صحيفة المثقف

جولة في لغة العيون

faroq mawasiسبحان الله! .. كم تفصح العيون عن علاقتها أو موقفها من أمر، نراها وهي ترانا، تروي وتحكي، فدعني أنظر إلى عينيك، لأقول لك شيئًا عنك.

 العين تخبر عن صدق الشخص سذاجته، أو ذكائه، مكره، خداعه أو حميميته، من منا لم يستعمل عبارة "حط عينك بعيني" ليتأكد من صدق النوايا؟

فالعين ترجمان القلب.

لن أتحدث عن العيون وجمالها، فما أكثر ما رواه الشعراء غزلاً وهيامًا، ولكني هنا أنظر إلى العينين لأستكشف ما تخفيان أو ما تخبئان أو تفصحان، وحتى إذا عشق العاشق، فهو يُعرَف، فالأخطل الصغير يقول:

والصبُّ تفضحه عيونه ***  وتنمُّ عن وجدٍ شُئونه

...

ما زلت أذكر نصًا قرأته في كتاب دراسي- لميّ زيادة، تقول فيه:

"العيون التي تشعر،

والعيون التي تفكر،

والعيون التي تتمتع،

والعيون التي تترنم،

وتلك التي عسكرت فيها الأحقاد والحفائظ،

وتلك التي غزرت في شعابها الأسرار،

جميع العيون وجميع أسرار العيون،

تلك التي يظل فيها الوحي طُلّعة خبأة،

وتلك التي تكاثفت عليها أغشية الخمول،

وتلك التي يتسع سوادها أمام من تحب وينكمش لدى من تكره،

وتلك التي لا تفتأ سائلة: من أنت، وكلما أجبتها زادت استفهامًا،

وتلك التي تصرخ: بي احتياج إلى الألم، أليس بين الناس من يتقن تعذيبي؟

وتلك التي تقول: بي حاجة إلى الاستبداد، فأين ضحيتي؟

وتلك التي تبتسم وتتوسل،

وتلك التي تظل مستطلعة خفايات وهي تقول: ألا تعرفني؟

وتلك التي يتعاقب في مياهها كل استخبار، وكل انجذاب وكل نفي وكل إثبات.

العيون جميع العيون- ألا تدهشك العيون؟

..

وتلك التي غزرت في شعابها الأسرار"

"في عمق أعماقها ترى كل مشهد، وكل وجه وكل شيء".

(مي زيادة- ظلمات وأشعة، وقد نشر النص أولاً في عدد الهلال- ديسمبر 1920).

..

اقتبست لكم جزءًا من نصها (أسرار العيون)، وهو نص رائع فيه هذا العرض للعيون بكل ما يمر عليها من عواطف وحركة، ولون ورؤى.

...

في الشعر يقول الإمام علي –كرّم الله وجهه-:

والعين تعلم في عينَيْ محدِّثها *** إن كان من حزبها أو من أعاديها

عيناك دلّتا عينيَّ منك على *** أشياءَ لولاهما ما كنت تُبديها

(الديوان، ص 172)، بل وجدت له معنى قريبًا هو:

وفي العين غنًى للعين *** أن تنطقَ أفواه

(ص 168)

وهذا المعنى ورد في الشعر الجاهلي، فزهير بن أبي سُلمى يقول لنا:

فإن تكُ في صديق أو عدو *** تُخبِّرْك العيون عن القلوبِ

والمثل العربي القديم يوافق ذلك:

"رب لحظ أنمّ من لفظ".

ثم نقرأ للحَيْص بَيْص الشاعر العباسي:

العين تبدي الذي في قلب صاحبها *** من الشناءة أو حب الذي كانا

إن البغيضَ له عين تكشّفه *** لا تستطيع لما في القلب كتمانا

فالعين تنطق والأفواه صامتة *** حتى ترى من ضمير القلب تِبيانا

وهذا كقول المتنبي:

يُخْفِي العَدَاوَةَ وَهيَ غَيْر خَفِيَّةٍ *** نَظَرُ العَدُو بِمَا أَسَرَّ يَبُوحُ

..

حقًا فالبغض والحب يظهران في مرآة العينين، وخاصة الكراهية، والغضب، وأنتم تعرفون الكناية "عينه تقدح شرر".

لا بد إلا أن تنكشف البغضاء مهما حاول صاحبها أن يخادع، يقول الشاعر صَرَّ دُرّ:

إن العيون لتبدي في نواظرها *** ما في القلوب من البغضاء والإحنِ

..

فهكذا ينطق الطرف عن مترجَم الخاطر، وفي العينين لغة أية لغة، ولها قراؤها!

واسمحوا لي أن أذكر لكم  جزءًا من قصيدة لي (عينان) قلت فيها:

..

قال لها:

العينانِ حَنانْ

وغِناءٌ وَعبيرٌ وأمانْ

وعَصافيرُ الرَّغْبَةِ تَشْدو

شَدْوًا يَجْعلُ قلبي بُسْتانْ

والبستانُ على شَطٍّ يَجْعَلُ ريقَكِ شَهْدا

فمتى ألْقى العيْنَينِ أنا وَحدي

حَتَّى أُتْلُوَ آياتي في صَوْتٍ أندى؟

..

قالت:

آمَنْتُ بِأنَّ عَلى عَيْنَيْكَ وَميضًا، تاريخًا، ذِكْرى

وبِأَنَّ اللَّونَ المَحزونَ سماءٌ وَصَلاهْ

أرْحَلُ فيها أقرأُها سِرًّا جَهْرا

أَنْهَلُ فيها حَتَّى تصبح مِرْساتي نَهْرا

فَأَقولُ لِوَجْدٍ يهَبُ الحُبَّ فيوُجِدُني:

العينانِ جِنان

ونِداءٌ وغِناءٌ وحَياهْ

وَهزارُ الشَّوْقِ يُغَرِّدُ أُغْنِيَةً

تَرْجَمَها قَلْبي

أَحْفَظُها حَرْفًا حَرفا...إلخ

..

كم توفر العينان طاقة هائلة للتواصل والتعبير، خاصة فيما يتعلق بالأحاسيس والعواطف والمشاعر.

العيون  لغة، فيها ترجمة، حركاتها حافلة بالصور- تدل على المحبة وعلى الكره، على الغضب والرضا، على الجاذبية والقوة، على  المكر والدّهاء، والصفاء والرّخاء، واليقظة والحلم، الفتور والإصرار...إلخ

العيون كتاب نتصفحه، فاقرءوا عيون بعضكم بعضًا!

 

ب. فاروق مواسي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم