صحيفة المثقف

الكتابة بعد التقاعد

solayman omayratيحال الكثير من العمال والموظفين سنويا على التقاعد وهم يحملون في جعبتهم تجربة معتبرة وخبرة قيمة، ولكن تجربتهم تلك تذهب سدى كالغبار يطير مع الرياح العاتية، فلا ينتفع بها غيرهم من الجيل الذي يليهم ويتكل عليهم.

في أحد أيام العام الماضي كنت أمام التلفاز لمشاهدة فيلم بوليسي أمريكي مثل غيره من الأفلام، ولكن في لحظة ما أثر في موقف وبقيت أردد كلماته لأصدقائي طول الوقت حتى تسنت لي فكرة كتابة هذه الأسطر، كان المشهد عند إقالة ضابط شرطة من منصبه ليحيل على التقاعد لأنه كان يتابع قضية ذات صلة سياسية، ولما غضب الضابط لسماع خبر التقاعد وأنه لا يعرف أين يذهب وأين يمضي وقته براتب ضعيف، قال له رئيسه اذهب وأكتب كتابا ثم أنشره، عرفت حينما سر نجاح هذه الأمة ولماذا تفوقوا علينا، لأنهم استفادوا من خبرات سابقيهم مهما كانت بسيطة وأسلوب كتابتها الضعيف، فالتجربة الصغيرة لا تذهب سدى إنما تخط على الورق فتجد من يقرأها ويستفيد منها طبقا.

لهذا، أقول وأنصح كل متقاعد في الجزائر بصفة خاصة والعالم العربي بصفة عامة، من له تجربة ثرية أداها في عمله بجد وجهد، عليه البدء في كتابة خبرته أو مذكراته المهنية دون تردد، خاصة إذا كانت بها مناهج وطرق العمل من تقنيات وأساليب الصنع والانتاج، سواء الكتابة الصحفية أو الأدب بأشكاله أو التعليم بأطواره أو الشغل بالمؤسسة الصناعية وورشات البناء وكذا طرق تنظيم العمل والمصاعب أو المشاكل التي يتعرض لها العامل وكيفية حلها. وسواء عمل الطبيب والمحامي والموثق والقاضي والشرطي والإداري كلها تحتاج إلى كتابة ونشر، هذه المذكرة أو التقنية والدليل العملي تؤثر جميعها على جميع الناس وتنفعهم في حياتهم العملية والنضالية في الأحزاب أو الجمعيات أو غيرها، وهي أفضل من مذكرة سياسي كبير أو رئيس أو جنرال بالجيش أثناء الحرب، لأن الخبرة العسكرية لجنرال متقاعد مثلا لا يستفيد منها إلا قليل القليل، وقد كثرت مذكراتهم في السنوات الأخيرة في العديد من الدول فهي لا تهم سوى العسكريين ولا تنفع سوى الضباط الساميين وفي مواقف محددة، أما خبرة الإطار المتقاعد تنتفع منها شريحة عريضة من المجتمع  ويحتاج إليها جميع العمال والموظفين ولو كانت خبرة صغيرة في التقنية أو البناء أو الدهان والتركيب والصيانة.

وأوجه دعوتي إلى أولئك المتقاعدين المثقفين للكتابة عن خبرتهم في أوراق مسودة أو تسجيلها سمعيا ثم إيداعها إلى كاتب يترجمها في أسلوب لغوي راق، ومن يستطيع الكتابة قليلا عليه أن يسلمها إلى متخصص في اللغة لمراجعتها وتهذيبها ولو مقابل مبلغ مالي، ثم يقدمها إلى الطبع والنشر.

ولمن أراد خوض هذه المغامرة بنفسه أقدم له بعض التوجيهات في الكتابة على الأقل وأترك أمر الطبع والنشر لمن له تجربة في المجال ودعوات دور النشر، خاصة لمن لهم اهتمام بهذا النوع من الأعمال الذي سيلقى رواج كبير مستقبلا.

في البداية أريد أن أعلمك أخي القارئ المتقاعد أنني شخصيا مررت بتجربتين، الأولى في انجاز عمل عن تقنيات المشاريع الجزائرية في كتاب بالفرنسية نشر بفرنسا، والعمل الثاني يوجد على الكمبيوتر الخاص ويحمل تجربتي من داخل الشركة يتضمن العلاقات بين العمال والمسؤولين وكذا الخبرة النقابية والإضرابات وسلوكيات العمال والموظفين وغيرها من الأمور الهامة والمهمة لكل عامل بمؤسسة عمومية.

وعليه، فالمنطلق سليم والعمل مفيد يمكن للقارئ المتقاعد أن يستفيد من هذه الأسطر والتوجيهات مع البدء في تخطيط مذكراته التي تكون أكثر تقنية وعملية وليست مناهج دراسية ولا أحداث شخصية بحتة، وعلى كل من يريد كتابة مماثلة أن يتجنب المدح والذم في الأشخاص والمدراء وغيرهم كي لا يحول كتابته إلى انتقام، وتكون بداية الكتابة من احترام الخطوات التالية حسب الترتيب:

1. اجعل الكتابة هوايتك الأكثر ممارسة وتعلق بها لأنها متنفسك الوحيد بعد التقاعد ترى فيها نفسك ونجاحك، إذ منها تمضي وقتا مربحا ونافعا، تعيش لحظات من الماضي وتستعيد أفضل الذكريات، فتجعلك تخطط جيدا لمستقبلك أفضل، فالحياة بعد التقاعد تحتاج إلى عيش مطمئن وسعادة مستقرة ومستمرة، فما زال أمامك عمرة وحج وعلاقات مع الأصدقاء بالمقهى أو المسجد وخدمات تطوعية بالحي ومع الأهل، سواء المهنية أو السياسية أو بالجمعية  أو الثقافية، فلا تظن أن الحياة تتوقف مع التقاعد.

وقد تسألني لمن ولماذا أكتب؟ أقول.. أكتب للشباب كي لا يقع في نفس أخطاء الماضي وتساهم بذلك في تقدم شباب بلادك ومن لم يشكرك يدعو لك بالخير، أكتب لأنك بحاجة إلى الكتابة، منها تعرف قدراتك الفكرية واللغوية وقوتك العقلية والشخصية من تجاربك الماضية، وحتى تدرك أن الكتابة هي الحياة بعد الموت.

الكتابة بعد التقاعد نوعان، الأولى تتلخص في كتاب حياتك أو تجربتك المهنية على أي شكل أردته، أدبي، علمي أو تقني. والثاني في كتابة مقالات صحفية في اختصاصك تنشرها كل شهر أو كل أسبوع بإحدى الجرائد الورقية أو الإلكترونية، فكم من كاتب نجح في الكتابة بعد سن الستين وتحصل على جوائز، وقد ترى الأمر صعب عليك في البداية لكن الحقيقة عكس ذلك، فالأمر هين وسهل عند تجاوز عقبة التفكير إلى الواقع والممارسة الفعلية، فقط إبدا وتعلم تقنيات الكتابة، ثم مارسها بكثرة وتمرن عليها من حين لآخر.

2. مارس الكتابة يوميا على طريقتك كي يتحسن أسلوبك ولغتك، كلما كتبت عن أمر تعرفه جيدا وتكرر الكتابة يوميا كلما تحسنت إلى الأفضل وقوي أسلوبك، ولا تخف من رداءة الكتابة في بداية مشوارك، فقط حاذر وكن يقضا فلا ترسل موضوع للنشر قبل مراجعته والتحقق من جودته أو على الأقل قبوله من طرف الصحيفة ويتماشى مع سياستها، ورقية كانت أم إلكترونية، وكي تكتب جيدا بأسلوب راقي ومؤثر حاول أن تتناول موضوع عشته في حياتك ولا يوجد أفضل من خبرتك المهنية، ولا تكتب من خيالك كونك لست متمرسا بالكتابة التي يتقنها ذوي الخبرة الطويلة.

3. اختر الموضوع الذي سوف تكتب عنه مقال أو حياتك المنهية، حدده بدقة، إذا أردت أن تسرد تجربتك المهنية عليك أن تقسم تجاربك إلى أجزاء في مواضيع مستقلة عن بعضها، يتناول كل منها تجربة خاصة، وعليك احترام العامل الزمني في ترتيب مواضيعك، مع ذكر المكان والزمان وأسماء الأشخاص ولو بالرمز أو الوظيفة فقط، ويجب عليك أن تضع خطة لكل موضوع قبل أن تباشر في سرد تفاصيله من أحداث ومواقف.

4. الانسان الذي يقرأ كثيرا في الكتب والمجلات والصحف يكون له مخزون من الأساليب والألفاظ واللغة الفصحى، يحتاج إلى إخراجها على الورقة لتعرف النور إلى القارئ، لهذا فعندما تمسك الورقة وتبدأ في السرد لا تهتم بقوة اللغة وحبكتها ولا تهتم بجودة الكتابة، أفرغ أفكارك على الورقة بطريقتك، دوّن قدر استطاعتك دون أن تتمادى وتكتب ما لا ينفع، ثم أعد مراجعتها وصياغتها من جديد بطريقة جيدة ونقية من الأخطاء الفاضحة، اختر لذلك الوقت المناسب، في هدوء وراحة، أي بعيدا عن ضوضاء المقهى أو التلفاز أو الأطفال، ولا تراجع بعد تعب وارهاق، لا تجعل وقتا طويلا بين الكتابة الأولى والمراجعة كي لا يؤثر ذلك على أفكارك وتحاول تغييرها بأفكار جديدة تفسد مقالك وتوتر فكرك وتجعلك في حيرة من أمرك الذي قد يؤدي بك إلى التخلي عن الموضوع كله، لهذا يمكنك أن تغير أسلوبك لكن لا تغير أفكارك. حاول أن تبدأ مشوارك بكتابة مواضيع بأفكار جاهزة في ذهنك وتجربتك الخاصة التي أثرت في حياتك المهنية أو الاجتماعية إيجابا وقد أحببت تلك المواقف وتعتبر فخرا لك.

5. لا تبدأ بتدوين العنوان كي لا يشوش عليك أفكارك ويحيد بك عن الموضوع الذي اخترته من البداية وعن الخطة المسطرة، وإذا دخلت في الكتابة حاول ألا تتوقف وأنت منغمس في سرد أفكارك من أجل المراجعة والتحقق من بعض الألفاظ أو الأسلوب الذي قد يؤدي بك إلى الاحباط، أبقى على سرعتك في السرد، متزن غير مشوش الذهن، ويمكنك أن ترمز إلى الأمر الذي شد انتباهك بعلامة للرجوع إليه بعد الانتهاء من الكتابة.

6. تعلم الكتابة على لوحة المفاتيح للكمبيوتر، ودوّن الموضوع بملف على الجهاز، عليك التمرين على سرعة الكتابة كي لا تمل الأمر وتفشل، وعليك اختيار الخط العريض في ابراز العناوين الرئيسية، أطبع منه مسودة، ثم قم بمراجعة الأخطاء الإملائية بعد الرقن على الكمبيوتر، وقم بانتقاء الألفاظ المعبرة والكلمات المؤثرة قبل أن ترسل المقال إلى الصحيفة للنشر أو تسجيلها بالملف للانتقال إلى الموضوع الموالي من كتابك.

في الأخير أنصح كل من يرغب البدء في كتابة تجربته أو دخول عالم كتابة المقالات الصحفية أن يعتمد على الممارسة والتكرار، فالمثابرة هي السبيل الوحيد للتطور والتحسن وعليك أن تقرأ مقالات عن الكتابة الصحفية وخطوات كتابة المقالات والبحوث وكذلك بعض كتب الأدب العربي وكتب اللغة.

 

سليمان عميرات

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم