صحيفة المثقف

المونطاج السينمائي

يعرف جافين ميلار g.milar   في كتابه "فن المونطاج" المونطاج بكونه: "فن وصل اللقطات السينمائية ببعضها في جميع مداخلها، حتى يكتمل الفيلم صورة وصوتا في تزامن دقيق وفي شكل فني خلاق يعتمد عليه الفيلم في وقعه واستحواذه على المتفرج".

من هذا المنطلق يمكن اعتبار المونطاج هو العملية التقنية التي تتضمن لصق مجموعة من المشاهد الواحد بجوار الآخر. أما معناه الجمالي فإن المصطلح يعني الربط بين المشاهد والمتتاليات، وبالتالي ترتيب السرد وضبط نظامه، ثم إيقاعه ومعناه. وإذا كانت السينما هي فن التركيب، فالمونطاج يتدخل في هذه المرحلة بالذات من دون أن يقوم بذلك المخرج نفسه، بل المونتير أو التقني المختص بذلك، ويجد هذا الأخير (المونتير) نفسه ملزما بجعل اللقطات تؤلف سياقا من الصور يحمل معنى، وكأن كل لقطة هي كلمة والمونتاج هو الجملة التي ـ باتصالها مع الجمل (اللقطات الأخرى) ـ تشكل جسم الفيلم كله من بدايته وحتى نهاية آخر لقطة فيه. ويقوم المونتير هنا بمنتجة المادة المصورة الخام للفيلم، بمعنى أنه يلصق الأجزاء المبعثرة ليجعلها متوحدة تبرز لنا صورة متكاملة من حيث محتواها، وشكلها وحركتها وجاذبيتها. إن الصيغة المونطاجية تهدف إلى صنع مادة الفيلم النهائية بعد أن نحذف ونقتطع لقطات لا نراها مناسبة لفيلمنا، ونقوم بعملية لصق (لقطات) نجدها ضرورية لفيلمنا حتى يكتسب هذا الفيلم نسيجا متلاحما مبنيا وفق ترابط منطقي ومعنوي يراعي معيار التراتبية في الأحداث، أي أن المونتير يسعى إلى تحقيق عناصر الاتساق والانسجام الفيلمي عن طريق تشكيل المونطاج الرابط بين كل الوحدات المتفرقة في الفيلم (اللقطات).

ولم يكن فن المونطاج، بهذا التعريف، معروفا في المرحلة الأولى للسينما، حيث كلف جهله رواد السينما العالمية الأوائل الثمن غاليا ماديا، ومعنويا، وفنيا، خاصة في تلك المرحلة التي كان يصور فيها الفيلم دفعة واحدة يعرض في شكله البدائي، ويحرم في ظل هذا النقص الفني، من تلك اللمسة الفنية السحرية / المونطاج.

ومع ظهور تقنية المونطاج وتطويره لمسايرة حداثة السينما وسرعة تطورها، تمكن الفن السابع من الاستفادة من هذه الشحنة الجديدة، خاصة مع قدوم "الشاشة العريضة" حيث أصبح المونطاج السينمائي للأفلام الروائية الطموحة يتحدد في مرحلة الإعداد والتصوير أكثر مما يتحدد في المرحلة التالية الخاصة بالتجميع في غرفة المونطاج. ويمكن الحديث في

هذا الصدد عن قسمين للمونطاج: قسم يختص بمونطاج الصورة، وهو قديم النشأة والتطور، وقسم يهتم بمونطاج الصوت، وهو حديث النشأة، حيث لم يتم اقتحام المؤثرات الصوتية والخدع والإيهام الخارجي bruitage عالم الفيلم إلا حديثا.

والمونطاج حسب "إيزنشتاين" s.m.eisenstein هو "الوسيلة التي تصبح (اللقطة) الواحدة عن طريقها وحدة سينمائية حية، وهو المبدأ الحي الذي يعطي معنى للقطات الفجة". ويعرف أرسون ويلز المونطاج بأنه العمل التطبيقي أو الفعل المادي الذي يؤلف العناصر قطعة قطعة مع تنسيق مختلف اللقطات والتخلص من الصور الداخلية غير الضرورية.

والمونطاج بمعناه الدقيق ليس عملية تقطيع وتوصيل وتجميع اللقطات المصورة، لكنه عملية تركيب خلاف لجزيئات الفيلم من حيث تكوين الأفكار والمعاني والأحاسيس والمشاعر والإيقاع والحركة، وكذلك تحقيق الوحدة الفنية للفيلم.

وهنا لابد من التذكير بالدور الهام الذي يلعبه الوصل بين اللقطات حتى لا يحس المشاهد بالانتقال من حركة أو شخصية إلى أخرى بشكل مباغت، وبخصوص أنواع الوصل يمكن تحديد الصيغ التالية:

- الوصل عن طريق النظرة: الانتقال مع الممثل من مشاهدة شيء في اللقطة الأولى إلى الشيء المشاهد في اللقطة الثانية.

- الوصل عن طريق الاتجاه: بحيث أننا في اللقطة الأولى نشاهد سيارة خاصة تعبر قنطرة ثم في اللقطة الثانية نلاحظ الشخصية وقد استقلت سيارة تاكسي متحركة في نفس الاتجاه.

- الوصل عن طريق حركة جسدية: إذ نتابع بداية الحركة من اللقطة الأولى إلى الثانية كمن يفتح بابا ثم يلتفت ليغلقه خلفه.

- الوصل عن طريق محور الكاميرا: بحيث نفس الموضوع يتم تصويره حينا عن بعد ثم حينا آخر عن قرب من دون تغيير مكان الكاميرا.

- الوصل عن طريق المجال ضد المجال: حيث يتابع المشاهد تنقل الكاميرا وهي تصور شخصين يتحاوران فتتناوب عليهما حسب من ينظر للآخر أو يأخذ الكلمة تارة من اليمين وأخرى من اليسار.

- الوصل عن طريق الصوت: كأن نسمع صوت جرار في لقطة ما ثم نتابع سماع نفس الصوت في اللقطة الثانية.

- الوصل عن طريق اللون: وذلك بالانتقال من لقطة إلى لقطة حيث يكون الرابط بين الشيئين عنصر اللون.

- الوصل عن طريق الكلمة والصورة: حيث يتحدث شخص عن شيء مثلا ثم نراه أو نسمعه في اللقطة الموالية.

والمونطاج يسعى دائما إلى تحقيق نوع من التسلسل والتدرج السردي، هذا التدرج الذي ينبني انطلاقا من عمليات دمج اللقطات فيما بينها في تنظيم وتناسق محكم. وأنواع المونطاج عديدة ومتعدة نذكر منها:

- المونطاج التتابعي أو الكرونولوجي: والذي بحكم منطقه يظل وفيا للخطاب السردي من حيث البداية والوسط ثم النهاية، كأن نصور مثلا عملية إعداد القهوة من بدايتها إلى نهايتها.

- المونطاج المتوازي: يتطرق من خلاله لعرض حدثين متباعدين زمنيا ومكانيا.

- المونطاج التناوبي: الذي يتطرق لحدثين في نفس الوقت مثل فيلم إيزنشتاين "المذرعة بوتمكين".

- المونطاج عبر اللازمة: كتصوير مشاهد تتمحور حول نفس الفعل كالحرب أو الحب..

- المونطاج عبر الحذف: ويتعلق الأمر بحذف زمني معين من سلسلة من الأحداث التي يتم القفز على بعضها دون تصويرها كاملة، كالدخول إلى المرحاض ثم الخروج منه.

- المونطاج التحليلي: والذي يتم عبره تجزيء الحدث أو الموضوع إلى جوانب متعددة تسمح للمشاهد بتكوين نظرة شمولية منه.

- المونطاج التركيبي: حيت يعتمد على بناء المعنى من خلال دمج مجموعة من اللقطات..

هكذا يتبين أن المونطاج يعمل على خلق نسيج مركب يربط كل حلقات الفيلم المنفصلة من أجل خلق عنصر التناسق والاتساق الفيلمي، هذا الاتساق الذي يتحقق نتيجة الوصل بين وحدات الفيلم المنفصلة، فيتحقق الاتصال والترابط على مستوى اللقطات والأفكار والمشاعر والأحاسيس.. وهذا ما يتطلب خبيرا على دراية كبيرة بهذا المجال، لأن المونطاج ليس عملية ربط ووصل بين اللقطات فقط، بل يجب أن يكون صاحبها قادرا على تركيب الوحدات المنفصلة في إطار يحمل دلالة ومعنى وسياقا مناسبا يواكب التغيرات التي تطرأ على المشاهد، وهذا ما يخلق لنا الوحدة المعنوية للفيلم.

 

محمد فاتي

أستاذ باحث في مجال الصورة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم