صحيفة المثقف

الوسط المعاش.. وآليات التفكير النقدي

لقد أثبتت الأبحاث الطبية في العالم اليوم أن حليب الحمير "الأثان" هو الأغنى والأغلى عالميا، نافية بذلك تلك الصورة النمطية المتداولة عنه في المواريث الشفهية العربية، شأن المثل المغربي القائل: "بحالك بحال حليب الحمارة ما ينفع ما يضر" وهو مثل يضرب في من لا يرجى نفعه؛ لذلك تمّ تشبيهه بهذا الحليب، الذي ذنبه أنه لم يجد البيئة السليمة للبحث والتنقيب عن أمور على مرمى من أعيننا وتحيا أمامنا. والغريب أننا نكتفي بالانبهار والدهشة الطفولية عندما يتم كشف النقاب عنها، والأدهى والأمر أنها تغلّف بأمثلة شعبية مجهولة النسب لا تستقيم على نهج علمي رصين، ويتم تبنّيها دون تفكير نقدي حتى يظن أنها من المسلمات/ المقدسات. وهذا في رأينا، به ما به من تكليس للعقول وشبه جبر لها على أن تتنفس فن التبخيس، خصوصا وأنها تجد فتاوى مَثَلية شعبية، تلفظ بها إنسان في سياق معين يستقم ولحظته المُعاشة؛ بمعنى أنها من رحم تجربته الخاصة ومعاييره التي لن نخوض في تفاصيل صوابها من عدمه. فقائلها يبقى مجهولا، وكلامه هذا الذي استمرر لأسباب يطول شرحها لا يعنينا، بقدر ما يعنينا النبش فيه والتأكد من صحته علميا حتى لا نبقى حبيسي جهلنا بدعوى " قالوا ناس زمان".

للأسف البحث العلمي اليوم، وفي جملة من المجالات، يؤكد أننا لسنا على ما يرام، نستهلك أمور كثيرة دون إعمال آليات للنقد العقلاني، كان بالإمكان هذا المثل (وشأنه  شأن كثير من المواريث الشفهية الأخرى) أن يغدو إشكالية بحثية في المختبرات الوطنية، وفرشا نظريا لها، غير أن ضيق الأفق، والرؤية المنزوية التي لا تعيش مُحيطها تبقى المشكل، هناك سكيزوفرينة مستشرية لدينا، نؤمن بالعلوم داخل المختبرات، غير أن خارج هذه المختبرات نُمسخ إلى أشياء أخرى تؤمن بكل ما يقال ولا ترى فيه بعين الفكر، أنه فعلا يستحق مِجهرا، اسمه مجهر الفكر والنقد.

لنعد إلى موضوعنا، فحماسة القلم تجرنا إلى الحديث عن أمور كثيرة ومتشابكة غير أنها بلغة العلم يصدق فيها القول أنها مترابطة، المهم أن حليب الحمير "الأثان" ومن خلال حديث الدراسات العلمية الحديثة، تأكد أنه ذو جدوى ومنفعة على مختلف المناحي الصحية (علاج أمراض الجهاز التنفسي، تأخير علامات الشيخوخة والحفاظ على الرشاقة) والاقتصادية (الثمن الباهظ لهذا الحليب ولجبنته...)، وطبيعي أن يغدو الإقبال عليه شديدا في بعض الدول الأوربية ودول البلقان، وتركيا...وغيرها. غير أن الإقبال الذي نرجوه نحن من هذا المقال ليس هو الترويج لحليب دون آخر، بقدر ما هو الحث على أن ننظر لما يحيطنا برؤية أخرى مخالفة، رؤية نقدية تؤمن بقدرة الإنسان المغربي خصوصا والعربي عموما على النهوض والمضي قدما، انطلاقا من مواريثه، لكن بعيدا عن عقلية التقديس. فالعلوم الحقيقة، هي تلك التي تأتينا بالفارق، وتلك التي تجعل من محيطها مختبرا تفكر في أشيائه بعين علمية جادة، بعيدة كل البعد عن لغة التعالي والزخرفة الطاووسية.

 

أكثيري بوجمعة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم