صحيفة المثقف

تراجيديا مدينة: مشروع زيد شهيد السردي.. العلاقة بين الموقفين النقدي والحضاري

jamal alatabiصدرت (تراجيديا مدينة) للروائي زيد الشهيد عام 2014،عن المؤسسة العربية  للدراسات والنشر، الرواية تجربة حياتية، مصدرها ما عاشه الروائي ورآه، بل  اكثر من ذلك ما عاناه، وما ترسب في ذاكرته..

التقط احداث الرواية في المكان المعلوم (السماوة)، مدينته التي يوظفها كجزء من مشروعه السردي، والسماوة عالم شديد الثراء والخصوصية، وظّفه الروائي ليمزج الماضي بالحاضر، والموضوعي بالتاريخي، ليقدم تجربة مشوقة للعلاقات الانسانية على المستويين الاجتماعي والحضاري بما فيهما من صراع وتوافق. فجاءت روايته غنية بالاحداث والوقائع التاريخية بشخصياتها الحقيقية في اغلب الاحيان،  وبالرغم من أن البناء السردي تضمن عناصر عديدة واقعية، بسيطة ومركبة ومتخيلة، الا أن الشهيد حافظ على صدقه الفني، لذا خلا البناء التعبيري للرواية من الغموض في الصياغات الجمالية، لم يلجا الكاتب الى الاسطورة أو الرموز الحديثة المبهمة، مبتعداً عن التعقيد، فراح يبني شخوصه من اعماق المدينة، وينسج احداثها من جزئيات حياتها، ويحرك هذه وتلك وفق اتجاهات الرؤية الشاملة التي تصوغ من العمل الفني موقفاً حضارياً.

كان يمكن أن تظهر الرواية منذ مشهدها الافتتاحي، وكأنها تنطوي على امكانية معقولة للسير بالسرد نحو الكشف عن ملابسات حادث قتل شنيع وغامض  لسلطان شاهر في داره، ومتابعة ملابساته ودوافعه، ومعرفة مرتكبيه، لكن زيد الشهيد اعطانا استهلالاً ليؤكد لنا انها لن تكون كذلك، سوى اعتقال نجل المجني عليه الشاب يوسف الذي اتهمته الشرطة بقتل ابيه، فراح الروائي يسجل الانعطافات والتحولات الفكرية والاجتماعية، والتبدلات السريعة التي طرات على مواقع القوى والافراد، والتغيرات والاحداث السياسية والانقلابات العسكرية التي شهدتها الحياة العراقية بنموذج المدينة (السماوة)، دوّنها الشهيد تسجيلاً فنياً ممتعاً باعتماد التقنية السينمائية، في التقطيع السردي، والرجوع للماضي، واللقطة السريعة، كما اتسع فضاء الرواية لأكثر من صوت، الأنا أو الآخر الغائب، وتفاوتت مستويات السرد، واغتنت بتلون الوان الحياة، مجسداً احتدام الصراع الاجتماعي والسياسي ومصير الابطال والفشل الذي انتهوا اليه. والكشف عن أدق فترة من تاريخ العراق المعاصر، بدءاً من اربعينيات القرن الماضي وانتهاءً بستينياته، تاريخ القلق السياسي، والتغيير، بانتباه روائي خاص ودقيق. الشخصية الرئيسة في الرواية هي شخصية المصور ناصر الجبلاوي الذي يتسلم خيط السرد منذ البداية حتى النهاية، متضمناً عُقدا عديدة (يوسف، شميران، شتيوي الياور، شراد هديب، بائعة القيمر، أم موسى المناضلة بنت المؤمن، مفوض الشرطة رشاش جاسب، صاحب السينما عبد الستار الامامي، طرزان الخزاعل، جسر السماوة، نادي الموظفين، السوق المسقف، فندق الصحراء، قطار الموت، سائقه النبيل عباس المفرجي الذي انقذ حياة المئات من السجناء، وغيرة ابناء السماوة لنجدتهم)، مجتمع قائم على احلام الصورة التي تسجلها عدسة ناصر، لتتحول الصورة الى مرتكز اساس في تراجيديا المدينة، لذلك تدور العدسة داخل الشخصيات اكثر من خارجها، وفي قاع المدينة، لا لأن الجبلاوي يعي المأساة الحقيقية الكامنة فيها، انما يكتفي بعرض هذه الصور في الواجهة الزجاجية للاستوديو لتحكي حياة المدينة. وارخنة الاحداث الثلاثة الرئيسة في الرواية وهي جريمة القتل، وبناء السينما الوحيدة، والكشف عن القاتل ونهاية المتورطين في حادث القتل، ناصر لا يسجل مدينة فاضلة في الخيال، انما يحكي قصة الصبر والاناة في امكانية هذه الحياة في الواقع، الذي اضحى كابوساً.

لم تقتصر حرفة ناصر الجبلاوي على التصوير الفوتوغرافي، انما تعدّى ذلك الى السينما، العالم الذي جمع سحر الصورة وتاجيج المخيلة، وكان لعبد الستار الامامي الشخصية الميسورة الحال المتنورة، الفضل في تأسيس الوعي بهذا الفن، والسياسي بين ابناء المدينة، وبين الشباب منهم على وجه الخصوص، متحدياً السلطة بعرض افلام مصرية تندّد بالاستعماروالعدوان الثلاثي على مصر عام 56، لتندلع مظاهرات الاحتجاج منطلقة من قاعة السينما تجوب شوارع المدينة، كما أن جيلاً من الشباب بدأ يتأثر بسلوك وملابس وعادات وحركات الممثلين التي تعرضها الافلام الامريكية، فكان مجيد ونجم، طرزان الخزاعل مثَلين متميزين في هذا التأثر، (الدخول الى السينما يعني الدخول الى جنة الاحلام، أو دعوة الى قاموس حياة يزودك بما تتمنى، حضور السينما جسّد الانتقال من ضفة رتابة تكدس جهلاً كاتماً وعتمة لا تنتهي، الى ضفة نور وهّاج يضيء درباً يمنح بهجة بلا حدود، ويهب متعة بلا قيود ص 114). في هذا الفصل من الرواية راح زيد الشهيد مستغرقاً بإطالة لم تثرِ الرواية، وهو يستعيد اسماء الممثلين واسماء الافلام العربية منها والاجنبية، وعرض تفاصيل احداثها وموضوعاتها.

تستقطب شخصية يوسف اهتمام الروائي منذ أن تعرّض لتعذيب سجانيه، سواء من قبل الحرس القومي بعد انقلاب شباط، أو اثناء اتهامه بحادث قتل ابيه، فأين تكمن ازمة يوسف؟ هل تتجسد في قصة الحب المتخيل لشميران التي ايقظت في روحه ولع القراءة وملازمة مكتبة المدينة العامة، بعد أن التمسته بإعادة مقدمة ابن خلدون الى المكتبة، هذا الفعل الدراماتيكي الذي شكّل انعطافة حادة في طباع يوسف ووعيه الثقافي ليقوده الى اختيار فرع الاجتماع في دراسته الجامعية، أم في انتمائه للمدينة التي منحته الخيال الجامح في الحب، يختلق الاحداث اختلاقاً ليرويها بأسلوب يشي بالصدق والانفعال في ذروة هيامه بشميران، أم في لا انتمائه وغربته التي تعمقت بخلل عقلي تحت وطاة التعذيب؟.

إن نهاية يوسف تذكرنا بضياع رفاهة عيش البطل، فاختزل الكاتب بطله وتهمّش وارتد نظره عن الرؤيا  والاستشراف، وهو الكائن المثقف الذي تخشاه السلطة، يوسف بدا عاجزاً عن التعامل مع الاشياء والناس حوله، حتى شميران تراجع خيالها، وتراجع هو الى دواخله هارباً من العنف واللا معقول في حياته.

حكاية المدينة تشير الى ادلة تشترك جميعاً في الادانة وتقدمها بشواهد متسارعة، مقتل بائعة القيمر التي شهدت الحادث، موت المفوض جاسب رشاش بمرض السرطان، مقتل شتيوي الياور شريك شراد هديب في مقتل سلطان شاهر الذي مات في فندق الصحراء، بعد أن اسرّ لعبد الله العساف صاحب الفندق بفعله الشنيع، وبنفس المستىوى تتساقط صور هؤلاء من واجهة الاستوديو، ليعيد ناصر الجبلاوي  تعليقها على جدارمختبر التحميض، لتختفي في عتمة حالكة وكانهم يغرقون في بحيرة دماء قانية وقد بدت وجوههم شاحبة وعيونهم تطفح بالأسى ص 288. ويوم يموت الجبلاوي فيباع الاستوديو ويغلق محله لا يبقى من إرثه سوى ما صوّر وما ارّخ. والمفارقة أن الجبلاوي مات عام 2017 بعد أن قارب المائة عام من العمر، حسب ما ذكره لي احد اصدقائي في السماوة، ترى هل ظل إرثه كما توقع الروائي؟

حياة عريضة كتبها زيد بدقة متناهية بالارتكاز الى وضعية المكان ووصفه، ليخلق مستوى خاصاً بها للنظر الى العالم الذي تحكي عنه، بنمطين في البنية السردية: التقاط الصورة ومن ثم اخفائها لتوليد المدلول الترميزي للحدث.

هل نسمح لأنفسنا بالقول أن تراجيديا مدينة توجهت بالوعي النقدي الذي صاغته الى المثقف؟ أم هي تعبير عن حال آخر اشمل وأعمّ؟ هو مأساة المصير الانساني الكبرى، مأساة الوجود التي انعكست على البناء الاجتماعي للافراد، وبتساؤل كذلك، هل انتهت الرواية بتفاؤل وأمل في مستقبل؟ باختزالها زمناً من معاني القمع وسطوة السلطة. هل يمكن القول أن الشهيد اختار مدينته لتشبه الى حدٍ ما ثقب الحائط في (جحيم) باربوس الذي يراقب من خلاله العالم كله.

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم