صحيفة المثقف

رسالة الحاج راضي و طلاسم الأمية العراقية الجديدة

wadea shamekh2مشهد خالد في تاريخ الدراما العراقية وهو مقطع من تمثيلية بعنوان "تحت موسى الحلاق" كانت من بطولة الفنان الراحل الكبيرسليم البصري والفنانة الكبيرة سهام السبتي التي تعيش الآن في سيدني، وحمودي الحارثي، يظهر بطريقة مدهشة كيف كان الحاج راضي الطالب في مدارس محو الامية العراقية آنذاك في سبعينيات القرن العشرين، وهو يقترف المعرفة متحايلا على الأمية بكل ما أوتي من حجة وطريقة لكي يبدو عالما بفك حروف الرسالة.

والحاج راضي سليل المحلة العراقية البغدادية الأصيلة، ورمز من رموز التعايش والتكافل والتكامل المديني، فهو حلاق المحلة الفطري وملح حكايتها في مدارس محو الأمية، تلك الحملة التي روجتها الدولة العراقية في مرحلة عافيتها لطرد الامية، ربما لأسباب متعددة، ولكني معنيّ في هذا المقام في تتبع درس الامية ومحوها في حياة المجتمع العراقي.

..............

 يوم كان الحاج راضي يتهجأ حروف رسالة الشاب العراقي المسافر للدراسة في الهند، وأمه متحرقة لسماع أخبار أهل الهند ولهفتها مع كل حرف يتلكأ الحاج راضي في لفظة وكلمة لا تعني شيئا سوى محاولة في المكابرة على إدراك المعنى المشرق في حروف الرسالة .

حجي راضي يواصل كبرياءه ليبث خبر الطمأنينة في نفس المتلقي "الأم" بالأماني كأنه لص شريف يريد أيصال الرسالة الى خواتيهما.

...........

اليس من المفارقة أن يأتي المكتوب المرسل من الهند، وما تعنيه الهند في المخيال الشعبي العراقي، بيد أم متلهفة لقراءة المعنى وصولا الى الإطمنئان، لتصل الى طالب – شيخ- في محو الأمية .. لا شك أنها صنعة درامية عراقية تريد ايصال المعنى بشفرات متعاقبة، تتقاسمها شهقة وقلق الأم مع كل كلمة يتعثر فيها حجي راضي، وبطريقة مرحة وتلقائية يرمم الهفوة اللغوية كتابة ومعنى، بجبر خاطر الأم بترفع انساني اجتماعي .

......................

 الحاج راضي رمز التلقائية العراقية لا يستطيع اشباع لهفة الأم لاخبار ولدها البعيد، لأن الأمية ليست خيارا ولا قرارا ولاطقسا، انها واقعة القول المجانب للحروف والمعاني، لقد أدرك الحاج راضي وبسليقته الشعبية العارمة فشله في إيصال المعنى الحقيقي فتوارى بكبرياء الشوق الى المعرفة ليفسح المجال لتلميذه أن يقرأ الرسالة دون شفرات ويصل الجميع الى المعنى الحقيقي للرسالة ولمرسلها.

الأم الذي بددّ قلقها تلميذ الحاج راضي في محل الحلاقة " حمودي الحارثي" تمثل تأويلاً لسطوة المعرفة على الجهل، وتعني ايضا اشراقة العقل في تغليب النور على الظلمة وإن اختلفت المقامات اجتماعيا واقتصاديا .

.....................

الفتى "حمودي الحارثي" صانع الحاج راضي، بادله الدور بكل حنكة في الجرح والتعديل، دون انتقاص لمهابة ولا غلو وغرور ...

المرسل اليها " الأم" غالبها الفرح والإطمئنان فزادها العلم تطلعا وبحثا عن منابعه، ولكنها لم تشمت بمحاولات فض بكارة الرسالة، ذهبت بفرحها ولم نشعر بحضور الألم ولا آثاره على خارطة القلوب واقعا ومكانا وزمنا.

عادت الحاجّة فرحة بأخبار ولدها من الهند، وعاد الحاج راضي وحمودي الحارثي الى النص والواقع لتخليد حوارية عراقية مفعمة بالتبادل الحي، بالجمال .

المشهد التمثيلي في – تحت موس الحلاق - صار واحدا من مدونات الحوار العراقي والفرجة المرنة، لم يعد الحلاق وموسه مصدر سطوة وقوة، بقدر ما كان الحلاق وموسه تحت رحمة المعرفة ولهفة التلقي .. وبقي الحلاق مصغيا خارج الموس وسطوته على الرقاب المنحنية تحت رحمته .

..................

في المشهد العراقي الآن رطانة مجتمعية هائلة، طنين، دوي، سعار، غابة لا أسد فيها ولا تاج . الرسائل عاطلة عن الوصول، فضاء الإتصال مفخخ بالنوايا.

الحاج راضي قضمته سكة القلب من زمان الأمس واستراح من العراق الآن، حمودي الحارثي أكل الشيب فروة رأسه، وسهام السبتي تتذكر أيامها الذهبية في المغترب الأسترالي .

أيعقل أن يكون العراق موزعا في ثلاثيات لا تنتهي ..

المعرفة والجهل والتجهيل، التجهيل آفة مجتمعية جديدة حلّت علينا بكامل القسوة، حملت راياتها وبثت رسائلها عنوة علينا، نحن أهل الدار، تناهبتنا الرسائل المشفرة والمرسلون الاشباح والأقدار،.

لا حجي راضي يقوم من الأموات، ولا الأمهات تفرح بأولادها من الهند الى بغداد.

العراق طلاسم جديدة نحتاج الى محو أميتها المبتكرة بالكثير من القلق ..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم