صحيفة المثقف

فارس بني مـحمد

solayman omayratعرف زغدود وتأكد كل التأكيد أنه منذ اليوم سوف يحمل على عاتقه حملين ثقيلين، عبء المقاومة ضد الحملة الاستيطانية الفرنسية الشرسة، المتمثل في تكوين جيش من المجاهدين يقاتل عساكر الاحتلال، وعبء الزواج وتكوين أسرة سعيدة وناجحة، ربما لن تكون مستقرة وهادئة مثل حياة والديه وذلك بسبب مهمته العسكرية، قد يطول غيابه بسبب التدريب وتنقلاته للقتال، فقد يستشهد أو يعيش ليقاتل المحتلين ويكافح من أجل طردهم، إلى جانب العمل الفلاحي لكسب قوت يومه.

يؤرقه التفكير في مستقبل أسرته حين يستحضر أمنية الشهادة في سبيل الله لأن سقوطه في ساحة المعركة محتمل بنسبة كبيرة، لذا لا ريب أن أسرته ستشقى من بعده مهما كانت عناية والديه، وهو لا يرجو من الله سوى النصر أو الاستشهاد مع رفاق دربه وزملاء الكفاح المستميت والمقاومة المستمرة، لا ولن يحبط عزمه أحد مهما كانت مكانته.

كم الأمر صعب بالنسبة لزغدود، منذ أن رأى ابنة خاله لم يذق طعم النوم إلا بالقدر الذي يطرد به النعاس والإرهاق الشديد، جذبه جمال عائشة وأصبح يريدها زوجة له، يحلم بها في نومه ويفكر بها في يقظته، ومن جهة أخرى تراه يفكر في مجموعته القتالية التي بدأت ملامحها تظهر في الحديث اليومي مع أصحابه من دوار الصادة، يأتيه الطاهر وعثمان من حين لآخر، ويطلبان جديد المجموعة وبداية التدريب، فهو بين هذا وذاك، بل هو أيضا بين عبادة ودراسة ومساعدة الأب في كافة أعمال الحياة اليومية، فتراه يمسك البقرات الثلاث لتحلبها أخته الكبرى ثم يخرجهم لتسرحن في الغابة ويجلب الحطب ليقاد النار ويخرج في المساء لرعي الماعز مساعدا أخيه صالح، ويعمل في الحقل مع أبيه في الزرع والغرس وتنظيف البستان من الحشائش الضارة، كما يذهب كل مساء إلى المرسى ليلتقي بأصحابه وأهل الصادة الذين يأتون إليه قاطعين مسافة كبيرة.

بعد فترة وجيزة بدأ التدريب الفعلي على السلاح وركوب الخيل، كان سي مسعود الحوات مدربا لهم، فقد اختير من بين رجال بني محمد للتجربة التي يتمتع بها لكونه جندي قديم في الجيش الانكشاري العثماني ثم في البحرية العسكرية، يحمل من الإرادة والتجربة لا مثيل لهما في هذه الناحية.

تكوّن الفوج الأول من المجاهدين من شباب نشطين وشجعان، منهم زغدود وعبدالله وحسين من منادة وعثمان بن علي والطاهر بن صولة وصالح وجهيد من الصادة وأيضا ناصر من بني قشة، فاتخذوا للتدريب مكان عال تغطيه بعض الأشجار والغابة يطلق عليه أهل الصادة بالساحل، تحصلوا على ثلاثة أحصنة عربية وبعض السيوف.

بدأ التدريب في المكان نفسه بقيادة سي مسعود الذي اكتشف من توه شجاعة وبسالة زغدود بن قويدر، يمتلك بنية جسدية قوية تمنحه القدرة على مقاومة شرسة، إنه يحمل من الإيمان بالله وغيرته على الوطن ما يجعل النصر حليفه في كل موقعة، هذا الشاب الذي جمع بين العلم والشدة، وبين الصبر والعزم لا يتزعزعان عنه ولا يهزم من تحلى بهما. يحمل زغدود سيف عربي دمشقي، مستقيم ومقوس من الأمام، فقد ورثه عن أبيه عن جده، له غمد فضي، مزركش بنقش عربي مذهب، ومقبض قمة في الأناقة صنع من الفضة الحمراء في قسنطينة، وله نصل حاد صارم، صنع من حديد، تراه أبيض لامع من كثرة شحذه وتنظيفه، في كل مرة من التدريب يبرهن زغدود على شجاعة خارقة في ركوب الخيل والمبارزة، لهذا أراد سي مسعود تعيينه قائدا على الفوج المقاتل.

تحصل زغدود من أبيه على حصان عربي أصيل، جميل المنظر أسود اللون ناعم الشعر به لطخة بيضاء خلف صهوته وغرة أخرى على جبهته ويرسل ناصية ناعمة عليها، حجلت قدماه بلون أبيض، فلم يعد الأدهم أدهما، وله عنق ضخم وقوائم غليظة نوع ما، لكن منخريه ضيقين، يطرب فرسه على نغم الطبول والمزمار المغربي فيقدم استعراضا كبيرا عند الأعراس ويعرفه بذلك سكان بني محمد.

كانت الطريقة التي عينه بها المدرب استشارية وبيعة إسلامية حضرها الشيخ قاسم بن القشي ومخلوف بن مختار وبعض الأعيان، حينها تقدم الشيخ قاسم قائلا إلى سي مسعود الحوات:

-  يا سي مسعود، ألا ترى أنه من الضروري أن نعين قائدا للفوج، حتى لو كان ذلك أثناء التدريب فقط؟

-  إنك محق يا شيخ، لقد حان الأوان لنعين قائدا على الفوج يحمل المسؤولية، حتى إذا تفاجئنا بقدوم عساكر المحتل وأرادوا المساس بالقرية، أو اكتشفوا أمرنا يمكن أن نقود معركة حقيقية أو الفرار في الوقت المناسب بعيدا عن الخطر، حتى نتمكن عندها من الهيكلة والاستعداد الفعلي.

- هل تعينوا أحدنا قائدا على الفوج وفورا؟ يقول عثمان بن علي.

هنا، ينادي سي مسعود باقي أفراد الفوج لاجتماع طارئ يقوم عليه الشيخ قاسم، فتجمع كافة المتدربين الذين وصلوا إلى خمسة عشر مقاتلا، كلٌ أخذ مكانه على شكل دائري كونوا حلقة على الطريقة الإسلامية، ويبدأ سي مسعود خطابه الأول بقوله:

-  أبنائي الأفاضل، جنود الله في الجزائر، اليوم وقد وصلتم إلى مرحلة متقدمة من التدريب الميداني في التعامل مع الأسلحة ومقاومة الظروف الصعبة ومهارات ركوب الخيل، إلى جانب دراستكم على يد الشيخ قاسم ومخلوف بن مختار للخطط الحربية ومناهج القتال وخاصة دراسة سلسلة من المعارك الإسلامية الكبيرة التي جرت منذ هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم وباقي معارك الفتوحات وخصوصا فتح بلاد المغرب العربي.

إن حصولكم جميعا على أحصنة وسيوف مستعدة للاستعمال، أرى أن الأوان قد اقترب للتنظيم الجيد والمحكم والانتقال إلى مرحلة التدريب المتقدم على أسلحة أخرى كما يجب عليكم التنقل إلى أماكن أخرى من جبل الإيدوغ لاكتشاف طبيعة النواحي التي سوف تجري فيها المعارك في المستقبل.

إنه ومنذ اليوم يستطيع الفوج أن يقوم بعمليات عسكرية، من هجومات خاطفة وكمائن صغيرة ضد عساكر الاحتلال، مع اتخاذ الحذر وكافة تدابير الاحتياط وأخذ الحيطة، لأن العمليات ستجري بأماكن بعيدة عن مكان السكن والتدريب، وذلك حتى لا يصل إليكم العدو ويكشف موقعكم.

والآن، نعلن رسميا ميلاد فوج المجاهدين الذي سنعطيه اسمًا ونعين له قائدًا ونحدد مركزه الدائم ومقر التدريب وتنظيم مستقبله في التجنيد وتطوير المجموعة من حيث العدد والعتاد العسكري.

هنا يتكلم الطاهر بن صولة من سيدي عكاشة أو الساحل الشمالي لبني محمد، يقول:

-  أرى أن نسمي فوجنا هذا بالمكان الذي نحن عليه الآن، أي فوج الصادة، يرد عليه عثمان بن علي قائلا:

ولما لا نسميه فوج بني محمد حتى يشمل الجميع ويكون أوسع وأكبر.

يقبل سي مسعود هذه التسمية، ويعود الطاهر بن صولة إلى كلمته، ويقول:

-  إذا شئتم فإنني أقترح عليكم عثمان بن علي قائدا علينا، كونه أكبرنا وهو شجاع وله سبعة جنود من الصادة يدعمونه، وهم جميعا أقاربه ولا يرون مانع من أن يتولى عليهم، كما يمكن أن أصطفي زغدود بن قويدر بدوره أنسب لهذا المنصب وهذه المهمة الكبيرة لما يتسم به من شجاعة ومعرفة وهمة في القتال، ولا أرى أحد يعترض عليه، ما رأيك في اختيار أحدهما يا سي مسعود.

والله لا أرى مانع ولا أستطيع أن أخيّر بينهما، فهما من خيرة الرجال وأنسبهم للمهمة، وإن كنت لا أفرق بين أحد منكم سواء في الشجاعة أو الصبر أو القوة، كلكم لها، والخيار لكم.

هنا يتكلم عثمان بن علي، وينصت له الجميع كونه أكبر المجاهدين سنا ويتسم بالشجاعة إلى حد المغامرة ويمتاز بالحكمة واستعمال العقل في الأمور الجدية، فيقول:

-  أما أنا يا إخوتي، فقد أرى أن قيادة الفوج تعود إلى صاحب الحق فيها وهو مبتكر الفكرة الأولى الذي عنده من الجرأة الكافية لقيادتنا ومحاربة العدو إلى النهاية، إلى جانب خبرته في بلاد القبائل وتعليمه الذي يفوقنا به، وإنه لفخر لي أن أكون مساعدا لصديقي ونائبا لقائد الفوج، الصاغ زغدود.

فيهتف الجميع وترتفع أصوات التهنئة والتهليل والتكبير من كل جهة من جهات الحلقة، سمعت من بعيد كلماتهم مدوية.

-  الله أكبر، بوركت يا سي عثمان

-  الله أكبر، مبروك عليك أيها القائد الجديد، يا صاغ زغدود، تشرفنا برأس الحديد قائدا على الصادة ومنادة وبني قشة وتكوش وغيرها.

وهنا يتقدم زغدود بن قويدر فتوسط الحلقة، طلب الإذن من الشيخ قاسم وسي مسعود للكلام وتقديم الشكر على الثقة الكبيرة التي منحت له بمناسبة هذه البيعة، فقال:

-  يشرفني أن أقف أمامكم في هذه اللحظة المميزة، وأشكر الجميع على البيعة الكبيرة والثقة العظيمة التي وضعتموها في شخصي، كما تعلمون أيها المجاهدون نحن إخوة وأصحاب منذ الصغر، لهذا فالقيادة عندي أمر شكلي لا يتعدى تنظيم لحسن سير الفوج، ويبقى التعاون والتنسيق هو أساس إدارة الفوج، وسوف أبذل معكم كل جهدي ووقتي لقيادة حكيمة ورصينة من أجل الحفاظ على النظام وسلامة أفراد المجموعة، وأكون معكم آذان صاغية وأعطي كل اهتمامي لكل اقتراحاتكم أو فكرة تنفعنا في التنظيم والتسيير مهما كانت بسيطة، سواء جاءت من الجنود أو الشيوخ في قريتنا.

وقد تشرفت بالنائب سي عثمان، صديقي الحميم، وسوف يمد هذا الفوج بأفكاره الحكيمة وخبرته في الصيد التي قد تؤدي به إلى اختيار أفضل السبل إلى كسب المعارك واصطياد العساكر الفرنسية الواحد تلو الآخر، إلى جانب سماحته وحبه إلى أصدقائه ووفائه لهم سيكون قدوة لنا جميعا على طول مسيرة عمر الحرب ودوامها.

أحمد الله على فضله وأتوسل إليه أن يبارك لنا خطواتنا هذه ويثبت أقدامنا لما نحن مقدمون عليه في سبيله، ونرجوه أن يلهمنا الصبر على المكاره والبلاء والخطر وأن ينصرنا على من عدانا من الكافرين أعداء الله وأعداء الإسلام من قبل ومن بعد هذه الحملة الاستيطانية.

وأختم كلامي هذا، بجزيل الشكر لمدربينا اللذين لم يبخلوا علينا بما يملكون من معرفة مستفيضة وتجربة قيمة، فجزاكم الله كل الخير وجعلكم ذخرا للوطن.

وهكذا يستقل سي زغدود وفوجه عن سي مسعود الحوات والشيخ قاسم في تدريبهم، منذ هذه اللحظة لم يعد سي زغدود بحاجة إلى أفكار الشيخ قاسم الذي ملأت عقله ولا إلى تعلم الفروسية والتقاتل بالسيف من سي مسعود الذي لقنهم كل ما يملك من معارف وعقيدة قتالية راقية، لقد كوّن رجالا أبطالا بإيمانهم الكبير يتصدوا لقوات العدو في سبيل إبقاء كلمة الله عالية في هذا الوطن العزيز، وعند ظهر هذا اليوم ترى الجنود والمدربين مصطفين خلف سي زغدود بدلا من الشيخ قاسم لآداء صلاة الظهر والتأمين على الدعاء.

في خريف 1833 يتقدم أهل زغدود لخطبة ابنة خاله، الآنسة عائشة بنت العربي، تتفق العائلتين على المهر وموعد الزفاف الذي سوف يتم بعد شهر ونيف، وأن الفتاة حضرت جميع مستلزماتها.

سعد زغدود كثيرا بهذا الخبر ويلتقي بابنة خاله التي زاد إعجابه بها وبثقافتها، ونشاطها في العمل المنزلي وكذلك الشغل في الحقل مع الأسرة، إنها امرأة حاضرة بمعنى الكلمة.

يبدأ زغدود في بناء سكنه قرب سكن أبيه، وسط البستان، أعلى من البئر، فأراد زغدود أن يكون السكن "نوالة" ذات الجدران الصخرية، إذ جاؤوا بالحجارة من الواد ونبات الديس من أعالي الجبل، ليبني له والده كوخ من نوع القربي، الذي وضعت به أخصان الأشجار، طولا وعرضا، عمودية فيما بينها، متداخلة بين بعضها وتغطى بالقش والقصب. بدأ زغدود وعبدالله والساسي ابن خالهما عمار في جمع الحجارة ويقوم الكبار بالبناء وتراص الحجر لقيام الحائط واقفا مستقيما، كان المسكن ذو أربعة حيطان، لتشكل غرفة واحدة، واسعة كفاية، قسمت على نصفين، الجزء السفلي به سرير من الخشب المسطح، لذلك يناديه بني محمد "السطح" والقسم العلوي الذي يرتفع بثلاثين سنتيمترا به الموقد  "الكانون" الذي يشعل ليلا ونهارا فيرمي بالشرر على جلسائه، ومع الحائط جعلت السدة لوضع البرم والطناجر التي ملئت زبدة ودهان وبعض المؤونة، والسقف الذي بني من الأعمدة الخشبية وأغصان الأشجار، والغطاء من نبات الديس حتى لا يتسرب منه ماء المطر، ومن اليمين علق مزْوَد الملح وعلى اليسار علقت شكوة بها اللبن وكذلك القربة التي ملئت ماء، وهم مصنوعون من جلد الماعز بعد دبغه، وعلى الأرض خوابي من الطين مصطفة من الصغيرة التي خبأ بها العسل إلى الكبيرة، لتحمل زيت الزيتون وأخرى للدقيق وأخرى ضخمة تحمل أكثر من خمسين لترا جعلت للماء الشروب إلى جانب القلة الصغيرة، كذلك نرى أواني طينية في الخلف منها الطاجين الذي تطهى عليه الكسرة والصحون بأسمائها، المكب والصحفة والعميقة مع الكسكاس والمعالق الخشبية وكذا القصعة من نفس المادة.

هكذا بني منزل زغدود الذي يماثل جميع مساكن العائلات من عرش بني محمد والقبائل المجاورة له، يقيهم من برد الشتاء فتجده دافئا، ومعتدل جدا في الصيف يحميهم من حره، وعمل زغدود على تشكيل سياج يحيط بالسكنى، بناه من أعمدة الحطب الرقيق، وجهت إحداها عموديا، غرست في الأرض، ومدد الأخرى بطريقة أفقية فلا تمر الحيوانات من هذه الطابية المتماسكة، عبر بها زغدود عن استقلاليته منذ البداية، جعل له باب يؤدي إلى منزل والده المجاور له، وقد أعطاه والده بقرة كهدية زواج حتى يحلب منها ويصنع الزبدة.

لم يشعل زغدود الموقد لأنه يعلم من البداية أن من تقاليد المنطقة، يجب على الزوجة أن تساعد أم زوجها، ويعيشان كنة وعجوزة لفترة قبل الانفراد، في الطبخ وطهي بعض المأكولات من العصيدة والكسكس والطمينة والرفيس والغرايف والغسيل للأواني والملابس والتنظيف للمنزل ومكان الحيوانات "المراح" وأشغال الحقل من درس وفرز محصولي القمح والشعير، والحمص والفول، والعمل في جني الزيتون وعصره، وصناعة الفخار للمنزل عند الحاجة، منها البرمة والطاجين والصحن.

تمر الأيام بسرعة ويحضر يوم العرس، عرس زغدود وزفافه على ابنة خاله، يأتي المدعوون من كل حدب وصوب، من مناطق رأس الحديد، منادة، عرش بني محمد الذي يعود نسبهم إلى آل البيت، وكذلك عرش الصادة، وهم عرب، فرع من قبيلة أولاد عطية القادمة من سبعة رؤوس بالقل ولهم نسب أيضا إلى آل البيت، المرسى قرب الميناء الصغير أسفل القرية كلها، فجاج الريح وقد جاءت مع مخرج القرية، والرمايلية وهم الخوالد الذين قدموا من بسكرة وسكنوا الرميلة، بني قشة وهم عوام، عرب جاؤوا من قسنطينة، الزقع والعزلة وعين عبد الله، وهم من الدواودة بتكوش وعرب طلحة من أولاد غمام والبراهمية الهلاليين إلى غيرها من القرى والمدن، يحضرون أفواجا إلى طرحة جعلها قويدر أمام مسكنه على بعد حوالي خمسون مترا على الأقل، جعل في طرفها "دبيب" على طريقة أهل الريف، أي أنه قام بمساعدة أبناءه وأولاد الجيران على وقف أربعة أعمدة ركزها في الأرض ومن أعلاها جعل عوارض في الطول والعرض على ارتفاع المترين ونصف، ثم تغطى بنبات السرخس "السميْسر"، كما فرش أرضيته وعلى حوافي الطرحة فرشها بهذا النبات حتى يجلس عليه الناس، وتوضع أفرشة من صنع يدوي لأهل الدار على بعض الأماكن المخصصة لشيوخ المداشر وأعيانها.

جلست تحت الدبيب فرقة المداحين الذين يتمتعون بالاحترام والتقدير، منهم مغني المرابطين يستعملون الدف "أو البندير" والناي "أو القصبة" يطربون الحضور بمدائح دينية وأخرى يشك في انتمائها وكلامها فيه نوع من الشرك بالله، لأنهم يبجلون الولاة الصالحين ويقدسونهم في كلامهم، ولهذا رفض زغدود أن يرددوا هذا النوع من المديح، ومنهم من يقوم بالتهوال على موسيقى البندير والقصبة ويتعدى أمرهم إلى إظهار كراماتهم، أمور شعوذة ورثوها عن سابقيهم، فقد يخرجون الحلوى والتمر من البندير وإدخال سكين في الفم وقطع اللسان ثم استرجاعه دون ضرر، أما الذكارة وهم أهل الذكر والمديح الحسن، لا يستعملون آلات الطرب وكلامهم يتعلق بالحمد لله والثناء على رسول الله، تراهم أربعة أفراد يمشون في الساحة بين روح ومجيئ وهم يكررون كلمات شعرية راقية.

أما الطبل والزُرْنَة التي لا تنقطع عن فرح وإلا كان ثقيلا ومملا، تعزف في النهار وترفق موكب العروسة بدءا من دار أبيها، حين تخرج مع الظهيرة تركب حصان يقوده شيخ من أهل العريس، يأخذ زي شخص شجاع ويلبس برنوس ويحمل سلاحا، يزين الحصان أيضا بلجام مزركش بألوان زاهية، يسرج ببردعة ويوضع عليها تليس أو طنفسة، ويملئ هذا الغطاء ذو الجيبين على اليمين واليسار بأشياء العروسة، ويركب أمامها صبي من أهلها يكون فأل على إنجاب الصبيان، ذكور وكثر، ويمشي خلفها جمع غفير في صف طويل، منهم من يركب حمارا أو بغلا ومنهم من يمشي على قدميه، يضم الموكب في صفه النساء والبنات والأطفال والقليل من الرجال.

تأتي العروسة إلى البيت الزوجية معززة مكرمة، تدخل بيتها وهي لا تحمل معها سوى ملابسها. تكون أمها معها طيلة المساء وكذلك إحدى صديقاتها غالبا ما تكون من بنات العمومة، وقد يأتي النساء للغناء عندها والرقص، حتى تحس هي وأمها بالفرحة والسعادة في يوم زفافها.

من جهة ثانية تبدأ سهرة العرس الكبير، المقدمة تنطلق من العشاء الذي يوضع باكرا حتى يتسنى لبعض المدعوين من المغادرة باكرا، لبعدهم عن المكان واعتراضهم عن المبيت، أما البقية فالسهرة طويلة ومبيت الرجال سيكون على نفس الطرحة حيث يأتيهم بالأغطية وينامون على نفس المكان الذي جلسوا عليه منذ البداية، العشاء الليلة كان شيئا جميلا ذو طعمة رائعة ومشبع جدا، حيث أحضر قويدر بقرة ومعزتين ذبحهم وقدمهم لمدعويه مع الكسكس الذي طهته النسوة ذوات الخبرة الطويلة، وضعوه في قصعة ثريد كبيرة تكفي لثمانية إلى عشرة رجال يلتفون حولها وقلّ ما يتركون منها فضلة، ولا حتى لقمة واحدة، فيجتمع الرجال ومثلهم النساء حول قصع الكسكس في حلقات كثيرة، وهناك أباريق الماء التي تدور حول الحلقات وكذلك أوعية الورقة لسقي الكسكس.

ولما انتهى العشاء وأكل الجميع حتى الشبع، جاء دور الطرب والغناء، بداية مع المرابطين وما جاؤوا به من مديح، ولو أن هناك أعراس تقام بموسيقى شعبية وراقصات في أماكن أخرى، إلا أن أهل بني محمد يرفضون بشدة هذا النوع من الأعراس المنحطة، ويأتي بائعي الشاي الأحمر مع النعناع، وهم ينتشرون على حوافي البطحة، يكون طهي الشاي في جو من الاحترام والبهجة، لأن معده يتمتع إجباريا بسمعة حسنة يستعمل تقاليد الطهي المنغرسة في جذور وعادات القوم الأصيلة والفاضلة، في طهى ليلا عند لحظة التقاء النفوس المحبة لجلسات السمر والسهر على الألغاز والشعر والحكايات الخرافية المنتشرة، يقوم الطاهي بتقديم الشاي على صينية متوسطة الحجم، صفراء اللون، نظيفة ونقية من كل غبار، عليها كؤوس صغيرة وإبريق الشاي النحاسي ونبات النعناع، تسكب الكأس الأولى مع بداية الدردشة، وتنتهي الكأس الثالثة مع غلق السهرة، وعند الوليمة يختلف شرب الشاي عن أوله، لأن الحضور لاهين بمشاهدة العروض التي تقدم لهم، من مدائح وذكر وغيرها من أناشيد دينية، يفرح المدعوين وكما يسميهم هنا بالعراضة، فتعلو ضحكات وقهقهة ونداء وكلام وصخب كبير.

من جهة ثانية يعلو صوت المغنيات في بيت العروس، تقوم نسوة تردد أغنيات مشهورة يحفظنها أغلبهن لأنهن يرددنها أثناء العمل بالحقول أو غسل الصوف وكذا أثناء جني الزيتون وعصره، تخترن النسوة إحدى النساء التي تمتاز بصوتها الحسن، ولو أن أحيان نرى امرأة لها صوت رديء تقدم نفسها دائما قبل غيرها.  وقد تظهر فتاة بصوت ناعم حسن ولكنها سرعان ما تنكمش على نفسها خجلا وتصيح بها صديقاتها ،هيا تقديمي، فلا تتقدم ولا تنظر إليهن من خجلها.

في منتصف الليل وبعد مغادرة نصف المدعوين تقريبا، تتوقف فرقة المرابطين وتتقدم فرقة المديح بأناشيد الذكر، يخشع معها المنصتون، فتقوي إيمانهم وتمسكهم بدينهم، كما يسهر الأطفال في سن المراهقة تحديا لسماع هذا النوع من الحديث، فمنهم كثير يسمعه لأول مرة في حياته.

هكذا.. تزوج زغدود من عائشة، وكانت أيامه الأولى جميلة وحلوة كالعسل، قضى أسبوعا كاملا في عطلة من جميع الأشغال، ليس ذلك تكاسلا أو عطلة زواج، بل كان هذا حياء من أبيه الذي لم يره منذ زواجه وكذا الرجال الكبار الذي يهرب من لقائهم خجلا، عاد إلى التدريب، وتقدم إليه أصحابه يسألونه عن الزواج وطعمه، وإحساسه بوجود شريك حياته، ومتى سيلتقي مع أبيه، ثم يتحول الجميع إلى التدريب.

هنا.. طرح زغدود خطة جديدة على أصحابه، فكرة الهجوم على قوات الحملة الاستيطانية، لأن الفرنسيين يمرون على بعد ثلاثين كيلومترا، والهجوم سوف يجري بالطريق القادم من عنابة والمؤدي إلى مدينة صنهاجة بالقرب من عين أم الرخاء، حيث لا يتعدى عدد العساكر الفرنسية العشرة، ينتقلون إلى المكان من حين إلى حين.

جمع زغدود العزم والقوة، ثم بعث من يأته بالمعلومات الكافية عن تحرك قوات العدو، وجاء اليوم الذي قرر فيه مع مساعده سي عثمان، ليكون الهجوم يوم الأربعاء، ينتقل الفوج إلى سوق صنهاجة ويحضره، ويبيت هناك في خفية، فينصب كمين لقوات الاحتلال التي جاءت إلى السوق لتأخذ الضرائب "المكس" من الباعة والفلاحين.

خرج زغدود وجماعته مع فجر الأربعاء إلى سوق صنهاجة، أخذ كل واحد منهم جواده وسيفه، لأنهم لا يملكون بنادق البارود، توجهوا عبر المسالك الجبلية الضيقة حتى لا يكشفهم العدو، قضوا نهارهم بالسوق يسومون أشياء كثيرة ولا يشترون إلا القليل، وليلهم على الطريق بالقرب من دوار أولاد الراعي يتسامرون مع بعضهم البعض، كما خططوا لذلك، ومع صباح الخميس حين أشارت الساعة الشمسية على الثامنة رأى الفوج عساكر فرنسية قادمة من بعيد، نصب الكمين بإحكام، فزاد الصاغ زغدود من توصياته على عدم التسرع والسقوط في هدف العدو، لا بد من الحفاظ على حياة المجاهد، من واجب الجندي في هذه الوضعية أن يحافظ على حياته وحياة أصدقاءه، لأن الكفاح مستمر وعمر الحرب طويل، ومسكَ كل جندي مكانه دون حراك حتى تقدم موكب العساكر قادمة من صنهاجة متجهة مع طريق عنابة، نظر الصاغ زغدود إلى الفصيلة الصغيرة في زي عسكري أزرق، ومحص جيدا ودرس الموقف وقال:

-  يا سي عثمان، الفصيلة الفرنسية تتكون من قائد برتبة ملازم وثلاثة جنود يحملون بنادق لها حراب من الأمام ولا يملكون سيوفا.

-  إذا.. يكون الهجوم عند المنعرج، لابد من القضاء على الضابط قبل استعماله البندقية.

-  دعه لي يا أخي، أنا أتكفل به وسأقضي عليه في لحظة واحدة.

وصلت الفصيلة إلى المنعرج، يقف حصان الضابط مفزعا، اندهش القائد لرؤية جندي عربي غاضب في بدلة بيضاء يحمل رمحا بيده، فيرمي به زغدود إلى صدر القائد فيرده قتيلا، سقط ميتا على الأرض قبل أن يحرك ساكنا، لم يتمكن من وضع يده على الزناد ولا أن يخرج بندقيته أو يجرد سيفه من غمده. لم يدري جنوده ماذا يفعلون في هذا الموقف إلا أن الرعب أصابهم فهلعوا وخافوا، هنا علا صوت عثمان بن علي "الله أكبر" ورمى بسهم إلى صدر الجندي المقابل له، وتتالت السهام من الجهتين ثم تقدم المجاهدون بسيوفهم إلى وسط ميدان المعركة، فوجدوا جميع العساكر جثث هامدة على الأرض، فرحوا كثيرا بهذا النصر لأول خرجة، واغتنموا السلاح والأحصنة والمال الذي بحوزتهم، قام زغدود بأخذ البنادق لتكون أغلى غنيمة على الإطلاق.

 

سليمان عميرات

مقطع من روايتي "فارس بني مـحمد" (لم تجد حظها للنشر بعد)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم