صحيفة المثقف

أين العقل؟

asaad alemaraلست أشك في أن الإنسان الواعي قد فطن إلى أن المسألة الاساسية في حياته هي ليست أن يأكل ويشرب وينام فحسب، لأنه إذا آمن بذلك فهو ربما يتساوى مع الكائنات الحية الآخرى، فالأمر أخطر من ذلك، فالأمر لا يستقيم فيما نحن بصدده من بحث عن حل لمشكلات الإنسان، بالغض من شأن الإستخدام الخالص للعقل، وهي كيف يدرك الأشياء؟ وكيف يفكر بما ادركه؟ وكيف يستخدم خبرته السابقة في حل إشكالات ما يواجهه؟ هنا نشات أزمة العقل، هنا أستسلم البعض تماما بمصادرة هذا الجزء الذي تميز به الإنسان عن باقي الكائنات الحية الاخرى.

من الظواهر الملفتة منذ نحو ثلاثين  سنه أو يزيد قليلا التقاء غير متوقع أثناء مجريات الحرب بين العراق وايران، هو بزوغ  التصارع المذهبي بين السنة في العراق الذي يقوده النظام آنذاك، ومقاتليه الذين يشكلون لنقل 80% من الشيعة جنود ومراتب وضباط بمستويات مختلفة بالرتب في الجيش العراقي، والطرف الآخر هو الصعود السريع للقوة الدينية الحاكمة في ايران، وهم رجال الدين الشيعة ومؤسساتها الداعية إلى التشيع ونشر مذهب آل البيت"ع" بطريقة علمية مقنعه، قائمة على إستخدام التفكير المنطقي ، فهم أصطنعوا فلسفة كأعلى ما تكون الفلسفة، أستحدثت فيها وبشكل منظم الإهتمام بالنواحي الوجدانية لدى الإنسان، ونجحت الدعوة إلى التمركز حول ذات واحدة هي نصرة المذهب.

وأستمر التمركز حول الذات خلال العقد الثامن من القرن العشرين، بروز المجاهدين في افغانستان ومقاتلة الاحتلال الروسي لدولة إسلامية غير واضحة في سياستها وتعاملاتها الدولية، أو حتى ثقلها الاقتصادي أو السياسي، وبروز السلفية وانتشارها المذهل المدعوم بالمال والجاه والهبات والوظائف في معظم الدول الفقيرة، أو الدول التي خنقها الحصار في بداية العقد التاسع من القرن العشرين مثل العراق وليبيا،  أو أزمة المعيشة في اليمن، وغيرها من البلدان التي تسود فيها الانظمة الدكتاتورية وتحكمها بالحديد والنار وقسوة ليس لها مثيل، لم يكن يعلم الناس أن سعير التمركز يسير بخطى سريعه وقوية، ولما كانت المذاهب الدينية تدور حول التمركز الطائفي بسرعة فائقة، حتى  جاء القرن الجديد وبعامه الذي تحول من القرن العشرين إلى القرن  الحادي والعشرون، أعلنها عراب السياسة الامريكية المخضرم " هنري كسينجر" قوله: بدأ قرن الطائفية. هدفنا ليس تفسير قول كسينجر، أو اكتشاف قضايا سياسة أمريكا في العالم أو المنطقة العربية التي يعيش فيها ما يقارب "400" مليون النسبة الأعظم منهم من المسلمين، من نحلٍ  وأقوام وملل ومذاهب واعراق متنوعه، هدفنا قياس ما يمكن قياسه لمدى إستخدام العقل؟ قياس الوعي الذي غاب بعد أكثر من أربعين سنة، من الحروب والحصار والضغوط التي سلطتها الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة وقادت الناس نحو خط واحد هو مصادرة العقل، وتعطيل الوعي!!

هل يعقل أن ننتظر صاحب الزمان" عج" في حل معضلاتنا وما يمر بنا من مأسي وأزمات فتكت بكل قيم المجتمع الدينية والمهنية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية؟  هل يعقل أن يكون عقل الإنسان في تشتت وتوهان وذهول وصل لحد الاستسلام بالامر الواقع؟  هل يعقل أن يصل الأمر أن يفجر البعض أنفسهم بين حشود من الفقراء، أو أطفال ، أو باحثين عن العمل؟ وهل يعقل أن يصادر العقل عند استاذ جامعي يعلن جهارا وعلانية إنها حرب طائفية ضد الشيعه، وهل يعقل أن يعلنها أحدهم في أقدس مكان لدى المسلمين وهي الكعبة أنها حرب معلنة ضد المذهب الشيعي، والتشيع؟ أين العقل؟ أين الوعي؟ إذًا نجح "هنري كسينجر" في مقولته الشهيرة في العام 2000 حينما قال لقد بدا قرن الطائفية. ولا تنتهي هذه الحرب الطائفية إلا بإنتهاء هذا القرن ربما سيكون العام ( 2110) هو عودة الوعي لجميع الطوائف والمذاهب والأديان، وبه تنتهي الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية. ويتسائل البعض لماذا هذا التاريخ بالتحديد أيها الكاتب؟ ونقول للسائل  الكريم ..  وليست بالدقة التامة هذه المعلومات، ولكن دقة هذا التاريخ تماما!! ويصحح لنا اساتذة التاريخ هذه المعلومات التاريخية.

بدأ قرن الطائفية في القرن التاسع عشر حينما نشبت حروب الطوائف بين مذاهب البروتستانت والكاثوليك وارثوذ كس والمذاهب الأخرى في أوروبا، فهنري كسينجر لم يكن ذكيا جدا ليخترع لنا جديد للصراع، وإنما استنسخه من تجربة أوروبا في ذلك القرن، ولم تنتهي إلا بإبعاد الدين عن مراكز اتخاذ القرار والسلطة، في العام" 1910" وهو العام الذي تم استبعاد سطوة الدين وسيطرة المذاهب في ادارة الدولة كلها في اوروبا، وبقيت فقط ايرلندا الشمالية وعاصمتها" بلفاست" تؤمن بسلطة الدين بإدارة الدولة والمشاركة الفاعلة فيه إلى اليوم، وهي في حالة حرب وصراع غير منتهي.

نعود لتقييم ما يجري بأسلوب سيكولوجي واجتماعي كما تعلمناه وعلمناه لطلبتنا، ونستمد من بعض اساتذتنا أفكارهم في تحليل ما يجري، لا شك أن تاريخ الإنسان كله هو تاريخ تلك العلاقة الجدلية بين الفرد والجماعة، من ناحية وبين ما يعتقد ويؤمن كمخلص من الأخطار وغضب الطبيعة وسيطرة الاوهام من ناحية اخرى، فلجأ إلى من يرمي بثقله عليه، فكان الدين هو الاكثر تأثيرًا على الإنسان، والدين له تأثير اجتماعي وله بواعث نفسية في تحريك سلوك الإنسان. 

 الدين يقود حتمًا إلى التعصب ولكي لا نكون قد ابتعدنا عن الحيادية وعن مسار الموضوعية، لا سيما نحن ندرس الإنسان بكل أحواله ، فنقول ليس الدين فقط هو الوحيد من يدعو للتعصب الديني أو المذهبي، بل في الرياضة أيضًا يوجد التعصب، وفي الإنتماء الجغرافي للمدينة أو القرية ، يوجد ايضًا تعصب لها، وكذلك التعصب للعشيرة، أو القبيلة، وما إلى ذلك من أنواع للتعصب، والتعصب الديني لا يختلف لا في مبناه، ولا في معناه عن أي نوع من أنواع التعصب التي تنشأ بين الأجناس أو بين الاحزاب السياسية، أو بين المذاهب الدينية أو الاجتماعية،  والتعصب هو مصادرة للعقل الفردي والجمعي كما ذكرناه في كتابنا مقدمة في السلوك الجمعي،  يقول عالم التحليل النفسي الشهير" مصطفى زيور": أن التعصب إذا وصل إلى درجة معينة من الحدة يصبح عاملا من عوامل تقويض وحدة المجتمع، وينم عن إضطراب في ميزان الصحة العقلية الاجتماعية، مما يفسد تماسك المجتمع ويهدد كيانه، فالأمر لا يختلف في نظرنا عما يحدث للفرد عندما تستبد به عوامل الصراع الداخلي فتعتل شخصيته، ويختل توازنه، ويصبح في عداد المرضى. ونتسائل لماذا هذا الذي يحدث بالإستسلام الكامل لغيبيات غير ملموسة، والتي رفضها الدين أساسًا، وعدتها المذاهب بكل توجهاتها الفلسفيه، إنها جزء من عبادة الأوثان، ومنقولة إنثروبولوجيا من تراث ومخلفات عبادات قديمة، ما الذي يؤدي إلى هذا العجز، ثم ما الذي يترتب على هذا العجز أيضًا، إنخفاض في مستوى الوعي، أستسلام العقل للغيبيات وعبادة الأشخاص، والتسليم الكامل لهم بإدارة حياتهم، لا اقصد الاموات فقط منهم، والذي يتشبث البعض بانهم من يشفي المرضى، ومن يحل أعقد مشكلة حياتية في الاسرة أو الاقتصاد أو المجتمع، بل الأحياء منهم، حيث ينتظر البعض الاوامر بما هو حلال وما هو حرام؟ قاد هذا الاستسلام إلى إنخفاض القدرات والمهارات والمعارف اللازمة لحل المشكلات من خلال الإعتماد على من يفتي لهم بحق الموت " من يفجر نفسه" وبحق الحياة " من يحلل له هذا العمل، أو ينهيه عن هذا العمل "  إنها عودة إلى القرن التاسع عشر حينما سيطر رجال الكنيسة على كل مقدرات الدولة والناس ومشاعرهم حتى ضاقت الانفس بما يعمل هؤلاء الجهلة بمقدرات وعقول مجتمعات بأكملها. يردد البعض من المصادرة عقولهم إنها نعمه مثالية أن أوكل أمري لغيري في حل مشكلاتي، وهناك حشود من الناس آمنت في تحميل ظروفها الخارجية والاجتماعية لآخر ربما مات من زمن، أو يعيش ويتقاضى مقابل ذلك أموال لا تعد ولا تحصى، وتكونت مؤسسات للجباية مقابل رفع حمل آوزار ومتاعب الحياة،  يدفعها المتوكل في حياة آخرى، انه الهروب من المواجهة.. وإذا كانت المراحل الحالية التي نعيشها من تاريخ الإنسان تقتضي المواجهة والمعايشة بالتكيف والتأقلم والامتثال والإذعان والطاعة والطاعة العمياء، ولم يغالي البعض ممن استسلم ووجد أن الشكل الوحيد للحفاظ على البقاء في عالم شديد التعقيد، سريع التغير، هو الاستسلام، ونحن نقول ألا يقتضي ذلك كله تجديدًا عقليًا ونفسيًا شاملا، ألا يقتضي ذلك مبادرة تحل محل السلبية والإنطواء والإذعان، وهي مراجعة شاملة لكل ما يمر به الإنسان.

 

د.اسعد الاماره - استاذ جامعي وباحث نفسي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم