صحيفة المثقف

المختار والجدار وجذوع الأشجار..

MM80- هل تعرف عنوان مختار المنطقة من فضلك؟

فتح نصف عينه اليسرى وأشار إلى الأمام، ولم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة ترشد الرجل إلى وجهته .. شكره، وتابع طريقه إلى الأمام حسب الأيمائة، وكان يدور في ذهنه أنه على مقربة من بيت المختار.

- سأل صبيًا كان في ركن المنعطف يلعب على الرصيف .. أين بيت المختار؟

- أشر الصبي إلى ذلك الجالس على الكرسي الغارق في قيلولة المساء، وقال أنه المختار .

عاد ثانية والحيرة تأكل رأسه، وسأله، يا عم هل أنت المختار؟

- نعم، بماذا أخدمك؟

- لقد سألتك قبل لحظات، ولم تقل لي أنك أنت المختار؟

- أأأه، تذكرت أنك سألت عن بيت المختار، أليس كذلك؟

- وما الفرق يا عم في هذا؟

- بيتي لم يعد بيتي .. وأنا هنا، لقد عدت بعد الفوضى فوجدت غرباء يسكنون بيتي، وحين طلبت منهم الرحيل، خيروني بين أن أبقى مختارا أو أن لا أحد يأتمن على حياتي وحياة عائلتي .. أخترت المختار.. هل فهمت يابني؟

- نعم فهمت .. ولكن أنت المختار الذي يؤتمن ورأيك يؤخذ على محمل الجد لدى الجهات ذات الشأن؟

- بماذا أخدمك يابني؟

أستفزته الأجابة وكأن الأمر ينطوي على شيء لا يريد أن يبوح به .. ثم أنه على ما يبدو بات مستسلما لقدره في أن يعيش وعائلته في دكان يحمل يافطة مختار المحلة .!!

- أريد أن أستأجر دارًا .. وقالوا لي إذهب أولاً إلى المختار حول الموافقة.

- ومن أين جئتم وعددكم؟

- نحن من المحافظة المعينة، عائلة من سبعة وثلاثة أطفال؟

- هنا، وراء هذا السور الذي تشاهدونه، لا يقبلونكم .. أنصحك بني أن تفتش عن دار في مناطق أخرى .

- لماذا يا عم؟

- هذا هو الحال .. الجدران هي التي تقول، أنا هنا وأنت هناك ولا أحد يستطيع أن يخالف الجدران !!

- ولكن، ليست لدي مشكلة في الأيجار، واستطيع أن أدفع إيجار سنة مقدمًا.

- يا بني، المشكلة ليست في النقود إنما في الجدران.. هل فهمت؟

شكره على نصيحته وعاد أدراجه، فيما بات المساء يزحف بضيائه الباهت على أسطح المنازل وأشجار الحي، التي هجرتها العصافير منذ سنين.. وحين انعطف بسيارته القديمة، التي لن تتوقف عن إطلاق دخانها الأبيض الخانق، نحو اليمين على أمل أن يختصر الطريق، فاجأه جذع نخلة ضخم ممد في عرض الشارع وبالقرب منه بضعة صخور وأكياس تراب وكرسي قديم مكسور الأرجل ومسنود بالحجارة وبالقرب من السياج الذي يغطيه السخام برميل يشعل الحراس فيه النار .. عرف في الحال أن الطريق مغلق، فعاد أدراجه إلى الطريق الذي جاء منه، أوقفته مفرزة يتعذر معرفة كونها نظامية من الجيش أو الشرطة، لا أحد يعرف .

- هويتك .. من أين أنت؟ كيف دخلت ولم يرك أحد؟ أين تسكن؟ هل أنت من هذه المنطقة؟ ما هو لقبك؟ هويتك؟ دعني أراها، قد تكون مزورة .. تعال معي إلى الضابط .!!

سأله الضابط .. ما مشكلتك؟

- ليست لدي مشكلة.

- أين هي أوراقك؟ هوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية وبطاقة السكن وبطاقتك الشخصية وأي مبرزات أخرى ...

- جئت لأستأجر بيتا لعائلتي ..

- لماذا تستأجر بيتا .. من أين جئتم؟

- من المحافظة الفلانية ..

- لماذا تركتموها؟

- لم يعد لنا فيها بيتًا؟

- لماذا؟

- كانت هنالك عمليات .. وعندما عدنا، منعونا من دخول البيت .

- من هم؟

- أناس لا أعرفهم أستولوا عليه، وحين راجعنا دائرة الطابو، وجدنا أنهم زوروا ملكية البيت واستحوذوا عليه .

- هذه قصة ليست من إختصاصنا .. هل معك المبرزات المطلوبة؟

قدم له هوية الأحوال المدنية .

- هذا لا يكفي .. عليك تقديم كل الأوراق الثبوتية.

- ثبوتية على ماذا أيها الضابط؟

- تثبت شخصيتك .

- ألا تكفي الهوية هذه؟

نادى على الحرس .. إحتجزه حتى يأتي بأوراقه كلها !!

- وكيف اجلب لكم مبرزاتي إذا أنتم تحتجزوني هنا؟

- هذه هي مشكلتك .. كان عليك أن تحمل كل أوراقك حتى جواز سفرك!!

أخذه الحارس إلى غرفة في داخل البيت، الذي تتخذ منه المفرزة مقرًا لها في ذلك الزقاق المقفر إلا من جذوع الأشجار المقطوعة التي يغلقون بها الطرق الداخلية ويشعلون النيران في براميل التدفئة، أما خارج هذه الأزقة هنالك جدار سمنتي عال يفصل بين قطاع وآخر..

الغرفة عارية تماما .. جلس على الأرض وبرودة الهواء لآذعة تتسلل من فتحة الباب نصف المغلقة فيما كانت أرضية الغرفة الرخامية قطعة من جليد .

أطرق رأسه إلى الأرض وأخذ يرسم بأصبعه على رخام الأرض المشبع بالغبار خطوطًا عبثية تعبر عن تفكيره المشوش .. ويبدو أن هذا البيت المقر هو الآخر مستولى عليه ولا أحد يعرف مصير أصحابه .. ثم شعر بالغصة ومرارة التفكير في كيفية نكران شخصية أنسان كائن إلا ببضع وريقات أو مجموعة أوراق تمثل كائنًا بشريًا خلقه الله بقدر..

تحدث إلى نفسه : أنا مجموعة من الأوراق، بدون هذه الأوراق أختفي من الوجود، ووجودي هو وجود الأوراق الثبوتية، "أنا أوراق إذن أنا موجود"، والمحصلة أن لا وجود لكائن بشري إلا من خلال مجموعة سخيفة من الأوراق .. ثم عددها بمرارة - هوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية وبطاقة السكن وأوراق الحصة التموينية والبطاقة الشخصية وبطاقة العمل أو الدراسة وجواز السفر، وربما سند ملكية البيت - .. ثم صرخ في أعماقه، الويل لك إذا كانت ناقصة ورقة واحدة.!!

 

د. جودت صالح العاني

24 / 05 / 2017

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم