صحيفة المثقف

السيد محمد باقر الصدر ما بين المعرفة والتفلسف وبين الأدلجة والتقديس (3)

الملحق الثالث: الاستقراء ما يزال ثابتا (41)

قد يتصور البعض حينما يتابع الدراسات العديدة والأفكار المختلفة حول البدائل المقترحة للاستقراء، أن الاستقراء قد اختفى عن مسرح البحث في فلسفة العلوم، وفي مناهج البحث العلمي، إلا أن الواقع أن الاستقراء ما زال محتفظا لنفسه بموقع في المنافسة، بل أنه قد يزداد قوة في صراعه مع المناهج الأخرى في بعض الفترات، بل أن هناك من رأى أن مشكلة الاستقراء إنما هي وهم، والاستقراء لا يشكو في الحقيقة من أي مشكلة، فلنتابع الآتي:

الاستقراء الحدسي الافتراضي: يرى " دونالد جيليز " الذي يتفق في بعض المواقف مع " بوبر" ويختلف معه في مواقف أخرى: أنّ التحليل الدقيق لبعض الكشوف العلمية يقودنا في نهاية الأمر إلى نوع من الجمع بين النزعة الاستقرائية ومذهب التكذيب .(41)

وبعد ما أجرى " دونالد جيليز " تحليلا لبعض الكشوف العلمية، وجد أنه بصدد حالة من الفروض توصل إليها بواسطة الاستقراء من خلال الملاحظة، ثم طورت هذه الفروض بواسطة منهج الحدوس الافتراضية. وتساءل: هل يعني هذا إمكانية وجود نوع من التركيب بين مذهب الاستقراء ومذهب التكذيب. (43)

يقول جيليز: إن مثل هذا النوع من التركيب قد اقترحه " ميتشل 1989 "، فهو يؤكد ما يمكن أن يطلق عليه " الاستقراء الحدسي الافتراضي " ويصف بعض سمات هذه العملية في الفقرتين التاليتين: " من السمات المدهشة لعملية الحدس الافتراضي للاستقراء أن نظرية نافعة تتضمن معلومات أكثر من مجموعة محدودة من المعطيات المفردة، والتي تم استنباط النظرية منها في الأصل . لا بد وأن النظرية النافعة لا تشتمل على نموذج المعطيات المفردة كما تقدم وحسب، بل تشتمل كذلك على نموذج بعض المبادئ الطبيعية العامة التي كانت المعطيات المفردة دالة عليها. ومهمة الباحث ذي الخيال الخصيب هي تخمين ماهية المبادئ العامة ". ومرة أخرى يقول " ميتشل ": " بالرغم من ... أن عملية الاستقراء قد تنشأ عن خطوات صغيرة غير مثيرة، فإن هذه الخطوات تتخذ شكل تخمينات، وتصير عملية توليد النظرية غير استقرائية وفي الأساس حدسية بالمعنى الذي وصفه " بوبر ".

ويرى جيليز: أن شيئا من التأمل يوضح لنا أن التوفيق بين نظرية " بوبر " وبعض أشكال الاستقراء ليس أمرا مستحيلا. إن " بوبر " لا يقدم أي تفسير حول كيفية نشوء الحدوس الإفتراضية العلمية، ويعتبر أن علم النفس التجريبي أولى بهذه المسألة من فلسفة العلم. لذلك من الممكن تعزيز رأيه من خلال الادعاء بأن الحدوس الافتراضية العلمية أحيانا ما تنشأ بواسطة الاستقراء من خلال الملاحظة. وربما يكون هذا هو الاستقراء الحدسي الافتراضي عند " ميتشل ". فكما رأينا تتلائم وجهة النظر هذه تماما مع تفاصيل " بعض الكشوف العلمية ". ومن الملفت للانتباه أن " ميتشل " يتحدث عن " مهمة الباحث ذي الخيال الخصيب ".

ويضيف جيليز قائلا: وفي واقع الأمر قد آثرت الحديث في معرض جدلي آنفا أن استقراء " فليمنج " الحدسي الافتراضي قد تضمن قدرا كبيرا من الإبداع . ففي حالات مثل هذه الحالة يمكننا أن نستخدم مصطلح " الاستقراء الإبداعي " . فضلا عن ذلك، يمكننا أن نقارنه بطريقة أخرى لتوليد الحدوس الافتراضية يمكن أن نطلق عليها " التنظير الإبداعي " . ففي الحالة الثانية يتكون الحدس الافتراضي بواسطة تأمل تطورات نظرية سابقة بدلا من إمعان النظر في الملاحظات . ويقدم لنا " كوبرنيقوس " مثالا رائعا في التنظير الإبداعي . لم يكن " كوبرنيقوس " عالم فلك تستهويه الملاحظة بقدر كبير، فكتابه المعنون " عن دوران الأجرام السماوية " والذي ظهر عام 1543 يحوي سبعا وعشرين ملاحظة فقط قام بها بنفسه، لكن لا يبدو أن واحدة من هذه الملاحظات ولا أخرى جديدة كان لها أي تأثير في تكوين فرضه الجديد. وقد توصل " كوبرنيقوس " إلى نظريته حول مركزية الشمس على نحو يشبه التالي: صار " كوبرنيقوس " غير قانع بنماذج " بطليموس " المستخدمة في الفلك في عصره، لذلك قرأ نصوصا يونانية عديدة ليرى ما إذا كان هناك اتجاه بديل يمكن استخدامه . وبهذه الطريقة لفت " كوبرنيقوس " الانتباه إلى وجهة نظر " فيثاغورس " التي كانت تقول إن الأرض تتحرك، وبدأ بهذه الفكرة وطور من فرضه . وهنا نجد أن لدينا على نحو مؤكد تنظيرا إبداعيا، وليس أي شكل من أشكال الاستقراء . ورغم ذلك، من المحتمل أن " كوبرنيقوس " و " فليمنج " يمثلان طرفي نقيض، ومعظم سبل تكوين الفروض في العلم تقع بينهما، حيث تتولد الفروض بواسطة التأمل في كل من نظرية سابقة وملاحظة جديدة . وقد استطاع " كبلر " بالفعل أن يقدم مثالا على مثل هذا الخلط بين التنظير الإبداعي والاستقراء الإبداعي .(44)

واقعية المنهج الاستقرائي في ضوء منهج الاستنباط الاسترجاعي لـ (هانسون):

يعتقد بعض الباحثين أن منهج الاسترجاع الاستنباطي هو الأفضل في فلسسفة العلم المعاصرة؛ لأنه منهج " توحيدي" إذ قد استبقى واقعية المنهج الاستقرائي بارتكازه على ملاحظات شاذة، واستبقى على صرامة الاختبارات التجريبية التي وضعها المنهج الفرضي الاستنباطي، وزاد عليها بوصفه لطريقة اكتشاف الفروض. (45)

ولكن ما هو منهج الاستنباط الاسترجاعي؟

لقد سادت بحوث فلسفة العلم المعاصرة منافسة حادة بين اتجاهين رئيسيين في محاولة فهم النظرية العلمية، فلقد مثل الاستقرائيون الاتجاه الأول الذي يرى أن النظرية العلمية ماهي إلا خلاصة وتعميم لنتائج الملاحظات والمعطيات التجريبية، وعلى ذلك فالقضايا التي يتم قبولها في متن العلم هي فقط القضايا التي إما تصف حقائق أساسية، او تعميمات استقرائية من القضايا الأساسية، وتكون غير قابلة للخطأ . ولقد رسموا لذلك منهجا يعمل على تبرير وبرهنة النظريات العلمية مثلما يعمل على اكتشافها فيما يعرف بالمنهج الاستقرائي .

أما الاتجاه الآخر فيمثله الاستنباطيون، والذين رأوا أن النظريات العلمية تتكون من فئات مختلفة من فروض ذات مستويات متعددة موضوعة في نسق استنباطي يماثل في بنائه النسق الأكسيوماتيكي الرياضي، والذي يكون مندمجا مع بنيات فرضية استقرائية، وتشتق من هذه الفروض نتائج، تكون عرضة للفحص والاختبار عن طريق الملاحظات والتجارب، ومن ثم شرعوا في رسم معالم منهجهم الموسوم بالمنهج الفرضي الاستنباطي . وبديهيا فإن الاستنباطيين يركزون على اختبارات الفرض، أو ما يطلق عليه سياق التبرير، بينما يستبعدون البحث عن طبيعة الفرض وطبيعة التجريدات العلمية، ونشأتها من دائرة بحثهم، فيما يعرف بسياق الكشف .

بيد أن هانسون يعترض على كل من المنهجين السابقين باعتبارهما غير كافيين في تفسير طبيعة النظرية العلمية، فيعترض على الاستقرائيين في أن تصورهم للنظرية العلمية مفرط في السذاجة ويخالف الواقع الفعلي لممارسة العلماء، فالنظريات العلمية ليست خلاصة للمعطيات التجريبية، ولا تعميما لها، ولكنها إبداع للعقل الحر المنفعل بهذه المعطيات والوقائع، ولكي تتم عملية تفسير هذه الوقائع والمعطيات، فلا بد وإن يكون الفرض المفسِر من خارج إطار الظاهرة المفسَرة، وليس من داخلها . ويعترض على الاستنباطيين بكونهم لا يخبروننا بالكيفية التي بها يتم اكتشاف الفروض العلمية، والتي تشكل اللبنات الأولى للنظرية العلمية، أي أنهم لا يخبروننا بكيفية التوصل للفرض ذاته، إذ يستبعدون عملية نشأة الفرض من دائرة البحث المنطقي، باعتبار أنها تخص فقط نطاق العبقرية وعلم النفس الامبريقي أو علم الاجتماع، وإن كان لا يغمطهم حقهم في تأسيسهم لمناهج اختبارية جيدة للفروض العلمية .

من هذا المنطلق يشرع هانسون في تأسيس منهج جديد، أو بالأحرى تطوير منهج قديم في صورة جديدة، وهو ما يعرف بمنهج الاستنباط الاسترجاعي والذي يوجد فيه مزايا المنهجين السابقين، ويعتبره الأكثر ملائمة لفهم طبيعة النظرية العلمية. ففي هذا المنهج يتم الارتكاز على قاعدة من الملاحظات الشاذة والمربكة والمحيرة للباحث، ومن ثم يفترض الباحث فروضا عدة لتفسيرها. بيد أن الفرض المتوصل إليه استرجاعيا لا يتم قبوله كمفسر والذي يؤتى من خارج إطار الظاهرة المفسرة ما لم يحل الشذوذ ويضفي على الظواهر المحيرة وحدة وانسجاما. وهكذا فإنه طبقا لهانسون، وعلى عكس الاستقرائيين إن النظرية العلمية ليست خلاصة للمعطيات التجريبية أو تعميما لمنطوقاتها، ولكنها الرؤية التي تنتظم فيها الملاحظات وتأتلف من خلالها . وعلى عكس الاستنباطيين فإن العمل العلمي، إنما ينطلق من المعطيات إلى الفروض، وليس العكس، أي يبدأ من المفسرات إلى المفسرات . وبهذا فإننا نكتشف مدى الجدة والأصالة في تناول هانسون لطبيعة النظرية العلمية. (46)

ستراوسون وإلغاء مشكلة الاستقراء:

على العكس تماما من موقف " بوبر " ما ذهب إليه ستراوسون . لقد رأى " ستراوسون " أن الشكوك حول عقلانية الاستقراء نشأت من الخلط، وأن الحلول التي حاولت وضع حد لهذه الشكوك لم تنجح في نبذ الخلط:

يظل على ذلك سؤال فلسفي يتعين أن يثار في نقاش الأمر، يمكن إثارة هذا السؤال بالصياغات التالية: ما المبررات التي نستحوذ عليها للتعويل على الإجراءات الاستقرائية؟ لماذا يتعين علينا أن نفترض أن تراكم حالات (A) التي تختص بالخاصية (B)، بغض النظر عن الظروف المختلفة التي تلاحظ فيها، يعطي مبررا جيدا، لتوقع أن تكون (A) القادمة التي سوف نواجهها متصفة بالخاصية (B)؟ من عادتنا التوقع على هذه الشاكلة، ولكن هل يمكن تبرير هذه المعادلة بشكل عقلاني؟ ما أن تساور هذه الشكوك عقولنا حتى يصعب علينا الخلاص من ربقتها . ذلك أن هذه الشكوك إنما تنشأ عن خلط، كما أن بعض المحاولات التي تروم الخلاص منها لا تنجح في تبديد هذا الخلط . ايضا هناك محاولات أخرى رامت تبيان خلو هذه الشكوك من أي معنى، لكنها تبدو محاولات سطحية . (47)

يعتقد " ستراوسون ": أن السؤال عما إذا كان الاستقراء بوجه عام نهج استدلال معقول، سؤال خال من المعنى:

إذا تساءل المرء عن أسس افتراض سلامة الاستدلال الاستنباطي، فقد يجاب بالقول أنه ليس هناك في الواقع أسس لافتراض أن الاستدلال الاستنباطي كان سليما على نحو دائم . أحيانا يستدل البشر بشكل سليم، وفي أحيان أخرى يرتكبون أغلاطا منطقية . فإذا قال أننا قد أسأنا فهم سؤاله وأن ما أراد معرفته هو أسس اعتبار الاستنباط بوجه عام نهجا سليما للبرهنة، فإنه يتوجب علينا القول أن سؤاله يخلو من أي معنى، ذلك أن تقرير أن برهانا أو نهجا برهانيا ما يعد سليما أو غير سليم يستلزم كونه استنباطا .

إن مفاهيم السلامة والفساد إنما تطبق على براهين استنباطية فردية أو على شكول البراهين الاستنباطية . وعلى نحو مماثل، إذا تساءل المرء عن أسس الاعتقاد في معقولية الآراء التي تم الخلاص إليها استقرائيا، فقد نجيب بأن هناك براهين استقرائية جيدة وأخرى رديئة، وأن الواحد قد يسلك أحيانا على نحو معقول حين يعتد بمعتقدات خلص إليها استقرائيا، وقد لا يسلك على هذا النحو في أحيان أخرى . فإذا قال أننا قد أسأنا فهم سؤاله، وأنه أراد معرفة ما إذا كان الاستقراء بوجه عام نهج استدلال معقول، فلنا أن نقول أن سؤاله يخلو من المعنى تماما كما يخلو السؤال عن سلامة الاستنباط بوجه عام من المعنى . إن وصف معتقد ما بصفة العقلانية أو اللاعقلانية يتطلب تطبيق معايير استقرائية، تماما كما أن وصف برهان ما بصفة السلامة أو الفساد يتطلب تطبيق معايير استنباطية . (48)

ويرى " ستروسون " أن أحد اسباب خلق مشكلة الاستقراء وتضخيمها، هو محاولة تبرير الاستقراء على أساس أنه نوع من الاستنباط: هب أن رجلا قد نشأ بحيث يعتبر المنطق الصوري دراسة لعلم وفن الاستدلال . إنه يلاحظ أن العمليات الاستقرائية تعد وفق المعايير الاستنباطية فاسدة، فالمقدمات لا تستطيع استلزام نتائجها إطلاقا . للعمليات الاستقرائية سمعة سيئة من حيث صياغة توقعاتنا ومعتقداتنا عن كل ما يتجاوز ملاحظات شهود العيان . لكن البرهان الفاسد برهان غير صحيح ومن ثم فإنه لا يشتمل على مبرر جيد لقبول نتيجته . لذا إذا كانت العمليات الاستقرائية فاسدة، وإذا كانت البراهين التي تطرح لدعم معتقداتنا ليست صحيحة، فليس لدينا مبرر معقول لأي من تلك المعتقدات . هذه نتيجة بغيضة، وعلى هكذا نحو يثار طلب التبرير لا بخصوص المعتقدات التي تتجاوز الملاحظات، بل بخصوص الاستقراء على وجه العموم .هذا طلب لتبيان أن الاستقراء نوع من الاستنباط، إذ لا شيء أقل من هذا من شأنه أن يقنع المشكك الذي يجادل على هذا النحو .

باقتفاء أثر هذا نجد الأصل الأكثر شيوعا للشك العام في الاستقراء يبين كيف أن هذا الشك يحاول الخلاص من لا معقولية محاولة تبرير الاستقراء بوجه عام وفق معايير استنباطية . إن المطلوب هو تبيان أن الاستقراء عملية عقلانية، وقد اتضح أن هذا المتطلب يشترط تبيان كيف يتعين على نوع من الاستدلال أن يكون نوعا آخر منه . إذا تمت صياغة المتطلب على هذا النحو الفج، فإنه يهرب من أمر مناف للعقل كي يقع في أمر مناف للعقل آخر . بالطبع لا تعد البراهين الاستقرائية سليمة استنباطيا، وإلا لكانت براهين استنباطية .

من منظور الصحة يتوجب تقويم الاستدلال الاستقرائي وفق معايير استقرائية . على ذلك، وبغض النظر، عن فتنة الأمل في أن يكون الاستقراء استنباطا، فإنه لا يتسنى لنا فهم المحاولات التي بذلت لتبرير الاستقراء إلا عبرها . (49)

إن (ستروسون) لم يكتف بتشخيص ان من الخطأ محاولة تبرير الاستقراء – كما هو واضح مما تقدم –، بل أنه رأى – أيضا – أن من الخطأ – اصلا – طلب التبرير للاستقراء.

سوف ننتقل الآن من نقاش محاولة تبرير الاستقراء إلى نقاش محاولة تبيان خطأ طلب التبرير.

غالبا ما يفترض في هذا الطلب الأمنية السخيفة في أن يكون الاستقراء نوعا من الاستنباط، وهي أمنية يمكن اقتفاء أثرها في محاولتي التبرير اللتين أتينا على نقاشهما . ولكن أية دلالة أخرى يستحوذ عليها هذا الطلب؟ أحيانا يعبر عنه في شكل طلب لإثبات أن الاستقراء إجراء عقلاني، وأن لدينا أسسا جيدة لوضع الثقة فيه . اعتبر التعبيرات (أسس جيدة)، (تبرير)، (معقول) --- غالبا ما نقول جملا من قبيل (لديه كل مبرر للاعتقاد في P)، (لدي أسباب معقولة للاعتقاد فيها)، (ثمة أساس جيد للرأي P)، (هناك شاهد جيد على (R) . وعلى نحو مماثل غالبا ما نتحدث عن التبرير والأسس الجيدة وأسباب وشواهد معتقدات بعينها . افترض ان المعتقد يمكن أن نعبر عنه بالصياغة (كل حالة من حالات F حالة من حالات G) . افترض أن شخصا قد سئل عما يعنيه بقوله إن لديه أسسا جيدة وأسبابا وجيهة للاعتقاد فيه . ستكون إجابته ملائمة حين يقول: (إنني وفق خبرتي الكبيرة والمتنوعة صادفت عددا كبيرا من حالات F، ولم أعثر على واحدة منها لا تختص بالخاصية G) . من البين أنه يزعم أن لديه دعما أو شاهدا استقرائيا من نوع بعينه على ذلك الاعتقاد . أيضا فإنه يطرح أجابة مناسبة عن سؤالنا له . إن القول بأن من المعقول أن تتناسب درجة الاعتقاد في القضية مع قوة الشواهد عليها، قول يعبر عن قضية تحليلية، وكذا شأن القول بأن قوة الشاهد على التعميم تتناسب مع الحالات الإيجابية ومع قدر تنوع الظروف التي وجدت فيها، طالما ظل كل شيء آخر على حاله . لذا أن تسأل ما إذا كان يعقل الركون إلى الإجراءات الاستقرائية هو أن تسأل سؤالا يشبه السؤال ما إذا كان يعقل أن تتناسب درجة الاعتقاد مع قوة الشواهد، هذا ما يعنيه في هذا السياق (كون المرء يسلك على نحو عقلاني) .

أما بخصوص الصياغات الأخرى التي يمكن بها التعبير عن الشك في الاستقراء، (ما إذا كان الاستقراء إجراءا مبررا أو يمكن تبريره؟) فإنه يثار في ظروف أكثر غموضا . ذلك أنه من المناسب بوجه عام أن نتقصى ما إذا كان تبني معتقد بعينه يعد مبررا، فبهذا التقصي إنما نتساءل ما إذا كان هناك شاهد جيد أو رديء على ذلك المعتقد . إننا حين نصف المعتقد بأنه (مبرر) أو (مؤسس على نحو جيد)، فإننا نطبق ونلجأ إلى معايير استقرائية . ولكن أية معايير يمكن أن نلجأ إليها حين نتساءل ما إذا كان تطبيق المعايير الاستقرائية مبررا أو مؤسسا على نحو جيد؟ إذا لم يكن بمقدورنا أن نجيب، فليست هناك دلالة لهذا السؤال . قارنه مع السؤال (هل يعد القانون قانونيا)؟ ثمة معنى للبحث عما إذا كان سلوك بعينه، لوائح إدارية أو تشريعات محددة تعد قانونية، فهذا السؤال يجاب عنه باللجوء إلى النظام القانوني عبر تطبيق مجموعة من القواعد أو المعايير القانونية أو الدستورية . ولكن ليس هناك معنى للبحث عما إذا كان قانون البلاد العام، النظام القانوني على وجه العموم، يعد قانونيا . أية معايير يمكن أن نلجأ إليها لحسم هذا الأمر؟

المعنى الوحيد الذي يمكن إهابته للسؤال ما إذا كان الاستقراء على وجه العموم مبررا أو يمكن تبريره، هو معنى تافه كما سبق أن لاحظنا. لنا أن نفسره على اعتبار أنه يتساءل (هل تعد كل النتائج التي خلصنا إليها استقرائيا مبررة؟)، أي (هل يمتلك البشر دائما شواهد قوية على النتائج التي يقومون باشتقاقها؟). الإجابة عن هذا السؤال يسيرة لكنها ليست مثيرة ؛ الناس يمتلكون شواهد قوية في بعض الأحيان وتعوزهم تلك الشواهد في أحيان أخرى .(50)

وخلاصة القول: إن " ستراوسون " يرى أن مشكلة الاستقراء تنشأ من التسليم غير الواع بالاستنباط باعتباره نموذجا، فالربط بين الاستقراء والاستنباط ربط خاطئ فلكل منهج منهما معيار صدقه الخاص به. إنه يرى أن العلم ليس في حاجة إلى مبدأ غير تجريبي يكون مقدمة للاستقراء ويضمن الانتقال من قضية جزئية إلى قضية أخرى عامة، واعتمد " ستراوسون " ما أطلق عليه (دليل المثل) أو (دليل الحالة النموذجي) نقدم فيه بوضع نموذج نصطلح عليه ثم نقيس عليه الأحداث المتكررة التي نحكم عليها مثل حكمنا على الشئ الأخضر لمجرد رؤيتنا لعدد من الأشياء الخضراء، وهو نوع من التثميل كما يقول عنه " ستراوسون ".

من هنا فلا معنى لتساؤلنا عن تبرير الاستقراء ... وبالتالي فلا معنى لأن تأتي نتائج الاستقراء يقينية لأن النتائج دائما تكون أوسع وأشمل من المقدمات ... ومن ثم تكون النتائج محتملة وهذا هو المعيار الذي نحكم به على نتائج الاستقراء .

مثال: إذا رأينا عددا من البجع الأبيض في كل مرة فإننا نتوقع في المرة التالية أن يكون البجع أبيض أيضا ... ومن ثم فإن إصدار حكم دون البحث عن تبرير لهذا الحكم هو الدرس المستفاد من هذه النقطة . (51)

الإستقراء على المستوى العملي: إذا كان الصراع ما زال محتدما حول عقلانية الاستقراء على المستوى النظري، فيبدو أن الصراع حول هذه العقلانية أقل شدة على المستوى العملي، فما زال العلماء في العديد من المجالات يلجأون عمليا إلى فكرة الاستقراء .

كتب " باول ديفز " في كتابه " القوة العظمى ": (عمليا يلجأ علماء الكونيات والفلك إلى فكرة الاستقراء، فيأخذون قوانين الفيزياء المستنبطة من التجارب ومن مراقبة بعض أجزاء الكون بدون تغيير، ويطبقونها على الكل المطلق . وعليه فإن النظرية النسبية العامة هي أفضل نموذج نملكه حاليا للجاذبية تم اختياره بصورة رئيسية بمراقبة النظام الشمسي تستخدم لحساب حركة الكون كله . ويبدو أن استخدام القوانين التي تنطبق على أجزاء من الكون لتفسير الكون بشكل كلي يعطي تفسيرا معقولا ومقبولا لواقع الأمور المتطورة . لماذا؟

تعيدني الإجابة عن هذا السؤال إلى المشكلة الأساسية وهي كيف نستطيع أن نتحدث حديثا ذا مغزى عن الكون بالدرجة الأولى . وثمة تشابه هنا مع المجتمع الإنساني . قد يقول أحد السياسيين أنا أحب تخفيض الضرائب، أصدقائي يحبون تخفيض الضرائب، والناس الذين تم استفتاؤهم يحبون تخفيض الضرائب، هنا يفترض أن المجتمع بشكل كلي يمتلك ضميرا جماعيا يعكس أماني ومطالب أفراده، وهذا يتيح تطبيق المبادئ التي تسري على الأفراد على المجموع أيضا . وعلى أية حال، فإن هذا المنطق يمكن أن يؤخذ به لو كان المجتمع مكونا من أفراد متشابهين في التفكير، وفيما يتعلق بتخفيض الضرائب، يشعر معظم الناس نفس الشعور إلا أن النتيجة قد تختلف كليا عندما يتعلق الأمر مثلا بممارسات دينية .

حين تطبق قوانين الفيزياء على الكون بشكل كلي فإننا نؤدي نفس القفزة المنطقية التي مارسناها في مسألة تخفيض الضرائب، فالكون مكون من عدد من الأنظمة المتشابهة أو المتماثلة بما كان عددها لا نهائيا . وبمقياس واسع يمكننا أن نعد الكون مجموعة من المجرات، وبمقياس أدق يمكننا عده مجموعة من الذرات . والكون على أعمق مستوى هو مجموعة من المجالات الكمية . وحقيقة كوننا نرى عبر الكون المرئي نفس الأنواع من الأشياء، تؤخذ عادة كأمر بديهي لا جدال فيه، ومع ذلك ليس من الواضح لماذا يفترض وجوب وجود هذه الشمولية في الكون .

إن شمولية النظم الفيزياوية هي نقطة البداية لعلم الكون العلمي . إن مراجعة السماء تبين لنا أن النجوم تشبه شمسنا كثيرا، والمجرات ألأخرى تشبه كثيرا مجرة درب التبانة حجما وتركيبا . ويكشف التحليل الأدق أن هذه الإجسام البعيدة مكونة من نفس الذرات التي نجدها على الأرض فذرة من الأرض لا يمكن تمييزها عن ذرة من حافة الكون المرئي، ويبدو أن العمليات الفيزياوية التي تقع في أبعد مناطق الفضاء هي نفسها التي تقع في مجرتنا . وبشكل أكثر تعيينا: قوى الطبيعة هي قوى كونية، فشدة القوى الكهرومغناطيسية في النجوم النابضة البعيدة مثلا يمكن أن تحلل عبر دراسة دقيقة لطيفها الضوئي . وليس هناك اختلاف ملحوظ عن القوة الكهرومغناطيسية التي نلاحظها في مختبراتنا الأرضية .

وبعد أن توسع علماء الفضاء والفلك في آفاقهم لتشمل مناطق أوسع فأوسع في الكون، وجدوا المزيد من الأشياء نفسها . وليس واضحا لماذا كان الأمر على ما هو عليه . وقبل عدة قرون كان البشر يعتقدون أن الأرض هي مركز الخليقة وأن هذه الأرض فريدة في شكلها وموقعها، ومنذ أيام كوبرنيكوس، أخذت كل الأدلة تشير إلى الاتجاه المعاكس، أي إلى أن الأرض كوكب عادي في مجرة عادية ذات موقع عادي في الكون، وأن الكون مكون من وفرة فائقة من الأمور المتشابهة .

شكل العلماء هذه الأفكار في مبدأ يسمى (المبدأ الكوني)، ينص ببساطة على أن منطقتنا في الكون هي منطقية تشبه سائر المناطق الأخرى فيه ... وهذا الأمر لا ينطبق على الذرات والنجوم فحسب، بل على التوزيع العام للمادة والطاقة أيضا، فالكون منظم بشكل غير اعتيادي فيما يتعلق بتوزيع المجرات في عموم الفضاء، ودورانها حولنا، وعلى قدر ما نستطيع ما نرى، ليست هناك مناطق واتجاهات منفصلة في الكون . إضافة إلى ذلك، إن هذا التنظيم باق مع الزمن بتمدد الكون، ومعدل التمدد هو نفسه في كل مناطق الفضاء، وفي كل الاتجاهات . وبالفعل كان من الصعب أن نتصور كونا أبسط في شكله يحتوي على مراقبين من الأحياء . وفي الفصول السابقة وجدنا سببا مقنعا لهذا التعاون الكوني الواسع النطاق فيما يسمى (النظرية التضخيمية للكون) .

الصورة العلمية للكون هي صورة الانتظام والوضوح والبساطة على نطاق واسع . ولو كان الكون يتمدد بمعدلات مختلفة، وباتجاهات مختلفة، أو لو كان يحتوي على اختلافات حادة في الكثافة، وترتيب المادة لكان من المشكوك فيه أن يكون هناك موضوع اسمه علم الكونيات (وفي الواقع لما كان هناك علماء أيضا !) .

هذا الانتظام والوضوح والبساطة هي التي تمكننا من التحدث عن الكون كوحدة واحدة، وإلى حد قريب كان أصل هذه السمات النوعية سرا، أما الآن فنستطيع أن نرى التوجيهات الخاصة لبناء هذه السمات قد كتبت في صيغة قوانين الفيزياء، والقوة الفائقة تحتوي بالضبط على السمات اللازمة التي تؤهلها للتحكم في الكون في بداياته الأولى وتنظيمه في تركيب موحد في البساطة الواسعة النطاق التي نراها اليوم) .(52)

الملحق الرابع: القيمة المعرفية للفكر الاستقرائي للسيد الصدر

يقول السيد عمار أبو رغيف: (وفي ضوء ما تقدم يتضح لنا أهمية البحث الاستقرائي للشهيد الصدر، حيث جاء هذا البحث ليغزو الدليل الاستقرائي في أرضه التي رشد فيها اليوم، والتقى أحدث إنجازات الغرب على هذا الصعيد، ليتفهم بعمق، وينقد عن بصيرة، ويقدم شيئا خطيرا على مستوى الفكر العالمي المعاصر.

لم يرتض " الصدر " لنفسه أن يقف على نهايات الآخرين، ولم يجد عزاء بالتغني فــي أمجاد السلف وبدايات الأجداد، ومن ثم إغفال الواقع وتطورات المعرفة الإنسانية، ولم يتهيب " أرسطو " رغم كل ما أحيط به منطقه من تقديس.

البحث الاستقرائـــي عند الشهيد الصدر أفق جديد ونافذة جديدة اخترق بهــا السيد " محمد باقر الصدر " جدار الفصل السميك بين المنهج العلمي الحديث، وبين معطيات التاريخ الثقافي لحكماء ومناطقة المسلمين. وكان هذا الأفق وصلا أصيلا صدر إثر تنوير إمكانات العقل والتراث، دون أن يتردد صاحبه في الإفادة مما أنجزه الآخرون، ودون أن يستسلم فيقلد ما طرحه حكماء الغرب . بل ورد ميدان البحث واثقا بمعداته، متسلحا بسلاح العلم المحايد، مقارعا الحجة بالحجة، مع فهم موفق للفكر الغربي من داخله. ومن هنا حق على البحث العلمي المعاصر أن يسجل للصدر – على مستوى المنهج – مزية ندر أن توفر عليها باحث علمي في موضوع بحث غريب عن بيئته ومدرسته. حيث دخل السيد محمد باقر الصدر ميدان البحث في قضية معالجة " مشكلة الاستقراء "، التي تعني في الأفق الغربي المعاصر أمرا أجنبيا تماما عن أفق ومناخ الفكر الشرقي وأدواته الثقافية، دون أن يستشرف على هذه القضية من الخارج، بل عالجها على ضوء معطياتها الداخلية وفي ظل المناخ الرياضي والمنطقي الخاص، الذي طرحت خلاله. وحق أيضا على تاريخ البحث العقائدي الإسلامي أن يسجل للصدر الفضل في رسم طريق جديد لخط هذا البحث الذي فقد في كثير من تجاربه روح الحياد التي يبتغيها الإسلام. ومن ثم لا بد لتاريخ العلم – إن أنصف التاريخ – أن يقف للصدر وقفة إجلال وتقدير لرجل أيديولوجي يحمل فكرا، وينتمي إلى مدرسة فكرية ذات تراث، لكنه حفظ للعلم والفلسفة الحقة حيادهما فورد ميدان البحث العلمي والفلسفي في أخطر قضايا الفكر الحديث دون مسلمات لا تقبل الجدل). (53)

وفي كتابه " مقدمة في السؤال الاهوتي الجديد " وتحت عنوان " أزمنة علم الكلام الجديد "، يشير الدكتور عبد الجبار الرفاعي أن الفترة الثالثة من تطور علم الكلام الجديد تبدأ بصدور بعض الأعمال الجادة، التي تجاوزت الإطار التقليدي والمقولات الموروثة للمنطق الأرسطي، وعملت على زحزحة هيمنة هذا المنطق على التفكير الإسلامي، والإفلات من سطوته الأبدية. ويمكن القول أن كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) الذي صدر سنة 1971م، يعبر عن محاولة منهجية رائدة تتحرر من تقليد ارسطو وتفكر مستقلة في آفاق بعيدة من مقولاته . فللمرة الأولى يتخلص التفكير الإسلامي من قوالب المنطق الأرسطي، ويستند إلى منهج الاستقراء القائم على حساب الاحتمالات، بعد أن اكتشف الشهيد الصدر مذهبا جديدا في تفسير نمو المعرفة وتوالدها، غير ما كان معروفا في المذهبين التجريبي والعقلي، وأسماه (المذهب الذاتي للمعرفة)، وتوكأ عليه في تدوين (موجز في أصول الدين) الذي جعله مدخلا لرسالته العملية (الفتاوى الواضحة) .(54)

ويقول الشيخ حيدر حب في مقالته المعنونة بـ " علم الكلام المعاصر قراءة منهجية في التجربة الكلامية للشهيد الصدر ": (يعد الشهيد محمد باقر الصدر المفكّر الاسلامي الوحيد ـ ربما ـ الذي أسس لنظرية معرفية جديدة وخاصّة مهما كان الموقف من نظريته، فقد رفض الصدر الرؤية الأرسطية المدرسية في قراءة المعرفة وهي الرؤية القائمة على افتراض وجود قبليات عقلية عديدة ذات إنتاج عقلي بحت تكمن صحتها في اضطرار العقل إليها وعلى رأسها البديهيات العقلية الاولية كاستحالة اجتماع النقيضين ومبدأ العلية والسنخية و... كما رفض الصدر أيضاً المنهج التجريبي الحديث في قراءته لظاهرة المعرفة والذي كان يعتمد الحس والتجربة والملاحظة فقط أساساً للمعرفة ضمن صيغ محدودة.

ونقطة الإنعطاف في تجربة السيد الصدر المعرفية هي مشكلة الاستقراء، لقد وضع كل من المنطق الأرسطي والمنطق التجريبي نظريته الخاصة وموقفه الخاص من الاستقراء وتحديد يقينيته وشروط وكيفية هذا اليقين، فأعاد المنطق الأرسطي الاعتماد على القبليات فيما قدّم المنطق التجريبي تصوراته لحل المشكلة سيما الطرق الأربع التي اقترحها جون ستيورات ميل، لكن الصدر سجل ملاحظاته على الطرفين معاً مخصصاً حوالي ربع كتابه "الأسس المنطقية للاستقراء" لنقد هذين الاتجاهين ...

إن النقطة الجديرة بالتركيز عليها هنا هي توظيف الصدر نظريته المعرفية في العلوم الدينية بما فيها علم الكلام، فقد طبّق الصدر هذه النظرية في كلّ من علم أصول الفقه وعلم الفقه وعلم الحديث والرجال وعلم الكلام أيضاً، فعلى صعيد علم الأصول أعاد الصدر انتاج وسائل الاثبات ضمن قراءة استقرائية فدرس الاجماع والشهرة والتواتر والسيرة بشقيها العقلائي والمتشرعي على اسس استقرائية، كما آمن بما أسماه الدليل الاستقرائي المباشر الذي يقوم على تجميعات فقهية واسعة تلتقي في مركز واحد تحصل اليقين بالمركز نفسه وهو ما قدم تجارب مهمة فيه في كتابه "اقتصادنا" عندما درس مبدأ "العمل اساس الملكية في الإسلام"، وهو ما يترك اثراً كبيراً على التفكير الفقهي أيضاً، وعلى صعيد علم الرجال وظّف الصدر نظرية الاحتمال في تصحيح مراسيل الحسن بن محمّد بن سماعة عندما قاس نسبة احتمال اجتماع ثلاثة من شيوخه من الكذابين او غير الموثقين في رواية واحدة، وهكذا علم الكلام كما سنرى بالتفصيل.

وحصيلة القول أن واحدة من أهم إبداعات الصدر هي العقل الاستقرائي الذي حمله ووظفه في مختلف العلوم الدينية العقلية والنقلية، ولعله لو سنحت له الفرصة اكثر لقام بتوظيفات اكثر وأوسع وربما اهم وأعمق أيضاً، وعلى حد تعبير أحد الباحثين المختصين بالفكر المعرفي للشهيد الصدر إن هناك "موضوعان تأسيسيان في فكر الصدر وهما فقه النظرية والنزعة الاستقرائية "، "وهذه الاطروحة ـ دون مبالغة في القول ـ نقلتنا مع بعض وجوه مشكلات الاستقراء ونظرية الاحتمال ما يقرب من ثلاثة قرون واختزلت المسافات الزمنية التي تفصلنا عما عليه الوضع في غرب القارة (الكرة) في وجوه أخرى أكثر من قرن) . (55)

جاء في شرح كتاب المنطق للسيد كمال الحيدري : (يقول أحد المفكرين الإسلاميين: لم نجد في كتب الفلاسفة والمناطقة الإسلاميين – بل في كتب الإسلاميين من فقهاء وغيرهم – من استطاع أن يعطي نظرية علمية ترتبط بالفكر البشري سوى السيد الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سره)، فإنه أعطى نظرية منطقية يحتاج إليها كل إنسان سواء كان مسلما أم غيره ... فنظريته مرتبطة بالفكر الإنساني وليست مرتبطة بفكر إسلامي أو مسيحي أو يهودي أو ماوي وغير ذلك. وهذا مودع في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) الذي لم يعتن به ! رغم حاجتنا الماسة إليه في شتى مجالات العلوم لا سيما في التبليغ على مستوى الجامعات والمفكرين والعلماء في العالم أجمع، فإن المبلغ بهذا المستوى لا يمكنه الاكتفاء بالمنطق الأرسطي في مجابهة الفكر المضاد؛ إذ بمجرد أن يستدل على صحة دعواه بقياس من الشكل الأول – مثلا – يحتج عليه برفض القياس أساسا، فلا بد من أن يأتي من باب مؤثر يعترف به الخصم، وهو نتائج العلوم الطبيعية، فيقول للخصم مثلا، إنك تؤمن بنتائج العلوم الطبيعية وتقيم التجارب على عدة حالات وتستنتج منها قانونا عاما، ولكن استقراءك لا يسمح لك أن تعمم نتيجة تجربتك على الأشخاص الذين لم تجر عليهم التجربة، فأنى توصلت إلى هذه النتيجة الكلية؟ وضمن أي قانون وآلية استطعت أن تعمم نتيجة جزئية توصلت إليها من مقدمات أصغر منها؟

فإن أعطاك آلية ذلك، استطعت أن تستخدم نفس الأساس والآلية لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، ولإثبات نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وإمامة إئمتنا (عليهم السلام)، ولإثبات وجود القرآن الكريم وأنه هو نفسه الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على خاتم أنبيائه ورسله (صلى الله عليه وآله) وإثبات غير ذلك من المعارف.

ولهذا يقول السيد الشهيد الصدر (قدس سره) إن حجية التواتر ليست قائمة على أساس القياس كما هو ثابت في المنطق الأرسطي، من أنه كلما أخبر عدد من المخبرين تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، فخبرهم حجة، فإنك لو سألت المنطق الأرسطي عن هذه الكبرى لقال لك: إنها مستندة إلى مقدمة عقلية بديهية.

وقد ناقش السيد الشهيد المنطق الأرسطي في دعوى استناد التواتر إلى القياس بسبعة وجوه في الأسس المنطقية للاستقراء، فلا تبقى له أي قيمة.

ومما لا شك فيه أنك تؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وبأهل بيته (عليهم السلام) ولكن لو سئلت على الدليل على وجود الله أو وجود القرآن أو وجود النبي (صلى الله عليه وآله) أو وجود الأئمة (عليهم السلام) فلا يوجد عندك غير التواتر، فيقال لك: إن أحد علماءكم ناقش التواتر بسبعة أوجه فلا قيمة له ولا يصح الاعتماد عليه، فهل عندك دليل غيره؟

إنك إذا أردت أن تكون استدلاليا في عقيدتك، لا بد أن تقرأ منطق الاحتمال، وإلا كنت من المقلدين الذين ذمهم الله تعالى بقوله (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) بالإضافة إلى أن الخصم لا يمكنك إقناعه إلا بالدليل لا بالاعتقادات الوجدانية). (56)

أما الدكتور عبد الكريم سروش فعلى الرغم من موقفه النقدي للفكر الاستقرائي للشهيد الصدر، يقول: (يشتمل كتــاب " الأسس المنطقية للاستقراء " على أبدع أفكار وابتكارات الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر، وهو من أحلى ثمار ذهن الشهيد الصدر، الذهن الوقاد الباحث والمبدع ويمكن القول بجرأة: أن هذا الكتاب أول كتاب في تاريخ الثقافة الإسلامية، حرره فقيه مسلم، متناولا فيه إحدى أهم مشكلات " فلسفة العلم والمنهج العلمي " المصيرية، مع وضوح وبصيرة وشمول فــــــي عرض ونقد نظريات حكمــاء الغرب والشرق). (57)

ويقول - أيضا – : (حقا إن كتاب الأسس المنطقية للاستقراء يستحق الثناء والتقدير، كتاب تحقيقي وعلمي، لفقيه فيلسوف أثبت عمق بصيرته ودقة فكره في ميدان قضايا الفلسفة الحديثة. ويشتمل الكتاب على ابتكارات وإبدعات تليق لطرحها على مستوى النوادي العالمية. إن هجمات الشهيد الصدر الجريئة والمدروسة على أغوال نظير " لابلاس " و " كينز " و " راسل "، وفـي قضية فــي غاية التعقيد والدقة، أثبتت شجاعته الفكرية واقتداره العلمي، ووضعته في مصافي هؤلاء المفكرين، بل تقدم عليهم، وتدعوا المفكرين المسلمين الملتزمين لنقل هذا الأثر النفيس إلـــــــى لغات العــــالم الأخرى؛ ليتعرف عليه طلاب المعرفة وعشاقها . وقد كشف الشهيد الصدر عبر تأليف هذا الكتاب عن أهمية مسألة الاستقراء، وعــــــن سذاجة أولئك الذين يبتغون معالجتهـــــــا بقاعدة تخمينية ظنية، وذكّر بطبيعة الأدوات الجديدة التي يستخدمها المناطقة والمفكرون المعاصرون، والتي لا يمكن دون معرفتها النجاح في معالجة مشكلات من هذا القبيل. كما يدعو – تلويحا – الفلاسفة المسلمين، إلى التوفر على الفكر الحديث والتسلح بأدواته، وأن لا يغفلوا التحولات المذهلة، التي طرأت على الفكر الفلسفي خلال القرون الأخيرة، فيكتفوا بالعكوف على جمع وتفريق ما تركه السلف، ويمسكوا بأيديهم مصباح النقد المعاصر، فيضيئوا الظلمات الخفية لدوائر الفكر المنصرم ). (58)

هذا وقد كان الشهيد (رحمه الله) يعتز كثيرا بهذا الكتاب من بين كتبه الأخرى، ويراه معبرا عن مستواه العلمي والفكري وحصيلة لجهود علمية مكثفة كان يعبر عنها بحصيلة العمر. (59)

هذا ومن يريد التوسع في الاطلاع على المعطيات الأساسية التي ترتبت على فكر السيد الصدر رحمه الله فبإمكانه العودة لكتاب السيد كمال الحيدري " المذهب الذاتي في نظرية المعرفة " فقد خصص القسم الثاني منه لمتابعة تللك المعطيات على مستوى المنطق والفلسفة والعقيدة والبحث الأصولي.

 

رضا حسن الغرابي

...................

الهوامش:

41 – رضا حسن الغرابي، في رحاب الفكر الاستقرائي للشهيد محمد باقر الصدر، مصدر سابق، ج3، ص151-164.

42 – دونالد جيليز، فلسفة العلم في القرن العشرين، مصدر سابق، ص172.

43 – المصدر نفسه، ص190.

44– المصدر نفسه، 191-192.

45 – خالد عبد الجواد محمد زهرة، نظرية العلم، رسالة ماجستير، جامعة عين شمس، كلية البنات للآداب والعلوم والتربية، قسم الدراسات الفلسفية، ص70 – 71 .

46 – المصدر نفسه، ص134-135.

47 – باروخ بارودي، قراءات في فلسفة العلوم، ترجمة وتقديم الدكتور نجيب الحصاوي، ص537-543.

48– المصدر نفسه، ص560.

49– المصدر نفسه، ص560-561.

50– المصدر نفسه، ص563.

51 – ابراهيم مصطفى ابراهيم، منطق الاستقراء " المنطق الحديث "، مطبعة الانتصار، الاسكندرية، ص152.

52 – باول ديفز، القوة العظمى، ترجمة ميادة نزار، مراجعة وتنقيح الدكتور قدامة عبد الله الملاح .ص222-223.

53 – السيد عمار لأبو رغيف، الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش، مصدر سابق، ص10 – 11.

54 – مقدمة في السؤال الاهوتي الجديد، د: عبد الجبار الرفاعي، مركز دراسات فلسفة الدين، دار الهادي: ص36.

55 - الموقع الرسمي للشيخ حيدر حب الله.

56 – شرح كتاب المنطق: السيد كمال الحيدري، بقلم الشيخ نجاح النويني، دار المرتضى: ج3 ص95 – 96.

57 – الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش، مصدر سابق: ص15.

58 – المصدر السابق: ص18.

59 – شهيد الأمة وشاهدها، الشيخ محمد رضا النعماني، المؤتمر العالمي للامام للشهيد الصدر، قم، ط2، 1: 96.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم