في مدارس ثانوية شتّى بعيدة عن قريتنا حدث أمر كاد يغيّر مجرى حياتنا باتجاه آخر.

تلك السنة ضمّ صفنا – نحن القادة - التلميذ فيصل غازي الأكبر منّا سنا . كان أبوه الحاج غازي عبد اللطيف الذي يملك شاحنة نقل كبيرة قد قدم من محلة العشار قبل عام ليسكن شط العرب، ويبدوأنّ فيصلا وُلِد في نهاية العهد الملكي قبل ثورة تموز بأشهر، ودخل قبلنا المدرسة بعام، لكنّه أخفق في العام الماضي فالتحقنا به.

لاندري كيف اتفقنا على تلك اللعبة أو كيف وافق هو على اقتراحنا عن طيب خاطر...بالتأكيد كنّا نجهل أيّ دافع سوى أننا نؤدي دورا أقرب إلى مشهد ما رأيناه خلال زياراتنا المتقطعة في العطل إلى سينمات العشار .ربّما ظنّ فيصل غازي أنّه يستطيع أن يمسك بعمود المروحة ليخلّص نفسه وفي ظنه أن وجود الرَحْلَة تحت قدميه يمنحه مجالا واسعا للحركة، والتخلص من الحبل.المهمّ أن نلقي القبض عليه بعد مطاردة اشتركنا فيها جميعا.عيسى موسى وحسين علي أيضا.أخرجنا مناديلنا، وباشرنا نعقد أطرافها.أصبح لدينا حبل طويل...ثمّ طاردناه....

وفق تلك الصورة حدث الأمر بكل عفوية ومن دون أي خبث ...

طاردناه وهو يضحك.عيسى موسى صاح امسكوه.حسين علي هتف لاتدعوه يهرب.عند باب الصفّ وقف عبد الكريم قاسم، وعبد السلام عارف ووصفي ليمنعوه من الهرب.امسكوه ...عشر دقائق أمامنا فقط.كلّ شيء يجب أن ينتهي قبل أن يعلن الجرس نهاية الاستراحة، وقدوم المعلّم.

كنا نطارده ونحن نضحك ... وهو يزوغ في الممرين الفاصلين بين الرحلات ....

دقائق معدودة أصبح بين أيدينا.رحنا نعمل مثل خليّة نحل نشطة...نعمل ونضحك وهو يضحك أيضا.مجرد لعب بريء.رفعناه على الرحلة، ووضعنا الحبل في عنقه.بقي الآخرون في الممر ووقف عبد الكريم عند المروحة يلف الحبل على العمود.

كش ملك! مات!

مات الملك..

عندئذ انتهت مهمتنا، وجاء دور فيصل!

كان يقول قبل إلقاء القبض عليه وهو يشير بيديه إلى السقف إنه يقدر على أن يشد جسده إلى الإعلى كما يتسلق جذع نخلة..لِمَ يموت المشنوق في الفلم ؟ أليس الجلاد يزيح بركلة عنيفة من رجله الكرسي فيدع الضحية تتأرجح في الهواء..ربما أتنعنا جميعا بالفكرة لكنه في تلك اللحظة راح يدفع جسده برجليه فوق الرحلة، محاولا أن يمسك عمود المروحة السقفية بكلتا يديه ثمّ يبقى قابضا على قاعدتها بيده اليسرى ويفك باليد الأخرى عقدة المنديل الطويل التي لم تكن محكمة الشدّ في الكلاّب، لكنّه عجز تماما خانته يداه ورجلاه. ولم يقدر على شد جسده نحو السقف..

أما نحن فقد وقفنا حائرين أمام حشرجته ....

وذهلنا تماما لمنظر عينيه اللتين بدأتا تهملان...

رأيناه يكاد يدلع لسانه، وهو يهمّ بالصراخ، فيعجز.لحظات صمت مرّت أعقبها هياج وفوضى.اندفعنا يصطدم بعضنا بعضا إلى حيث لاندري، ولم يوقف الكارثة إلاّ مجيء الآذن والمدير وبعض المعلمين الذين هرعوا للصراخ والزعيق....

تلك اللحظة لم نكن نفكّر بالعقوبة التي سوف تنزل علينا من المدير والمعلمين وربما من أهلنا الذين سوف يصل إليهم الخبر بالتأكيد بقدر ماكنا نفكّر بنجاة زميلنا فيصل من الموت!!

 

قصة قصيرة

قُصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم