صحيفة المثقف

التنافس الحضاري بين البصرة وبغداد (1)

khadom shamhodبعد سقوط بابل على يد الاخمينيين عام 539 ق م - ظل العراق مركزا للتفاعل الحضاري الايجابي بين الشعوب والحضارات الوافدة اليه وبين الحضارات المحلية التي ورثت حضارة وادي الرافدين . وكانت عواصم الغزاة قد تمركزت في ارض العراق ولهذا اكتسبت هذه العواصم صفة عالمية مثل : بابل وسلوقيا وطيسفون . وبين سقوط بابل وظهور الاسلام مر العراق بمراحل تاريخية اربعة – المرحلة الاخمينية 556 ق.م والمرحلة السلوقية 312 ق م والمرحلة الفرثية 249 ق م –226 م والمرحلة الساسانية 226-651 .م ويضاف الى المدن المذكورة سابقا كانت هناك بعض المدن العراقية اخذت صفة التألق الحضاري مثل امارة ميشان –البصرة - والتي كانت تتكون من مدينتي الابلة وميشان .

مدينة البصرة

1284 khadom1تعتبر البصرة (الابلة) من اقدم المدن العراقية واكثرها حضارة وثقافة فهي وليدة الحضارة السومرية وخليفتها على ساحل الخليج وكان نفوذها يمتد حتى ظفار على البحر العربي ويوم ذاك لم تكن دول الخليج موجودة على الاطلاق . وكانت تعج بالحركة التجارية والثقافية والفنية حيث تردها البضائع من دول آسيا الشرقية بمختلف انواعها منها التوابل والاقمشة ذات الالوان الزاهية المسرة والمزخرفة بانواع الرسوم النباتية والكائنات الحية التي تستعرض المناخ الحضاري وتقاليد تلك الشعوب العريقة بفنونها . وانصهرت في البصرة مختلف الثقافات وظهرت طبقة الاغنياء التي بدأت بتشييد القصور والحدائق الغنائة على ضفاف شط العرب وفروعه، كما دعت لىتزويقها بالزخارف والتصاوير الجميلة . ويذكر شاكر حسن آل سعيد ان البناء (المعماري) في ذلك الوقت كان ايضا هو مزوق في نفس الوقت . كما يعتقد قدوم عدد من المصورين الى البصرة من ايران والهند . وبالتالي انتشرت التـاثيرات الفارسية واختلطت مع التقاليد المحلية والفنون الشعبية في مناطق الامتزاج الثقافي . ولكن مع الاسف لم تدون اسماء المعماريين والمزوقين لتلك الفترة ولم يعثر على مصدر يؤرخ ذلك ما عدا ما خلفوه من آثار كالقصور وما فيها من زخارف ورسوم وتحفيات ومذكرات الرحالة وغيرها وبقت غالبيتها مجهولة الهوية .. وربما كان لثورة الزنج (العبيد) في البصرة عام 869 واحراقهم المدينة وتحويلها الى خراب وانقاض، ادى الى ضياع الكثير من المخطوطات والمدونات حول تاريخ الثقافة والفنون وازدهارها في مدينة البصرة .

 وعندما فتحها المسلمون سنة 14 هجرية (القرن السابع م) اطلقوا عليها اسم البصرة وفي زمن الخليفة العباسي المأمون (- 786 - 833) امر باحصاء علماء البصرة وتلاميذهم فبلغ عدد العلماء سبعمائة عالم وعدد التلاميذ احد عشر الفا . كما طلب بأرسال نسخ من مؤلفات اولئك العلماء . فجمعوا له اكثر من مئتي الف مؤلف بين صغير وكبير في جميع صنوف العلوم والمعرفة . وقيل في مصدر آخر ان العد اكثر من ذلك بكثير . ارسلت الى المأمون في ثلاثة سفن ووصلت الى بغداد وضمها الى مكتبته .. ..

وقد ولد في البصرة عباقرة لم يشهد لهم التاريخ الاسلامي والعربي مثيلا . كالجاحظ والفرزدق وبشار بن برد وابو الاسود الدؤلي والخليل بن احمد الفراهيدي وابن الهيثم 965 م عالم الرياضيات والبصريات ومخترع – الكاميرة - والاصمعي والكندي والمربد وابن سيرين وفرقة المعتزلة (العقلية)، وجماعة اخوان الصفا، والحريري، والمصور احمد الخراط البصري الذي ظهر في النصف الاخير من القرن الثاني الهجري (8 م) واشتهر برسم الصور الشخصية والكاريكاتير ويعتبر من اوائل المصورين ورسامي الكاريكاتير في العالم الاسلامي سبق بذلك الرسام الايطالي دافنشي بعدة قرون .

1284 khadom2

مدينة بغداد

انشات بغداد في زمن الخليفة المنصور عام 145 هجرية 762 م - واشتهرت في زمن الخليفة هارون الرشيد كونها عاصمة الدولة الاسلامية كما اصبحت في زمن الخليفة المأمون مركزا للعلم والثقافة والفن والترجمة في العالم ، فاسس جامعة بيت الحكمة 830 م – وقد وفد اليها العلماء من كل حدب وصوب . وكان هناك سوق للوراقين او بيع المخطوطات يقع في شارع المتنبي اليوم . كما ظهرت فيها مدرسة بغداد للفن وتسمى ايضا (بالمدرسة السلجوقية) . حيث برز فيها المصور يحيى بن محمود الواسطي الذي عمل رساما للخليفة المستنصر بالله العباسي بين اعوام 1242و 1258 م . واشتهر ايضا من المصورون : ابن الرزاز الجزري 1206 وعبد الله بن الفضل1222 وعلي بن حسن بن هبة الله 1209 وغيرهم .

الفن المعاصر

 بدأت ظاهرة الوعي الثقافي والفني في العراق في نهاية القرن التاسع عشر على يد عدد من المثقفين والفنانين منهم شخصيتين مهمتين دونهما لنا التاريخ هما : نيازي مولوي بغدادي ويعتقدانه من اصل تركي او من مناطق بخارى ونيازي حسب قرائتي هو لقب عائلة اما اسمه فلم يذكر .. وكان خطاطا ومزخرفا ورساما وهو صوفي الاتجاه وقد ترك لنا عددا من اعماله لازالت تحتفظ بها مكتبة المخطوطات في بغداد . والرجل الثاني هو عبد القادر الرسام 1882 -1952 الذي درس الفن في استامبول اثناء خدمته العسكرية . ولازالت اعماله تزين بعض المتاحف والمؤسسات والبيوت العراقية وكانت اعماله منفذة بالاسلوب الواقعي الاوربي . وتبعه بعد ذلك الحاج محمد سليم وعددا آخر من الضباط المتقاعدين وكانوا رسامين هواة .

ويعتبر هؤلاء الرسامين كحلقة وصل بين اسلوب فن المنمنمات التقليدي في القرن التاسع عشر والاسلوب المدرسي (الاكاديمي) الذي كان سائدا في اوربا والذي عمل على انتشاره في العراق مجموعة من الطلبة الذين درسوا في الخارج ثم عادوا الى بغداد واسسوا معهد الفنون الجميلة عام 1939 -1940 .

اما البصرة فقد عاشت كمثيلتها بغداد في فترة العشرينات والثلاثينات في حالة صراع بين الاساليب القديمة وبين الاوربية الحديثة . ويذكر الاستاذ شاكر حسن ان الاستاذ والرسام عبد الكريم محمود كان يشرف عام 1922 على الدروس الفنية وتدريس مادة الفن عمليا في المدارس الاولية في البصرة . كما يذكر ان هناك فنانة بصرية تدعى شيرين مراد السلامي تعتبر من الفنانين العراقيين الرواد ولدت عام 1905 وكانت معروفة في الوسط الاجتماعي خاصة الطبقة الحاكمة ويقال انها رسمت صور شخصية للملك فيصل الاول والشريف حسين والشاه بهلوي والملك عبد العزيز وغيرهم واقامت معرضا شخصيا لها في البصرة عام 1933 وكانت تنفذ اعمالها الزيتية او المائية بالاسلوب الواقعي او المحاكات تقليدا للطراز الاوربي . وسوف نتحدث في المقامة القادمة عن الفترة العثمانية المظلمة وعدد من الرسامين الاوائل ..

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم