صحيفة المثقف

السيد محمد باقر الصدر ما بين المعرفة والتفلسف وبين الأدلجة والتقديس (1)

تنبيه: كتبت هذه المقالة بطريقة تستجيب لمزاج فئتين من القراء، فالفئة التي تميل للاختصار والإيجاز ولا ترغب في الاسترسال بالتفاصيل لأي سبب من الأسباب، يمكنها الاكتفاء بقراءة متن المقالة فقط، أما الفئة التي لا تجد في المتن ما يسد حاجتها وترغب في معرفة المزيد فيمكنها اللجوء إلى الملاحق والهوامش.

أولا: بودي أن أشير في البداية إلى أنّي أهدي هذه المقالة إلى الدكتور العزيز " علي المرهج " لأنّه يستحق ذلك أولا، وثانيا: لأنّ ما حفزني على كتابة هذه المقالة هو نص كتبه الدكتور على صفحته الشخصية في الفيس بوك، حيث كتب هناك:

(لم تكن لدي النية يوماً ما للكتابة عن السيد محمد باقر الصدر، لا لأنّه لا يستحق، بل خشية مني لتوصيف الكتابة عنه مع أو ضد لأن المتأسلمين قد نجحوا في نقله من خانة المعرفة لخانة الأدلجة ومن خانة التفلسف لخانة التقديس، وإن كنت أظن أنّ صفة الفيلسوف التي وسم بها السيد باقر الصدر تعطينا فسحة للتأمل في فكره نقداً وتأويلاً ليكون خارج الخانات في فضاء المعرفة الحر. لذلك سأكتب عنه بصفته الفلسفية خارج التقديس والأدلجة وكسراً للأطر والسياجات الدوغمائية المغلقة. في ذكرى إستشهاد السيد محمد باقر الصدر الذي ضحى بدمه الزكي وعقله الذكي من أجل العراق فلم يعطه العراق لا حقه الإستشهادي سياسياً ولا حقه الإستشهادي معرفياً، فإستغل تضحيته كثير من الفاشلين والمدعين أنه منهم وهم منه ممن لم يقرأوا له كتاباً أو حرفاً كتبه ليجعلوه سلماً لإرتقاء مجد السلطة. كرس السيد الشهيد حياته في النضال الفكري والسياسي وسواء اختلف معه البعض فكرياً وعقدياً إلا أنّه لا يختلف معه عاقل على قيمته وفاعليته وتأثيره سياسياً وفكرياً. كتب السيد باقر الصدر فلسفتنا وإقتصادنا ومجتمعنا ورسالتنا وكل هذه الكتابات تحمل ضمير الأنا وكأنّه رد فعل آيديولوجي على تغييب الآخر للأنا. الآخر الغربي رأسمالياً كان أم إشتراكياً. ركز الصدر على الفهم الفلسفي المادي للحياة، فالنظام الرأسمالي مادي بكل ما للفظ من معنى كما ذكر في كتابه فلسفتنا ص٢٨. وليس لي في قراءتي للبراجماتية التي سعى فلاسفتها للجمع بين المادي والروحي ما يؤيد هذا القول وهي جذر تأسيسي للرأسمالية وما فكرة المصلحة والمرادفة بين الصادق والنافع وليس للنفع قيمة عندهم إذا لم يدعم تأكيد أهمية الفعل الروحي حينما يقدم طمأنينة للإنسان لأنه نافع لذلك فهو صادق. ولم يكن التفسير المادي للتاريخ عند الإشتراكيين سوى رد فعل على الذين جعلوا من الدين " أفيوناً للشعوب" ومخدراً لهم ينسيهم قيمتهم وفاعليتهم في التغيير لأن مهمة الوعي "التغيير وليس التفسير"، وما كان سعيهم لإلغاء الملكية الخاصة وتمليك الثروة كلها للمجموع غير سعي لتخليص الطبقات الفقيرة من هيمنة الطبقة الرأسمالية المحتكرة لرأس المال ولوسائل الإنتاج والمهيمنة على فائض القيمة الذي هو حق حقيقي للعامل، وإن كان مأخذ السيد باقر الصدر على الماركسيين أنّهم لم يستطيعوا تطبيق رؤاهم حين قبضوا على مقاليد الحكم، ص٣٧ فلسفتنا، فهذا مأخذ على كل الإسلاميين الذين قبضوا على الحكم على طول تاريخ تشكل الدولة الإسلامية ولا يخص جماعة سياسية حاكمة بعينها. وما قول الماركسيين بدكتاتورية البرولتاريا بمأخذ عليهم لأنّه في وقته كان محاولة لإسترجاع حق مظلوم من ظالم. وإذا كان السيد باقر الصدر يجد أنّ هذا النظام لم يحالفه الحظ ص٤٠ فلسفتنا في تشخيص الداء لأنّه يقضي على حريات الأفراد لصالح الجماعة ويحتاج لمعجزة تخلق الجنة في الدنيا، فإن نظام الحكم الإسلامي تاريخياً وواقعياً عجز عن تحقيق الجنة في دنيانا وبقينا نحلم في الجنة العلوية... يرى السيد الصدر أن العلاج الشيوعي للمشكلة الاجتماعية ناقص، ص٤٣ فلسفتنا وأن المشكلة لم تنشأ من الملكية الخاصة، وإنما هي وليدة المادية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، ص٤٤ فلسفتنا، وهي الأساس الحقيقي للبلاء الاجتماعي وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وكرامته. ص٤٥ فلسفتنا، ولا أعرف الكيفية التي قاس بها السيد سعادة المجتمعين الرأسمالي الديمقراطي الفردي والإشتراكي الديمقراطي الشعبي، فكلا التجربتين رغم المعوقات والإعتراضات أنتجتا سعادة لشعوبهما أكثر وأبين من السعادة التي نحن فيها هذا لو كانت مرت علينا السعادة ولو بالحلم. في مجتمعاتهم حب وتوق للحرية وإحترام للقانون وتقدير لحقوق الأقلية والمرأة لم نستطع تحقيقها عبر كل لحظات تاريخنا الذهبي حينما كنا نحن صناع الحضارة. أما أن يقيس السيد الصدر رؤيته لإسلام قرآني ذهني لا تاريخي يجمع كل محاسن الرأسمالية والإشتراكية الشيوعية ويأمل بأن يكون هو الحاكم والحكم، فذلك ما نتمنى أن يكون واقعاً معاشاً في حياتنا وحياة إسلاميينا الذين لم نجدهم قد عاشوا الإسلام الذي فهمه وحلم به وناضل من أجله السيد باقر الصدر، الإسلام الذي "يتنكر للمكاسب المادية المحدودة، إسلام يولد فيه الإنسان لا يحب ذاته إلا بإعتباره جزءاً من المجتمع، سعادته من سعادة المجموع وأن سعادته تنبثق عن مبدأ مطلق هو الله ورضاه عنه الذي وحد دين الإسلام فيه " بين المصلحة الفردية وعوامل الخير والسعادة للمجموع"، التي يضمنها الدين للبشرية التائهة. ص٥٥ فلسفتنا. ياليتك كنت معنا اليوم سيدي لترى ما فعله بنا كثير من مدعي تبني مقولاتك اليوم..من الذين يدعون أنهم ساروا ويسيرون وفق فلسفتنا وإقتصادنا وإسلامنا، لكنت أنت أول المناهضين لهم. رحم الله روحك النقية حينما كنت شاهد الأمة وحين صرت شهيدها... وللقول بقايا..). (1)

ثانيا: يشتمل هذا النص على العديد من الأفكار التي أتفق مع معظمها وأحاول تدعيمها في هذه المقالة، وأجد أنّ بعضها ربما هو بحاجة إلى المراجعة والمزيد من البحث والتحقيق.

أ - أتفق مع المرهج في تشخيصه للإساءة التي تعرضت لها أفكار السيد الصدر من قبل من حاواوا أو نجحوا في نقلها من خانة المعرفة لخانة الأدلجة ومن خانة التفلسف لخانة التقديس، ذلك أنّ هؤلاء تعالوا بهذه الأفكار عن الواقع واقتطعوها من سياقاتها المكانية والزمانية، وما دروا أنّ اقتطاع الأفكار من سياقاتها يفقدها معناها الحقيقي وقيمتها الموضوعية.

ب – من الأمور التي تستحق التقدير في هذا النص هو الفصل الذي أقامه المرهج بين القيمتين الشخصية والمعرفية للمفكر وبين المضمون المعرفي من حيث كونه مصيبا للواقع أو غير مصيب، فالقيمتين الشخصية والمعرفية وإن كان للمضون المعرفي وقوته تأثيرا فيهما إلا أنّه فيما يخص القيمة الشخصية لا يعدوا كونه عاملا – على أهميته – من بين العديد من العوامل التي لها مدخلية في تعزيز هذه القيمة، وليس هو العامل الوحيد حتى إذا ما تزلزل تزلزت القيمة الشخصية للمفكر، وأما فيما يخص القيمة المعرفية فمدخلية تأثير المضمون المعرفي فيها لا يتأتى من كونه مصيبا للواقع - لتعذر ذلك بالنسبة للفكر البشري كما سيتضح فيما سياتي – بقدر ما يتأتى من دور ذلك المضمون المعرفي في الواقع الفكري والمعرفي العام ومدى تأثيره وإسهامه في تحريكه وتطويره. إنّ عدم الفصل بين القيمتين الشخصية والمعرفية وبين المضمون المعرفي من حيث كونه مصيبا للواقع أم غير مصيب هو من أكبر العوائق التي تحول دون دراسة أفكار وآراء الشخصيات التي نجلها ونحترمها دراسة نقدية تحليلية موضوعية تأخذ بنظر الاهتمام الشروط الزمانية والمكانية التي تولدت في ظلها تلك الأفكار والآراء، ذلك أنّ المفكر الذي لا يتوفر على ذلك الفصل لن يتوفر على الجرأة والإقدام على مثل هذه الدراسة؛ لأنّه يتصور متوهما أنّ الكشف عن قصور المضمون المعرفي لأفكار مثل تلك الشخصيات في إصابة الواقع يمثل إساءة للقيمتين الشخصية والمعرفية لتلك الشخصيات. وعلى العكس من ذلك تجد الباحث الذي يتوفر على ذلك الفصل يحظى بميزتين أولاهما أنّه يحتفظ لتلك الشخصيات بما لها، وثانيهما أنّه لا يضحي بالمعرفة البشرية وتطورها استنادا إلى أوهام أنّ الكشف عن القصور المعرفي يستبطن إساة للقيمتين الشخصية والمعرفية، ومن هنا تجد أنّ المرهج تناول أفكار السيد الصدر من وضع مستريح وغير مرتبك حافظ من خلاله على مستحقات السيد الصدر الشخصية والمعرفية دون أن يضحي بالصدق والموضوعية في البحث.

يقول المرهج: (وإن كنت أظن أن صفة الفيلسوف التي وسم بها السيد باقر الصدر تعطينا فسحة للتأمل في فكره نقداً وتأويلاً ليكون خارج الخانات في فضاء المعرفة الحر. لذلك سأكتب عنه بصفته الفلسفية خارج التقديس والأدلجة وكسراً للأطر والسياجات الدوغمائية المغلقة. في ذكرى إستشهاد السيد محمد باقر الصدر الذي ضحى بدمه الزكي وعقله الذكي من أجل العراق فلم يعطه العراق لا حقه الإستشهادي سياسياً ولاحقه الإستشهادي معرفياً ... كرس السيد الشهيد حياته في النضال الفكري والسياسي وسواء اختلف معه البعض فكرياً وعقدياً إلا أنه لا يختلف معه عاقل على قيمته وفاعليته وتأثيره سياسياً وفكرياً).

جـ - يشير المرهج إلى مسألتين مهمتين:

الأولى: استغلال تضحية السيد الصدر من قبل الكثير من الفاشلين والمدعين أنّه منهم وهم منه ممن لم يقرأوا له كتابا أو حرفا كتبه ليجعلوه سلما لارتقاء مجد السلطة.

الثانية: إنّ السيد الصدر لم يُنصف لا في حقه الإستشهادي سياسياً ولا في حقه الإستشهادي معرفياً.

نعم لم يُنصف السيد الصدر على المستوى المعرفي، ولا أدل على ذلك من عدم الاهتمام الواضح ببعض مؤلفاته، بل أهمها، وهو كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء "، فعلى الرغم مما يشتمل عليه هذا الكتاب من إبداعات في غاية الأهمية – بقي خارج إطار التداول في النوادي العلمية العالمية، لابل حتى خارج إطار التداول في النوادي العلمية الإسلامية. (انظر الملحق الأول)

إنّ هاتين المسألتين تثيران الشجون فعلا، ولي في ذلك تجربة شخصية، فبعد أن أكملت تأليفي لكتابي " في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر " والذي تغير عنوانه في الطبعة الثانية – التي أعددتها ولم تجد طريقها للظهور لحد الآن – إلى " نظرية المعرفة والمذهب الذاتي " (2) توقعت بعد العمل المضني لسنين عديدة أنّ جهودي هذه سوف تثمر معرفيا وأنّ الكتاب سيجد طريقه للطبع بأيسر ما يكون. من هنا بدأت الصدمة؛ ذلك أنّي لم أجد – إلا قليلا – أي سعي حقيقي لنشر الكتاب والتعريف بأفكار السيد الصدر، لا بل أنّ بعض مدعي الاهتمام، شكك – تلميحا وليس تصريحا – بالقيمة المعرفية للكتاب دون أن يقرأ حرفا واحدا منه، بل لمجرد عدم معرفته الشخصية بي. علما أنّ الكتاب يضم بين دفتيه مقالات شارك بها الباحث في بعض المؤتمرات وحاز على شهادات تقديرية. (3) من هنا وجدت نفسي مضطرا إلى أن أطبع نسخا معدودة من هذا الكتاب على نفقتي الخاصة. (في الملحق الثاني ستجد فيه أنّي أشرت إلى بعض الجهود الطيبة التي حاولت المساعدة فعلا، وخاصة جهود الأخ الشيخ حيدر حب الله الذي بارك لنا جهودنا وثمنّها وتفضل بالتقديم للكتاب، إلا أنّ الكتاب ومع ذلك التقديم من قبل هذه الشخصية المعروفة في الوسط الفكري ما زال يواجه معاناة عدم الطبع).

من غير المفهوم حقا – كما يقول الشيخ حيدر حب الله - عدم الاهتمام بهذا الكتاب لا من قبل الحوزات ولا من قبل الجامعات، بل حتى أولئك الذين لا يتفقون مع المسار الفكري للسيد الصدر لم يهتموا بنقده والرد عليه مكتفين بالإشارات العابرة إليه، والتي لا تتعدى سطرا واحدا أو بضع كلمات. (4)

ينقل الشيخ حيدر حب الله عن السيد عمار أبو رغيف أنّه قال له: لقد تعبت كثيرا وبذلت جهودا مضنية في تأليف كتابي " منطق الاستقراء "، لا سيما وأنّي قد تناولت فيه نظرية الاحتمال عند الشهيد الصدر وهذه النظرية تحتاج الى التعمق في الرياضيات، وأنّي حاولت في هذا الكتاب أن أتوسع وأن أتجاوز ما كتبه السيد الصدر في الأسس المنطقية، وقد كنت آمل من بعد إنجازي لذلك الكتاب ولو باتصال يبارك جهودي أو يقول لي أحسنتم أو شكرا لكم مولانا ... الخ، ولكني وللأسف الشديد أصبت بالإحباط ولم أجد من يشجعني ... (5)

د – لقد سجل المرهج العديد من الملاحظات على كتاب فلسفتنا للسيد الصدر، وهذا أمر طبيعي جدا بعد مرور أكثر من ستين عاما على تأليف هذا الكتاب، وأنا أعتقد أنّ المزيد من الاطلاع على حقيقة الفكر الغربي والدراسة الجادة لهذا الكتاب سوف يكشف لنا المزيد من الملاحظات، ولكن بودي هنا أن أبدي الملاحظة الآتية على بعض ما سجله المرهج من ملاحظات:

بغض النظر عن النقاش الذي يمكن أن يدور حول ما إذا كانت مؤلفات السيد الصدر التي تحمل ضمير الأنا تمثل رد فعل أيديولوجي على تغييب الآخر للأنا أم أنّ الأمر يمكن تأويله بشكل مختلف، فإنّ هناك مؤشرات يمكننا من خلال الاستناد إليها أن نؤكد على أنّ هناك تطورا نوعيا في علاقة الأنا بالآخر في المراحل المتأخرة من حياة السيد الصدر. ومن هذه المؤشرات أنّ هناك تغييرا جوهريا طرأ على طريقة التفكير عند السيد الصدر في المراحل الأخيرة من حياته، وبحسب السيد الصدر أن طريقة التفكير مع المفهوم للعالم والحياة يشكلان الركنان الأساسيان للقاعدة التي يرتكز عليها أي مبدأ – بما فيها المبدا الإسلامي – (6) وبالتالي فإنّ أي تغيير في أحد الركنين الأساسيين لا بد وأن ينعكس على المبدأ، وبما انّنا شهدنا في الأسس المنطقية تغيّرا واضحا في طريقة تفكير السيد الصدر وهو ما أشار اليه السيد الصدر بنفسه في مقدمة " الأسس المنطقية للاستفراء " كما سنوضح لاحقا، فإنّ ذلك سوف ينعكس بشكل أو بآخر على تصوره عن المبدأ الإسلامي وبالتالي على طبيعة العلاقة بين الأنا والآخر، لا بل أنّ طريقة التفكير الجديدة هي بنفسها توضح بشكل لا لبس فيه ذلك التحول في طبيعة تلك العلاقة، فبينما كان السيد الصدر في فلسفتنا منغلقا على الآخر ويستمد طريقة تفكيره من التراث الفلسفي الإسلامي الذي يعود بجذوره إلى الفلسفة اليونانية، نجده في " الأسس المنطقية " ينفتح على الآخر ويتخذ من الاستدلال الاستقرائي الذي يتبناه الفكر الغربي كطريقة للتفكير أرضية مشتركة بينه وبين الآخر. فلم يعد السيد الصدر – بحسب السيد عمار أبو رغيف – يجد عزاءً بالتغني بأمجاد السلف وبدايات الأجداد، بل أنّه اخترق جدار الفصل السميك بين المنهج العلمي الحديث وبين معطيات التاريخ الثقافي لحكماء ومناطقة المسلمين، دون أن يتردد في الإفادة من الآخرين ودون أن يستسلم فيقلد ما طرحه حكماء الغرب. (7)

ثالثا: أنا لا أفهم حقا كيف يمكن لأحدهم أن يؤمن بالنص القرآني ويقرأ قوله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 82) أن يقدس بعد ذلك المعرفة البشرية، فالمعرفة التي تستحق التقديس من وجهة نظر القرآن هي المعرفة الوحيانية وما دونها لا يمكن النظر إليه إلا من حيث أنّه يتضمن القصور والاختلافات والتناقضات. وفي ضوء ذلك الفهم فإنّ الإنسان بطبيعته لا يمكنه أن يتجاوز طبيعته ويتجاوز القصور المعرفي والتناقضات والاختلافات وينتج معرفة متجاوزة لحدودها الزمانية والمكانية وصالحة لكل زمان ومكان.

يقول السيد الخوئي في "البيان": (لقد أتى القرآن في مختلف المجالات بالحقائق الراهنة، التي لا يتطرق إليها الفساد والنقد في أية جهة من جهاتها، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها، وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة من البشر – ولا سيما ممن نشأ بين أمة جاهلة لا نصيب لها من المعارف ولا غيرها من العلوم – ولذلك نجد كل من ألف في علم من العلوم النظرية، لا تمضي على مؤلفه مدة حتى يتضح بطلان كثير من آرائه. فإنّ العلوم النظرية كلما ازداد البحث فيها وكثر، ازدادت الحقائق فيها وضوحا، وظهر فيها للمتأخر خلاف ما أثبته المتقدم، والحقيقة – كما يقولون – بنت البحث، وكم ترك الأول للآخر. ولهذا نرى كتب الفلاسفة الأقدمين، ومن تأخر عنهم من أهل التحقيق والنظر قد صار عرضة لسهام النقد ممن تأخر، حتى أنّ بعض ما اعتقده السابقون برهانا يقينيا، أصبح بعد نقده وهما من الأوهام، وخيالا من الأخيلة). (8)

ويقول السيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية: (فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنّه كتاب منزل من الله وليس من عند غيره؛ إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف، وذلك أن غيره تعالى من هذه الموجودات الكونية – ولا سيما الإنسان الذي يرتاب أهل الريب أنّه من كلامه – كلها موضوعة بحسب الكينونة الوجودية وطبيعة الكون على التحرك والتغير والتكامل فما من واحد منها إلا امتداد زمان وجوده مختلف الأطراف متفاوت الحالات. ما من إنسان إلا وهو يرى كل يوم أنّه أعقل من أمس وأنّ ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من رأي أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم وأمتن مما أتى به أولا حتى العمل الواحد الذي فيه شيء من الامتداد الوجودي كالكتاب يكتبه الكاتب والشعر يقوله الشاعر والخطبة يخطبها الخطيب وهكذا يوجد عند الإمعان آخره خيرا من أوله وبعضه أفضل من بعض).(9)

لقد أدركت البشرية بعد تجربة طويلة أنّ معرفتها تتغير وتتطور وتتكامل باستمرار، وأنّها في كل مرحلة من مراحل تطورها تمثل مرحلتها ولا يمكنها أن تدعي لنفسها أنّها صالحة لكل المراحل. (إن إحدى التحولات النفسية البديعة التي حصلت لدى العلماء النابهين المعاصرين هي أنّهم لا يحصل لديهم اليقين إلا قليلا، وفقدوا جرأة الاعتماد على التعميمات الاستقرائية، ويقولون مع أبي العلاء

أما اليقين فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

نعم إنّ التعميمات الاستقرائية يمكن لها أن تبلغ عن طريق البحث الاستقرائي درجة من الاحتمال فحسب، أما بلوغها درجة القطعية فهو تطلع لا يتحقق. بالنسبة للعالِم العلَم مظلم أمامه، ويمكنه أن يبص بمقدار ما تفتحه عيون النظريات من نافذة، والمساحة التي يمكنه الرؤية فيها هي تلك التي يضيئها مصباح الفرضيات. العلماء عميان يحملون عصا بأيديهم أو مشاة ليل يحملون مصباحا، وكلما خطوا خطوة للأمام اكتشفوا عالما جديدا، واخترعوا صورة جديدة عنه، واختراع الصور ممارستهم الخالدة. وكلما أخذت أي صورة موضعها في قلب صورة أكبر فسوف تعطي معنى آخر، وهل أنّ عمل العلم أمرا آخر غير منح عالم الطبيعة معنى باستمرار ؟ العلم يبني العالم باستمرار لا أنّه يكتشفه، ويستعين في هذا البناء بكل لون من ألوان أدوات البناء المشهودة أو الفرضية). (10)

يرى فيلسوف العلم " كارل بوبر " أنّ العلم يتقدم دائما نحو اليقين إلا انّ إثبات اليقين أمر مستحيل، إنّه يُشبّه اليقين بقمة جبل عادة ما تكون مغلفة بالسحب، ومن يحاول تسلق هذا الجبل ستواجهه صعوبات جمة، ليس فحسب في الوصول إلى القمة بل لأنّه قد لا يعرف حين يصل إليها أنّه وصل إليها فعلا، فقد يعجز عن التمييز، وسط أطياف السحب، بين ذروة الجبال الحقيقية وبين القمم الثانوية. (11)

وفي نفس السياق أكد الشهيد الصدر في " الأسس المنطقية للاستقراء " أنّ الجزء الأكبر من معارفنا نحصل عليه من طريق الدليل الاستقرائي (12) وما يوفره لنا الدليل الاستقرائي هو اليقين الموضوعي، وهو يقين قابل للزوال؛ لأنّنا نجد في أنفسنا أنّنا على استعداد للتنازل عنه اذا ما توفرت المبررات الموضوعية لذلك التنازل. (13)

إذن، أصبح (في استطاعتنا الآن أن نستغني عن اليقين، ولكن كان لا بد من السير في طريق طويل قبل أن نصل إلى موقف متحرر على هذا النحو. وكان من الضروري أن يهدم البحث عن اليقين نفسه في المذاهب الفلسفية الماضية قبل أن نتمكن من تصور مفهوم للمعرفة يستغني عن جميع ادعاءات الحقيقة المطلقة). (14)

في ضوء ما تقدم أصبح من الواضح أنّ من السذاجة النظر إلى آراء أي شخص على نحو التقديس بما فيها آراء السيد الصدر رحمه الله، ولعل مما يلفت النظر هنا أنّ بعضهم ينظر إلى كتاب فلسفتنا على نحو التقديس من دون أن يدرك أنّ السيد الصدر هو بنفسه بيّن في " الأسس المنطقية للاستقراء " أنّ طريقته في التفكير قد أخذت منحا مختلفا عما كانت عليه في كتابه " فلسفتنا " حيث قال: (ونحن في هذا الكتاب إذ نحاول إعادة بناء نظرية المعرفة على أساس معين، ودراسة نقاطها الأساسية في ضوء يختلف عما تقدم في كتاب " فلسفتنا " سوف نتخذ من دراسة الدليل الاستقرائي ومعالجة تلك الثغرة فيه أساسا لمحاولتنا هذه ). (15) وهناك من أدرك هذه النقلة النوعية عند السيد الصدر لكنه وقع في فخ التقديس المعرفي لكتاب " الأسس المنطقية للاستقراء " من دون أن يتنبه إلى أنّ هناك العديد من التطورات التي طرأت على الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر في " ما بعد الأسس المنطقية " وهذا ما أثبتناه بشكل مفصل في بعض كتبنا ومقالاتنا. (16)

رابعا: بدأ السيد الصدر رحلته مع كتاب " الأسس المنطقية للاستقراء " في عام 1963 وهو – بحسبه –: (دراسة شاملة كشفت عن الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي، الذي يضم كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة، واستطاعت أن تقدم اتجاها جديدا في نظرية المعرفة يفسّر الجزء الأكبر منها تفسيرا استقرائيا مرتبطا بتلك الأسس المنطقية التي كشف عنها البحث). (17)

ولقد بيّن رحمه الله أن الهدف الحقيقي من دراسته هذه هو أنّ العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن – من وجهة النظر المنطقية الاستقرائية – الفصل بينهما. يقول السيد الصدر: (وتبرهن هذه الدراسة في نفس الوقت، على حقيقة في غاية الأهمية من الناحية العقائدية، وهي الهدف الحقيقي الذي توخينا تحقيقه عن طريق تلك الدراسة. وهذه الحقيقة أنّ الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبر لهذا العالم، عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير، فإنّ هذا الاستدلال - كأي استدلال علمي آخر – استقرائي بطبيعته، وتطبيق للطريقة العامة التي حددناها للدليل الاستقرائي في كلتا مرحلتيه. فالإنسان بين أمرين: فهو إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل، وإما أن يقبل الاستدلال العلمي، ويعطي الاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي. وهكذا نبرهن على أنّ العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي، ولا يمكن – من وجهة النظر المنطقية الاستقرائية – الفصل بينهما). (18)

ومن الواضح أن تحقيق هذا الهدف كان يقتضي من السيد الصدر الاطلاع على طبيعة المنهج العلمي في الغرب باتجاهاته المختلفة ودراسته دراسة تفصيلية، وقد حاول السيد الصدر أن يفعل ذلك، ولكن المؤسف في الأمر أنّ النافذة الأساسية التي أطل منها على معطيات الفكر الغربي في هذا المجال هو كتاب " المنطق الوضعي " للدكتور زكي نجيب محمود "، إذ أنّ هذا الكتاب الصادر عام 1951م لم يعكس الصورة الحقيقة لما كان عليه الحال في الفكر الغربي، فمن يقرا هذا الكتاب يتصور أنّ المنهج الاستقرائي باتجاهاته المختلفة هو المنهج الوحيد المقترح لتفسير العلم والكشف عن أسسه، وهو الذي يسود ذلك الفكر في ذلك الوقت، من دون أن يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى جهود " كارل بوبر " في إثبات خرافة الاستقراء وتقديم مقترحات بديلة لتفسير العلم، رغم أنّ كتاب " كارل بوبر " الذي يحمل عنوان " منطق الكشف العلمي " كان قد صدر عام 1933م أي قبل صدور كتاب المنطق الوضعي بـ (18) عاما.

وبغض النظر عما يمكن أن يدور من نقاش حول ما إذا كان من الممكن أو من غير الممكن تفهّم موقف السيد الصدر وتبريره في عدم مواكبته لمعطيات الفكر الغربي في مجال تفسير العلم واكتفائه بكتاب المنطق الوضعي كمصدر لتلك المعطيات، فإنّ النتيجة التي نخلص إليها على أية حال هو أنّ القيود والمحددات الزمانية والمكانية قد فعلت أفاعيلها في دراسة السيد الشهيد الصدر، إذ لا يمكن النظر إلى دراسته في ذلك الوقت على أنّها دراسة شاملة وتامة، باعتبار أنّها لم تواجه جميع الاعتراضات التي ساقها خصوم الاستقراء على المنهج الاستقرائي ولم تنظر في البدائل المقترحة لتفسير العلم، ولو كانت دراسته رحمه الله قد أحاطت بكل ذلك علما لما ظهرت الأسس المنطقية بالشكل الذي ظهرت عليه.

ومن هنا أوردت " يمنى طريف الخولي " على الشهيد الصدر ما يأتي: (بل وأكثر من هذا، فالإيمان بالاستقراء – كمعيار للعلم – قد تطاول إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، بحيث يمكن اعتبار الثانية نتيجة لللأولى، وليس هذا تعبيرا مجازيا، بل تقريرا لواقعة، هي أنّ الإمام محمد باقر الصدر، وهو زعيم شيعي من علماء النجف الأشرف، يتمتع بمنزلة دينية وعلمية وقومية فائقة، وقد أخرج دراسة وافية شاملة محيطة بالاستقراء كمنهج للعلم الطبيعي، محددا أسسه المنطقية وجوانبه الميثودولوجية، كي يتبع هذه الأسس بدقة في استدلال استقرائي ينتهي إلى وجود الله. وكأن الاستدلال الاستقرائي هو الاستدلال الذي ما بعده استدلال – تماما كما أن العلم الطبيعي هو العلم الذي ما بعده علم – فيوطد هذه النتيجة العظمى الجليلة.

ترى ما موقف الإمام الصدر، لو أنه اطلع على أبحاث بوبر وتبين أن الاستقراء محض خرافة ) .(19)

هذا وقد يرى البعض أنّنا إذا كنا نتفهم دور المحددات والقيود في إعاقة " الأسس المنطقية للاستقراء " عن مواكبة معطيات االفكر الغربي في مجال نظرية العلم فإنّنا نعتقد أنّ الأسس المنطقية قد أخفق أيضا في نظرته إلى نظرية العلم على أنّها ثابتة ولم يتنبه إلى أنّ هذه النظرية بما هي معرفة بشرية لا بد وأن تسير على خط التطور والتكامل، إذ ما هو المبرر الذي دعا السيد الصدر للاعتقاد بأن الاستدلال الاستقرائي يمثل المرحلة الأخيرة في مسيرة نظرية العلم حتى يتخذ من ذلك الاستدلال الاستقرائي الأساس المنطقي للعلم والإيمان.

نعم، لم يكن الاستدلال الاستقرائي سوى مرحلة من مراحل نظرية العلم، تلتها مراحل متعددة تمثلت بمقولات متعددة كمقولة بوبر التي أكدت أنّ العلم ليس استقرائيا، والمعرفة وثب، وفسرت المنهج العلمي استنادا إلى الحدوس الافتراضية والتفنيدات أو التكذيب، ومقولة " توماس كون " في كتابه بنية الثورات العلمية 1964م التي أكدت على الطابع الثوري للعلم، ومقولة " إيمر لاكتوس " المتمثلة ببرامج البحث والبناء العقلاني الجديد، ومقولة " فويور أباند " الذي وضع كتابا عام 1975 حمل عنوان: (ضد المنهج: مخطط تمهيدي لنظرية فوضوية في المعرفة). وفي هذا الكتاب تحدى كل محاولات وصف المنهج العلمي، التي رمت اعطاءه وضعية مميزة، منتهيا إلى القول بعدم وجود مثل ذلك المنهج المتميز بصفاته فـ " العلم أساسا عمل فوضوي "، وبالتالي لا يملك العلم خصائص تميزه تمييزا ضروريا عن أشكال المعرفة الأخرى. ويضيف (فويور أباند) قائلا: أنه إذا وجد مبدأ لمنهج علمي كما وصف دعاته، مبدأ ثابت لا يتبدل، فهو: مبدأ كل شيء جائز أو مبدأ التعددية العلمية. ومقولة " تشالمرز " الذي يرى أن العلم لا يطلب الحقائق كيفما اتفق، وإنما يطلب الحقائق ذات العلاقة بمشاريعه . ومن هنا حاجة رجال العلم إلى التجريب. فمن نتائج التجربة، التي يمارسها العلماء بواسطة ما يبنونه من بنى بواسطة أدوات وآلات متنوعة وليس من الوقائع الملاحظة تكون العلم. وتجدر الإشارة إلى أن بناء تجربة علمية جديدة مهمة قد يستغرق شهورا بل عددا من السنين. وإذا كانت نتائج التجريب هي ما يسمى بالوقائع التي تقوم عليها عمارة العلم، فهذا معناه أنها ليست معطاة للحواس مباشرة. والحصول عليها يتطلب معرفة كبيرة، ومحاولات في التجربة والخطأ، واستثمارا للتكنلوجيا الموجودة. ونتائج التجريب عرضة للتغير مع تقدم المعرفة والتكنلوجيا، ومع تغيرها تتغير نظريات العلم . (20)

من هنا يمكن أن نبين لماذا أهمل مفكروا الغرب البحث الاستقرائي للسيد الصدر، فلا يكمن السبب في الملل أو سوء ترجمة الكتاب فقط، بل يكمن، أيضا، في أنّ الاستقراء في ذلك الوقت صار يُنظر إليه على أنّه خرافة جوفاء (21) أو تفكير ساذج، حتى أضحى يطلق على إحدى صوره فيما بعد (الاستقرائية الساذجة) (22)

خامسا: في ضوء ما تقدم يبرز لدينا السؤال الآتي: أين تكمن إذن القيمة المعرفية لكتاب " الأسس المنطقية " ؟!

كما أنّنا لا نتفق مع من ينظر إلى المعرفة البشرية على نحو التقديس ولا يتنبه إلى الحدود والقيود الزمانية والمكانية المتحكمة في تلك المعرفة، كذلك لا نتفق مع من يعتقد أنّ أفكار العلماء وآرائهم تفقد قيمتها بالتقادم وأنّها لا قيمة لها حينما تبحث في موضوع لم يعد البحث فيه مجديا من الناحية المعرفية، ويتصور أنّ هذه الأفكار والآراء تمثل مرحلتها دون أن يكون لها القدرة على العودة إلى مسرح البحث المعرفي في صورة جديدة أو بلباس جديد، ولا أدل على خطأ هذا التصور من عودة النظرية الذرية لـ " ديموقريطس " على يد الفيزياء الحديثة في صورة جديدة.

بطبيعة الحال أنا لا أقول ذلك من باب التبرير والدفاع عن أفكار الشهيد الصدر وعن قيمتها المعرفية بل أن الواقع يشير بالفعل إلى أنّ البحث الاستقرائي للشهيد الصدر لم يفقد قيمته على أساس أنّه صار من الماضي، ذلك أنّ أحدث الأبحاث في فلسفة العلم – وهو للأسف الشديد ما لم تضعه يمنى طريف في الاعتبار حينما اعترضت على البحث الاستقرائي للسيد الشهيد - تشير إلى عودة البحث الاستقرائي في صورة جديدة ولذلك ذكرت في الباب الأول من الجزء الثالث من كتابي " في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر ": (أن ّهناك العديد من الأسباب التي دعتنا إلى أن نفرد بابا خاصا في هذا الكتاب، نبين من خلاله الأصول التاريخية لمنهج الدليل الإستقرائي، وأهم المراحل التي مر بها هذا المنهج منذ بداياته إلى يومنا هذا، وقد كان من أهم هذه الأسباب: أنّ البعض – أقول البعض – من القراء الأعزاء، يتصور أن التسليم بأن منهج الدليل الإستقرائي هو منهج العلم، أمر خاطئ؛ باعتبار أن هناك العديد من الدراسات قد أثبتت أنّ الاستقراء ليس سوى وهم كبير وخرافة، ولم يتنبه هؤلاء الأعزاء إلى الدراسات الأحدث في هذا المجال، التي أكدت على أنّ من الوهم النظر إلى منهج الدليل الاستقرائي على أنّه وهم. ومن هنا حاولنا أن نأخذ بنظر الاعتبار الإشارة إلى أهم هذه الدراسات في هذا الباب، لكي لا يبتعد القارئ الكريم عن الإطلاع على الفكر الاستقرائي عند الشهيد الصدر وإبداعاته المتميزة نتيجة التأثر بالدراسات التي تذهب إلى أن الاستقراء ليس سوى وهم وخرافة) (23) . (انظر الملحق الثالث فقد أشرنا فيه لأهم الدراسات الحديثة التي أكدت على استمرار فاعلية الاستدلال الاستقرائي)

وذكرت أيضا في مدخل الباب الثاني من نفس الكتاب: (في ضوء ما تقدم، نستطيع أن نقول لأولئك الذين قد يظنون – بمجرد إطلاعهم على آراء (بوبر) وغيره في حساب احتمالات الفروض – أن تبرير الدليل الاستقرائي على أساس نظرية الاحتمال هو من الدراسات التي قد ولى زمنها، فالاستقراء نفسه ليس سوى خرافة، كما يؤكد (بوبر) وآخرون، أنكم واهمون. إنّ المتابعة الجادة لأحدث الدراسات في فلسفة العلوم، تبين أنّ البحوث الاستقرائية لم تقف عند العائق الذي وضعه (بوبر) أمامها، بل أنّها تجاوزته، فنحن نجد أنفسنا عند المتابعة – كما أكدنا في الباب الأول – أننا أمام دراسات عديدة يستعيد فيها الاستقراء ذاته تحت عناوين متعددة كـ: (الاستقراء الحدسي الافتراضي)، و(الاستقراء الإبداعي)، فضلا عن العديد من الدراسات الأخرى التي حاولت بشكل او بآخر أن تدفع عن الاستقراء ما تراه على أنّه أوهام قد أحاطت به) (24).

نعم، إن المتابعة الجادة لأحدث الدراسات في فلسفة العلوم تؤكد أن الحرب الفكرية حول حساب احتمالات الفروض ما زالت مستمرة. يقول (دونالد جيليز): (ومع هذا ينبغي القول إنه لا يوجد اتفاق جمعي في الآراء بشأن أسس الإحصاء، وبعض المدارس الفكرية لا سيما البايزية – تتبنى اتجاها يختلف غاية الاختلاف عن مذهب التكذيب. وينتقد (هاوسن) و(أرباخ) في كتاب مهم صدر مؤخرا مذهب التكذيب في الإحصاء، ويدافعان عن الإتجاه البايزي، بينما في استعراضي لكتابهما (جيليز 1990)، دافعت بطبيعة الحال عن مذهب التكذيب ضد هجماتهما. لكن ربما يكون أكثر الإستنتاجات حكمة هو أن كل مدرسة من مدارس الإحصاء لها مشكلاتها، وأن المشكلات التي تخص اتجاه مذهب التكذيب ليست أسوأ مما هو عليه في هذا المجال. وفي جميع الأحوال، لا يمكن النظر إلى قضايا الاحتمال بوصفها حجر عثرة في طريق القابلية للتكذيب). (25)

هكذا يجد القارئ كيف تحول الكلام، فبدلا من القول: لا يمكن أن تكون القابلية للتكذيب حجر عثرة أمام قضايا الاحتمال، فتكون قضايا الاحتمال بحاجة إلى الدفاع، تحولنا إلى القول: لا يمكن النظر إلى قضايا الاحتمال بوصفها حجر عثرة في طريق القابلية التكذيب، فتكون القابلية للتكذيب هي التي بحاجة إلى الدفاع، حتى أننا نجد أن أحد العناوين الفرعية التي اشتمل عليها كتاب (فلسفة العلم في القرن العشرين) لـ (دونالد جيليز)، كالآتي: (كم من مذهب التكذيب يمكنه البقاء).

وبغض النظر عما كتبه (دونالد جيليز) تحت ذلك العنوا، فإننا لسنا بصدد الهجوم على (القابلية للتكذيب) أو على (بوبر). ولسنا أيضا بصدد الدفاع بحماسة غير موضوعية عن الفكر الإستقرائي للشهيد الصدر، فلقد أكدنا في جميع أجزاء هذا الكتاب أن هدفنا ليس هو الدفاع عن الفكر الإستقرائي للشهيد الصدر، وإنما هو اننا نحاول تظهير التجربة الرائعة التي تمخضت عن هذا الفكر المبدع، لما في هذه التجربة من خصائص – قد تعرضنا لذكرها في مقدمتي الجزئين الأول والثاني – تجعلها – بالفعل – تستحق التقدير والتظهير .

 وحذاري أن يفهم البعض مما تقدم أنّنا نربط القيمة المعرفية لفكر الشهيد الصدر بعودة البحث الاستقرائي إلى الواجهة، فمتى ما عاد البحث الاستقرائي إلى الواجهة تأكدت القيمة المعرفية لفكره والعكس صحيح؛ ذلك أنّ القيمة المعرفية لفكره وإن كانت تتأثر بفاعلية البحث الاستقرائي، سلبا وإيجابا، ولكن المعيار الأساسي في تأكيدها يتجسد في مدى ثراء ذلك الفكر وإسهامه في تحريك وتطوير الفكر الإنساني. (وفي الملحق الرابع سوف تجد حديثا مفصلا عن ذلك الأمر)

رضا حسن الغرابي

..................

الهوامش:

1 - الصفحة الشخصية للدكتور على المرهج بتاريخ: 10/4/2017.

2 – كتاب " نظرية المعرفة والمذهب الذاتي " هو عبارة عن تسع مقالات توزعت على ثلاثة أجزاء بالشكل الآتي:

الجزء الأول: اشتمل هذا الجزء على المقالات السبع الآتية:

1 - الجانب المفهومي من الدليل الاستقرائي في ضوء المذهب الذاتي.

2 – تفسير اليقين الاستقرائي في ضوء المذهب الذاتي.

3 - الاستنباط والاستقراء في ضوء المذهب الذاتي.

4 - ما بعد الأسس المنطقية للاستقراء.

5 - الاستقراء في ضوء الشهيدين الصدر ومطهري.

6 - فلسفة المصادفة في ضوء المذهب الذاتي.

7 - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة أصالة وتميّز.

الجزء الثاني: خصص هذا الجزء لمقالة واحدة بعنوان " نظرية الاحتمال عند الشهيد الصدر.

الجزء الثالث: خصص هذا الجزء لمقالة واحدة – أيضا – بعنوان " تفسير الدليل الاستقرائي في ضوء المذهب الذاتي "

3 – من مقالات كتابنا التي حازت على شهادات تقديرية: مقالة " الاستنباط والاستقراء في ضوء المذهب الذاتي " حازت على شهادة تقديرية من المنتدى الثقافي للتأصيل، ومقالة " المذهب الذاتي في نظرية المعرفة " أصالة وتميز " حازت على شهادة تقديرية من المؤتمر العلمي الدولي الأول في فكر الشهيد محمد باقر الصدر.

4 – موقع الشيخ حيدر حب الله، الدراسات العقلية، الفلسفة والمنطق، شرح الأسس المنطقية للاستقراء، الدرس الأول.

5 – موقع الشيخ حيدر حب الله، الدراسات العقلية، الفلسفة والمنطق، شرح الأسس المنطقية للاستقراء، الدرس الأول.

6 – السيد محمد باقر الصدر، فلسفتنا، العارف للمطبوعات، لبنان، 1433ه_2012م، ص62.

7 – السيد عمار أبو رغيف، الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش، دار الفقه للطباعة والنشر، 1427ه، ص10.

8 – السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلى للمطبوعات، بيروت – لبنان، 1394ه-1974م، ص67.

9 – السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، دار الكتاب العربي، بغداد، 1430ه-2009م، ج18، ص7.

10 - السيد عمار أبو رغيف، الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش، مصدر سابق، ص73-74 وص82-83.

11 – يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 2003م، ص91.

12 – السيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، العارف للمطبوعات، لبنان، 1433ه-2012م، ص163 وص168.

13 – المصدر نفسه. ص417.

14 – هانز ريشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الأسكندرية، 2006م، ص59.

15 - السيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، مصدر سابق، ص20.

16 – انظر مقالتنا: " ما بعد الأسس المنطقية للاستقراء " وانظر أيضا الجزء الأول من كتابنا في رحاب الفكر الاستقرائي، وانظر كذلك القسم الثاني من الجزء الثالث من كتابنا في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد الصدر، حيث أدخلنا هناك بعض الإضافات على الموضوع.

17 - السيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، مصدر سابق، ص577.

18 – المصدر نفسه، ص577-578.

19 - يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر، مصدر سابق، ص97.

20 – رضا حسن الغرابي، في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد محمد باقر الصدر، دار الكتب العلمية بغداد، 2012م، ص151.

21 - يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر، مصدر سابق، ص163.

22 – ألان. ف. شالمرز، ما هو العلم، ترجمة لطيفة ديب عرنوق، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، 1997، ص167-169.

23 – رضا حسن الغرابي، في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد محمد باقر الصدر، مصدر سابق، ج3، ص27.

24 – المصدر نفسه، ج3، ص352.

25 - دونالد جيليز، فلسفة العلم في القرن العشرين، ترجمة ودراسة الدكتور حسين علي، مراجعة وتقديم: إ . د إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، ص486.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم