صحيفة المثقف

الفضاء الدلالي للمكان في المجموعة الشعرية (مسلة المدن المهاجرة)

amjad alzaydiننطلق بقراءتنا للمجموعة الشعرية (مسلة المدن المهاجرة) للشاعر أحمد الشطري من عتبة العنوان، ونبحث في علاقاتها الدلالية التي تحيلنا الى سؤال، كيف للمدن ان تهاجر، وهي امكنة ثابته، لذلك فسنفترض لهذا السؤال جوابا ينسجم مع العلاقات الدلالية للمكان داخل نصوص المجموعة، والتي تستند برأيي على محاولة التفريق  بين مصطلحين متجاورين أخذا مساحة كبيرة من النقاش النقدي والبحثي وهما (المكان والفضاء)، لذلك فسنحاول هنا ان نبني افتراضاتنا على رؤية ترى ان ما نقصده بالمكان هو المكان الفعلي الجغرافي المحدد وما نقصده بالمصطلح الاخر (الفضاء) هو ما يصفه الدكتور ابراهيم جنداري بـ (المخلوق والمحور) اي فضاء اللغة والاشارة، او الفضاء الدلالي الذي تأخذه مفردة المكان، ولا اتكلم هنا عن المكان الواقعي والمكان النفسي كما ذهب الى ذلك بعض النقاد، وانما افرق بين المكان الفعلي الثابت، والفضاء الذي يحيل اليه، والذي يجعل منه متحركا او مهاجراً، كما يصفه الشاعر في عنوانه، مما يدفعنا الى ان نفترض ان احد ابيات النص الذي يحمل عنوان المجموعة؛ هو (بيت القصيد) الذي تستند اليه مقاربتي هذه إذ يقول الشاعر:

بعثرت اشواقي على المدن التي

هاجرتها فاشتاقت الارجـــــاءُ

حيث نلاحظ الارتباط بين الاشواق والمدن، باعتبار ان الاشواق هي حضور تلك المدن بصورتها الافتراضية اللامادية، من خلال الاستذكار، أما (المدن المهاجرة) فهي تجمع بين المدن التي هي مكان تاريخي ثابت وقار، والمهاجرة وهي فضاء الاشواق المتغيرة والخاضعة للبنية السوسيوثقافية، فالمدن لا يمكنها ان تهاجر او ترحل الا من خلال تصوراتنا وذكرياتنا عنها او هي اشواقنا، لذلك فهذه المسلة هي لتلك المدن او فضاءاتها، والتي تغادر توصيفها وتتحور لتصبح المرأة مثلا او الوطن او الذكريات، فكلها مدن او فضاءات للأشواق والذكريات والعواطف الانسانية، يقول الشاعر في نص (عطش) ص23:

كيف لي.. والحضور كان اشتهاءً

أن ارى الشوق يقتفي كل ناءِ

في نص (مسلة المدن المهاجرة) ص10، يحضر المكان في عدة ابيات ولكنه ليس حضورا للمكان الفعلي بقدر حضور فضاءه الدلالي:

ونثرت آمالي بصحراء الرجا..

فاعشوشبت تزهو بها الصحراءُ

فهذه الصحراء مرتبطة بالرجا، اي ليس هناك حضور فعلي لانا الشاعر في ذلك المكان، وانما هو استدعاء لفضاء الصحراء الدلالي واستثمارها بعلاقة مجازية، كذلك مكان اخر وهو الطريق في نص (مواسم الجفاف) ص18، حيث نرى استثمار الفضاء الدلالي للطريق وليس الحضور المادي له:

الغت الريح خطوتي فطريقي

ضل عني وقد جفاني الايابُ

وهذا يظهر في نصوص اخرى كثيرة حيث يوظف الفضاء الدلالي في مدى بعيد عن اصله المكاني، كلعبة دلالية وبلاغية، انحيازا للقيمة الجمالية التي سيعطيها هذا الفضاء لتلك العلاقة ان كانت مجازية او استعارية:

سفينك فوق الرمل يبحر طائشا

وكل احتمالات الوصول عواقرُ (عناد: ص29)

وربما حتى لو حضر المكان بكل صورته الواقعية، يمكن للنص ان يجنح به الى تغيير بنيته الدلالية من مكان مادي له مواصفات مادية محددة الى فضاء افتراضي يحاول الاستفادة من القيمة الدلالية له، كما في نص (الى خاتم الرؤى) ص46، حيث نرى الحضور الفعلي لعدة امكنة كالجب مثلا، لكنه ينفتح دلاليا من خلال الفضاء الذي يوفره له التناص مع قصة النبي (يوسف) عليه السلام، حيث يخرج من توصيفه الواقعي ليدخل فضاء التأويل، ويصبح فضاءً دلاليا، يستعير بنيته المكانية، ليسقطها على بنية دلالية اخرى، ربما لا تشاركه او تقاربه مكانيا، وانما هي علاقة مجازية تخرج به الى فضاء أخر:

الى الان لم تدرك...؟!

متى سوف تدركُ بانك وسط الجبِ؟

.. والجب مُهْلكُ

أو ربما ما يؤكد ما ذهبنا اليه هو البيت الذي يقول فيه الشاعر ومن نفس النص:

فيا يوسف المعنى

ويا خاتم الرؤى

شبعنا عباداتٍ

ولم يبقَ منسكُ

اما النصوص الاخرى التي ذكرت بها عدة امكنة فنص (فياغرا) ص57، حيث تظهر امكنة مثل (سهوله، جباله، وديانه)، ولكنه هنا ايضا لا يقصد المكان الحقيقي الفعلي الذي تمثله هذه الامكنة بل انه يقصد جسد المرأة:

سهوله، جباله، وديانه

سبحان من سواه حسناً مكتملْ

انهاره ساحرة الضفاف إن

لامسها الماء جرى وهو جذلْ

اما في نص (قبس من حروف مشتعلة) ص72، فنلاحظ ان الشاعر قد استخدم المكان الفعلي بحدوده الحقيقية ودلالته الواقعية، عندما يذكر (غدير خم) في قصيدته عن الامام علي (عليه السلام)، وهي اشارة الى تلك الواقعة التاريخية، اي استدعاء اوجب على الشاعر ان يستحضره بصورته الواقعية، وان لا يشعرنه، بالإحالة الى فضاءه الدلالي كما فعل في البيت الذي يليه، عندما استخدم مكانا افتراضياً، يصور في المخيال الديني بانه واقعي ذو حدود ثابته ومحددة، وهو (الصراط):

فوق الغدير صدىً يرتدْ من مَلَكٍ

لازال يملأ اذن الكون بالغزلِ

صوت يصيح صراط الله وجهُ علي

من حادَ عن دربهِ لله لم يصلِ

في نص (وطني) ص26، فبرغم من عنوانه هذا الذي يوحي بالمكان الا انه يخلو من اي اشارة صريحة للمكان، وانما يكتفي بالأشواق او افضية الوطن:

علمت أوردتي تذيبك في دمي

حتى رأيتك ساكنا ارجائي

توافقا ربما مع نص اخر وهو (تلويحات لعمار وتبارك) ص80 الذي يذكر فيه الوطن/ العراق صراحة، لكنه يخرجه من توصيفه المكاني الى انسنته، اي فتح فضاءه الدلالي وجعله يشير الى الوطن والهوية والتاريخ وربما الذكريات ..الخ:

وكان على مقلتيه العراقُ

جميلا يكركرُ حدَّ الصخبْ

وكانت على ثغره طفلة

لها من حروف ابيها لعبْ

وفي مكان أخر ايضاً من نفس النص:

فعانقه حدَّ أنَّ العراقَ

توسم من نزفه وأختضب

اما المكان الوحيد الذي ذكر الشاعر فيه المكان بصورته الفعلية الحقيقية فهو في نص (ما كتبه أحمد بن الحسين السقاء في سيرته الاخيرة) ص83، عندما استخدم الاسم القديم لمدينة الشطرة وهو (الولجة)، حيث نرى الحضور الفعلي للمكان بكل ابعاده الواقعية، وان ادخلها الشاعر- بصورة او بأخرى- في فضاء الشعرية، الا انها مع ذلك حافظت على استقلاليتها المكانية، وايضا في استخدامه للصحراء وعبقر.. الخ، وربما ينفرد هذا النص داخل المجموعة، بان استخدامه للمكان كان بصورته الفعلية، وان الفضاء الدلالي الحاكم له هو فضاء مكاني مستقل بدلالته:

لحظة

أندفق الماء

نبتت نخلةٌ

واستفاق الصباح

في فم صارخٍ

واستدار الصدى

كان (للولجة) أشياؤها

لم تكن هكذا نخلة بينها

قيل قد احصنت فرجها

قبل هذا المخاض

تختزن المجموعة الشعرية (مسلة المدن المهاجرة) للشاعر أحمد الشطري الكثير من الاشارات الجمالية التي ممكن للباحث والدارس الوقوف عندها، وما وقوفنا في هذه العجالة امام الفضاء الدلالي للمكان الا اشارة بسيطة لما تحمله نصوصها من ثراء.

 

أمجد نجم الزيدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم