صحيفة المثقف

ابــــــن خلـــدون وقضايا اللغة

يعد ابن خلدون من بين علماء القرن الثامن الميلادي، وهو مؤرخ مسلم، ومؤسس علم الاجتماع عاش بين تونس والمغرب له جهود يجب تتبعها في العديد من الميادين خاصة كتابه "المقدمة"، الذي ناقش فيه قضايا كثيرة حاول من خلاله أن يسير فيه على نهج الأقدمين كابن جني والمتنبي وسيبويه...وغيرهم. وفي ذات الوقت يجيب عن بعض الإشكالات المطروحة في عصره. فإلى أي مدى استطاع التقيُّد بقواعد فكر الأقدمين؟ وإلى أي حد دافع/ نافح عن الدّارجة من خلال استشهاده بالعديد من النصوص اللغوية؟ وما هو الفرق الذي قدمه ابن خلدون بين الدارجة والفصحى؟ وما هي أقسام هذه الدارجة؟ وما نقط الاختلاف والائتلاف بين الدوارج؟

يعقد ابن خلدون في كتابه "المقدمة" فصلا خاصا في قضية أن لغة العرب في العهد المخصص للدراسة، هي لغة مُستقلة مغايرة للغة مضر وحُمير، بحيث يلاحظ في هذا الشأن أن اللغة العربية قسمان: لغة مضر ولغة حمير، وهذا التقسيم مأخوذ من الأحاديث النبوية؛ حيث نجد استعمال الميم كأداة تعريف في لغة حمير: ("البر= أمبر" و"الناقة=أمناقة" و"الضرب= أمضرب" و"القمر= أمقمر" و"الصيام=أمصيام"...)، ولغة مضر هي الفصحى. كما يلاحظ في هذا الفصل الخلدوني المخصص للغة، أنه يتحدث عن لغة أخرى غير العربية الفصحى، والتي هي لغة التخاطب اليومي (لغة أخرى) المعروفة باسم الدارجة وهذا ما يؤكده في قوله: اعلم أن عُرفَ التّخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي، الذي لعهدنا وهي عن لغة مضر أبعد. فأما إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يُعد عند أهل صناعة أهل النحو لحنا. وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم، فلغة أهل المشرق مُباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما وكل منهما مُتوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه.

الأمر الذي يفسر ويلخص الفرق –حسب ابن خلدون دائما- بين الدارجة والعربية الفصحى في مسائل نحوية لا صوتية؛ تتمثل في فقدانها لحركات الإعراب، التي تعتبر عند أهل النحو خطأ، فنجد مثلا في الدارجة: "كتبْ محمد كتابْ" بينما في الفصحى نجد "كتبَ محمد كتابا"، ما يؤكد أنه لم يُفقد من أحول اللسان المدون إلا حركة الإعراب في أواخر الكلم، الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومنهجا معروفا. هذه الدارجة التي في نظر ابن خلدون ظهرت نتيجة لتدهور الفصحى، حيث فسدت ملكة لسان مضر؛ من خلال مخالطتهم الأعاجم فانقلبت اللغة إلى لغة أخرى؛ أي ظهرت الدارجة. وهذا ما يؤكّده في قوله: "إنما وقعت العناية بلسان مُضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم، حيث استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب، وصارت ملكتهم على غير الصورة التي كان عليها أولا، فانقلبت لغة أخرى. ثم ينتقل ابن خلدون للحديث عن سبب نشأة النحو، حيث يقول: "وكان القرآن منزلا به وللحديث النبوي منقولا بلغته، وهما أصلا الدّين والملة، فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان، الذي تنزل به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه، وصار علما ذا فصول وأقوال ومقدمات ومسائل سماه أهله بعلم النحو وصناعة العربية.

ومن خلال هذا القول، يوضح أن سبب نشأة النحو هو ديني بالدرجة الأولى، فحينما كتب القرآن كان لا بد من أن ينشأ علم يدرس لغته ويفسر معانيه. وهكذا نشأت الفصحى، وفي هذا السياق، يشير ابن خلدون بالقول: بأن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة، حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا إلى هذا العهد ما يحملنا على ذلك ويدعونا إليه.

نستنبط من خلال ما تقدم، أن ابن خلدون لديه تصور تقليدي؛ أي أن دراسة اللغة تتم وفقا لأسباب دينية، يخرج عن هذا التصور حينما يقف مدافعا عن الدارجة (تصور حديث) بإشارته بأنها لم تحظ بأي اهتمام لأن لا علاقة لها بالشريعة عكس الفصحى.

ويعود ابن خلدون في قول آخر لتأكيد أن سبب نشأة الدارجة راجع بالأساس إلى تأثير اللغات المحلية كالقبطية والأرامية والتركية والفارسية على الفصحى، من خلال بروز مظاهر الركاكة والعجمة...إلخ. وبناء على هذا، يقول الكاتب أنيس فريحة في هذا الشأن: ظن لغويو العرب ويجاريهم في تفكيرهم المعاصرون، أن لغة العرب كانت العربية الفصحى، كما نعهدها في القرآن الكريم والشعر الجاهلي وفي القليل الذي وصلنا من النثر...ثم إنه لما خرج العرب من موطنهم إلى مواطن الأرامية والفارسية والقبطية فقدوا ملكة اللسان وأخذت مظاهر الركاكة والرطانة والعُجمة تتسرب إلى لسانهم فنشأت اللهجات، إلا أن هذه النظرية القديمة لنشأة الدارجة تُعضدها المعطيات والوقائع الملحوظة؛ كما هو عليه الحال في الدارجة المغربية التي يلاحظ من خلال اعتماد وصف علمي دقيق من جهة الصوت (Phonology) أو من جهة الشكل (Morphology) أو النحو أو التركيب (Syntax) ...وغيرها، أن الدارجة المغربية يتداخل فيها عدة لهجات أبرزها الأمازيغية، ما يؤكد التصور الخلدوني حول انقلاب العربية الفصحى إلى لغة أخرى.

بعد حديث ابن خلدون عن سبب نشأة الدارجة، ينتقل للحديث عن أقسامها إذ يقول في هذا السياق: وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتها، فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما، وكل منهم موصل بلغته إلى تأدية مقصوده، والإبانة عما في نفسه.

انطلاقا من هذا القول، نستنتج أولا أن ابن خلدون يقسم الدارجة بناء على معيار جغرافي إلى  ثلاثة أقسام: المشرقية والمغربية والأندلسية، أما الاستنتاج الثاني فيمكننا أن نطرح من خلاله السؤال التالي: ما هي الخصائص المشتركة بين هذه الأنواع والتي تضعها في خانة واحدة مقابل الفصحى؟

وللإجابة عن هذا السؤال ، نقول أن كل من المشرقية والمغربية والأندلسية تشترك في خاصية واحدة ألا وهي فقدان الإعراب، وهنا نؤكد أن ابن خلدون لا يتطرق إلى فقدان الإعراب في الدارجة بجميع أقسامها باعتباره حدثا منعزلا، أو ظاهرة عبثية، بل هو في رأيه عبارة عن دينامية نحوية شاملة ومتكاملة، فهو يقول عن حركة الإعراب: اعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد؛ بمعنى أن فقدان الإعراب حسب ابن خلدون ليس حدثا معزولا، بل دينامية لا تمس الحركة فقط، بل تمس رتبة الكلمات؛ مثلا ضْرْبْ مُحمْد عْلي، يمكننا القول كذلك: محمدْ ضْرْبْ عْلي، أي أن الدارجة عندما فقدت الإعراب (النحو)، اضطرت إلى التخلي عن نفس الرتب، بحيث أصبحت مثلا من فعل فاعل مفعول إلى فعل مفعول فاعل.

بعد معرفتنا للخصائص المشتركة لأقسام الدارجة، ننتقل مع ابن خلدون، لمعرفة نقط الاختلاف بينها، حيث يقول: أما افريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانهم به، ولم  يكد يخلو منهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي، الذين كان لهم وصارت لغة أخرى مُمتزجة، والعجمة فيها أغلب هذه القولة تبين أن المغربية قد نشأت نتيجة لاختلاط اللسان العربي باللسن الأمازيغي. هذا بالنسبة لأهل المغرب، أما بالنسبة لأهل المشرق فيقول:"لما غلب العرب على فارس والترك فخالطوهم، وتداولت بينهم لغاتهم فالأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولا ودايات ومراضع، ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى، وهذه القولة توضح سبب نشأة المشرقية، وذلك نتيجة لتأثرها بالفرس والترك. أما عن أهل  الأندلس، فيقول ابن خلدون: "وكذا أهل الأندلس مع الجلالقة والافرنجة وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف بعضها، وهنا يبين لنا ما الذي يزعجه حيث أن أهل المشرق والمغرب والأندلس، لهم لغات مغايرة عن لغة مضر الفصيحة وهو يفضل أن يتكلموا بالفصحى.

من خلال تحليلنا لمجموعة من النصوص الخلدونية التي تهم الفكر اللغوي العربي نستنتج أن ابن خلدون، قد قدم لنا تصورا عن اللغة الفصحى والدارجة والفرق بينهما. ثم أقسام الدارجة ونقط الاختلاف والائتلاف بين باقي الدوارج، محاولا ما أمكن الحفاظ على تصور الأقدمين الذي يقول أن الدوارج هي انبثاق عن لغة مضر الفصحى، دون أن يغيب فرضية وإمكانية أن هذه الدوارج حسب التصور الحديث، قائمة بذاتها من حيث إيصال المعنى والإبانة عن مقاصدها.

أكثيري بوجمعة

باحث في مجال الصورة السينمائية

والثقافة الشعبية المغربية

كلية الآداب والعلوم الإنسانية إبن طفيل القنيطرة -المغرب

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم