صحيفة المثقف

فالح مهدي وعبد الجبار الرفاعي.. دراسة للظاهرة الدينية من منظورين مختلفين (1)

في هذه المقالة سأشير إلى مجموعة من الملاحظات التي تتعلق بالحوار الذي دار بين الباحثين "فالح مهدي" و"عبد الجبار الرفاعي" حول كتاب الأخير "الدين والظمأ الأنطولوجي"، والتي أرى أنّ من المناسب والمفيد الإشارة إليها بغية إثراء ذلك الحوار وتعميقه.

طريقتي في هذه المقالة: أبدأ، أولا، بنقل بعض ما ذكره " فالح مهدي " من ملاحظات حول كتاب " الدين والظمأ الأنطولوجي "، وأنتقل، ثانيا، إلى نقل ما أورده الرفاعي من ردود على تلك الملاحظات، وأسجل، ثالثا، ملاحظاتي على مادار من حوار بين الباحثين. وفي حالة عدم وجود ردود من قبل الرفاعي على ملاحظات مهدي، فإنّي سأنقل هذه الملاحظات ثم أعلق عليها بشكل مباشر.

(1)

يقول فالح مهدي: (لقد كتب الكثير عن عبد الجبار الرفاعي، وهو يستحق دون ريب عبارات الثناء والتقدير التي وردت في كل تلك الكتابات. لم تكن الكتابات بدافع الإطراء والمديح لذلك الرجل الدمث الأخلاق، المفكر الذي ينزع ألى أنسنة الدين، إنّما كانت تتلاقى مع أطروحات الكتاب.

في قراءتي هذه سأغرد منفردا، اعتمادا على منهجي الذي يدرس الظاهرة الدينية في ضوء المكان. من المؤكد هو أنني لم أقرأ كل ما كتب عن عبد الجبار الرفاعي، إنّما وفي ضوء ما كتبه عنه أصدقاؤه تلامذته ومريدوه وفي ضوء ما قرأت من نقد ومراجعات لعمله). (1)

رد الرفاعي: (كتب الصديقُ د. فالح مهدي مراجعةً نقديةً لكتابي "الدين والظمأ الإنطولوجي" من منظور مختلف عن المنظور الذي أتبناه في كتابي هذا. فكتبت له: كتابتك اعتز بها، ذلك أنّها كانت أقرب للمنهج الغربي الحديث في البحث والنقد العلمي، وهو منهج يفتقر إليه الكثير من الكتابات في شرقنا العربي، التي تبتعد عن النص، وتنشغل بالكاتب أحياناً، وتنزع للمدح والثناء أو الذم والهجاء.

كل كتابة تكشف لي ثغرات كتابتي، وتحيل إلى مرجعيات غير مرجعياتي، وتحاكم أفكاري من منظور مختلف، تمنحني فرصة لمراجعة مرجعياتي، وفحص أفكاري، وترشدني لنقد وثوقياتي ومنطقي في التفكير والتعبير.

أكرر امتناني لحضرتك، لأنك حرّضت عقلي على التفكير في الإيمان خارج الإيمان، والتفكير في الدين خارج الدين، والتفكير في التدين خارج التدين، والتفكير في التراث خارج التراث، والتفكير في أفكاري خارج أفكاري). (2)

التعليق:

أولا: على الرغم من أنّ مصطلح " أنسنة الدين " لم يرد ذكره في هذا الحوار، باستثناء ما وصف به " فالح مهدي " " الرفاعي " بأنّه المفكر الذي ينزع إلى أنسنة الدين، لكنّي مع ذلك سأبدي ملاحظاتي المتعلقة بذلك المصطلح الغامض والملتبس بما له من معاني وتجليات متعددة. ومبرري في ذلك، أنّه يتلاءم مع الأجواء العامة للمقالة، إذ أنّ أغلب الملاحظات التي سأشير إليها في هذه المقالة تنظر إلى أمور تتعلق بالمصطلحات والقضايا المنهجية.

ما أفهمه من " أنسنة الدين " في الفكر الغربي أنّها الانتقال من فكرة دينية عن القيم ترى فيها أنّها مجسدة في تعال عمودي إلى فكرة أنّ هذه القيم مجسدة في قلب الإنسانية، بمعنى آخر أن الأنسنة نزع للطابع الديني عن القيم وإضفاء الطابع الإنساني عليها دون إضرار بالتعالي الذي تستبطنه هذه القيم بطبيعتها، بل بإعادة ترتيب لهذا التعالي من كونه تعاليا عموديا إلى تعال أفقي. فالتضحية كقيمة، تستبطن الاعتراف بمعنى متعال على الوجود الخاص بالنسبة لمن يدرك ضرورتها، (فلأجل أية دوافع ومن أجل أية كيانات ضحت الكائنات البشرية على مر الأزمان، بحياتها، أو على الأقل بأحد أوجه هذه الحياة؟) وأنسنتها تعني الانتقال من فكرة دينية عن التضحية إلى فكرة أنّها لن تستطيع أن تطلب إلا " من الإنسان ومن أجله ". كذلك الحب أنسنته الانتقال به إلى الفضاء الإنساني بعد أن كان مخصصا للألوهية (أو لكيانات متعالية على البشر مثل الوطن أو الثورة)، وأنسنة الخلاص ستقوم على تأسيس معنى الوجود، ليس على الألوهية، وإنما على الانسان بما هو انسان، على عقله وحريته، على الاقتناع أنه بفضل قواه الذهنية وحدها، يستطيع، بل ينبغي أن يصبح صانع مصيره الخاص. فلأول مرة – في ضوء الأنسنة - سوف لا يستقي الخلاص مصدره ولا غايته القصوى من كينونة خارجة عن الإنسانية ومتعالية عليها، بل من الانسان ذاته. الأنسنة، باختصار، تغير علاقة الإنسان بالمقدس، دون أن تتضمن اختفاءه التام. أنسنة الدين إذن، بحسب ما تقدم، لا تعني أنّها تفسير الدين على أساس أنّه ظاهرة بشرية، بل هي تذهب إلى أبعد من ذلك، إنّها تحاول أن تقدم، كما أوضحنا، قراءة للتعالي الذي يرتكز عليه الدين تختلف عن القراءة الدينية له، فهي لا تنكر أنّ الدين منبع للقيم ولا ترفض التعالي، ولكنها تحاول أن تقرأ القيم في ضوء قراءة للتعالي تختلف عن قراءة الدين له، وأخيرا فإن الأنسنة ليس وليدة اليوم أو الامس القريب بل هي سيرورة منذ البدايات اتجهت بالتدريج نحو تقدم في الاستقلالية، واكتملت في اللحظة المعاصرة التي أصبح فيها الإنسان لا يخرج من قصوره فحسب، وإنّما زيادة على ذلك ينفذ إلى ذاته على وجه الخصوص.

من هنا يعتقد " لوك فيري " أنّ " فرنسيس فوكاياما " لامس شيئا صحيحا بالأساس عند حديثه عن " نهاية التاريخ ". فـ - بحسب فيري – لم يكن فوكوياما يريد القول أنّه لن تكون ثمة أحداث تاريخية وتراجعات كليانية أو استبدادية محتملة، بل لاحظ فقط أنّنا اليوم عاجزون عن تصور فلسفة وسياسة أسمى من هذه الإنسانوية الثانية حيث تنفذ البشرية أخيرا إلى ذاتها، إلى استقلاليتها الحقيقية. (3)

في الملحق الوارد في نهاية هذا الجزء من هذه المقالة سيجد الراغب في المزيد حديثا مفصلا عن هذا المعنى للأنسنة.

أغلب الظن أنّ فالح مهدي حينما ذكر أنّ الرفاعي ينزع إلى أنسنة الدين لم يكن في ذهنه المعنى الذي أوضحناه لهذا المفهوم، وأنّ ما دار في ذهنه عن مفهوم أنسنة الدين هو ما يتبناه الرفاعي من معنى لهذا المفهوم.

فما هو مفهوم الرفاعي عن " أنسنة الدين " ؟

يقول الرفاعي: (ربما يشي استعمال مصطلح " أنسنة الدين " بتفسير وضعي للدين، يفهم الدين بوصفه ظاهرة ينتجها الإنسان، وهو كما اشتهر تفسيره لدى مجموعة من الفلاسفة والمفكرين والعلماء الغربيين، إذ قدموا تفسيرات وضعية متنوعة للدين، كان فيها الدين لديهم تعبيرا عن اغتراب الإنسان الكوني، أو خوفه، أو جهله، أو أنّه ضرب من المرض النفسي " الوهم "، أو أنّه مرحلة من مراحل تطور الوعي البشري يغادرها المجتمع لحظة ينتقل إلى رتبة أنضج وأكمل من الوعي، أو أنّه تبرير للاضطهاد والتعسف في التوزيع والاستغلال الاقتصادي الذي تتعرض له الطبقة العاملة، ومن ثم تخديرها. هذه التفسيرات وغيرها تنزع إلى فهم الدين وكأنّه بمثابة الفقر أو الجهل أو المرض أو غير ذلك من الظواهر السائدة في الاجتماع البشري، بينما يتطلب الدين تفسيرا أبعد مدى مما ذهبت إليه كل تلك التفسيرات ... ما أعنيه بـ " أنسنة الدين "، ليس هو ما يذهب إليه بعض المفكرين من أنّ الدين ينبغي أن يدرس كأية ظاهرة بشرية مقطوعة الصلة عما عدا البشر، ولا تبرير أو تفسير لوجودها وتطورها خارج عوالم البشر الحسية، وكأنّ الدين كأية ظاهرة بشرية يمكن أن نفهمهما في إطار ما نفهم سواها من ظواهر ... " أنسنة الدين " التي أدعو إليها هي نمط حضور لـ " الإله الروحي الأخلاقي " في حياة الإنسان، وبكلمة أخرى هي " تدين إنساني روحاني أخلاقي "، لا يقطع الصلة بالله ويجعل الدين ظاهرة بشرية خالصة، مثلما لا يتجاهل الطبيعة البشرية، ويتعاطى مع الإنسان وكأنّه روح مجرد فقط، وإنّما يوظف كل المعطيات المتاحة للعلم والمعرفة والخبرة في الفهم الصحيح لهذه الطبيعة، وهو كما يسعى إلى تأمين احتياجاتها الجسدية في سياق هذا الفهم، لا ينسى احتياجاتها العابرة للجسد من حاجة لمعننة الحياة وتنمية القدرة على التغلب على القلق الوجودي، وتزويد الإنسان بما يخفف عنه آلام الحياة ويشفيه من مواجعها، ويخلصه من التشاؤم والعدمية في عالمه البشري الذي تنكشف له فيه على الدوام مواقف تشي بالعبثية واللامعنى. أنسنة الدين عندي بمعنى " إنسانية إيمانية، وإيمانية إنسانية، وهي لا تتطابق والإنسانية غير الإيمانية التي يتحدث عنها بعض المفكرين في الغرب والشرق، وتتمحور فيها الأنسنة على مركزية الإنسان، وتفضي إلى نسيان الله وتأليه الإنسان). (4)

هنا بودي أن أسجل الملاحظتين الآتيتين:

الملاحظة الأولى: ذكر الرفاعي أنّ مفهوم " أنسنة الدين " عند بعض المفكرين الغربيين يعني أنّ الدين ينبغي أن يدرس كأية ظاهرة بشرية مقطوعة الصلة عما عدا البشر، ولا تبرير أو تفسير لوجودها وتطورها خارج عوالم البشر الحسية. وهذا الكلام ربما يشي بأنّ هذا المعنى هو الشائع في الفكر الغربي لـ " أنسنة الدين "، بينما يبدو للبعض أنّ المعنى الشائع لهذا المفهوم في ذلك الفكر هو ما ذكرناه أعلاه.

الملاحظة الثانية: لمفهوم " أنسنة الدين " معاني متعددة يجري تداولها في الأوساط الفكرية والثقافية، مما يجعل هذا المفهوم محاطا بالغموض. ولا أدري لماذا استعمل الرفاعي هذا المصطلح بالذات للتعبير عما يريده ؟ خاصة وانّ البعض، استنادا إلى ما يشي به المصطلح، يتساءل: هل أنّ الدين في حاجة إلى أنسنة ؟ ألم يأت الدين من أجل الإنسان ؟ وهذا التساؤل قد يكون الرفاعي معني به أكثر من غيره، ذلك أنّه ربما يتصور البعض أنّ هناك تناقضا بين موقفين مختلفين للرفاعي، فمن جهة هو يدعو إلى إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، ومن جهة أخرى يدعو إلى أنسنته !

من الواضح أنّ إجابة الرفاعي عن هذا السؤال ستكون أنّه يريد بـ " أنسنة الدين " معنى آخر، كما أوردناه عنه أعلاه، غير الذي يشي به هذا المصطلح، ويحق له بطبيعة الحال أن يستخدم المصطلح بالشكل الذي يريد، طالما أنّه يوضح ذلك، ولكني أظن أنّه كان من الملائم أكثر لو أنّ الرفاعي نحت لما يريد التعبير عنه مصطلحا خاصا به.

ثانيا: يقول " فالح مهدي ": في قراءتي هذه سأغرد منفردا، اعتمادا على منهجي الذي يدرس الظاهرة الدينية في ضوء المكان. ونحن لا ننكر على فالح مهدي حقه في اختيار ما يشاء من منهج، ولكننا نود أن نناقشه في مدى فاعلية المنهج الذي استند إليه في دراسة الظاهرة الدينية وفي ضوئه قرأ كتاب " الدين والظمأ الأنطولوجي ".

في مناقشتنا هذه لن نستعين لا بالمواقف الراديكالية من المنهج، كموقف " غادامير " الداعي إلى فك الارتباط بين الحقيقة والمنهج، (على أساس أنّ المنهج ليس هو الطريق إلى الحقيقة، بل من دأب الحقيقة، على العكس، تفوت رجل المنهج، وتروغ منه). (5). أو موقف " فيرابند " الرافض لفكرة وجود منهج علمي، والرافع للشعار المثير للجدل " كل شيء يمر " (كله ماشي) (6) فبحسبه: لا وجود لمنهج علمي ثابت صالح لكل زمان، ولكل العلوم، وله معايير. (7) ولا بالمواقف التي تنكر الطابع العلمي للعلوم الاجتماعية والانسانية ولمناهجها، كموقف " فوكو "، الذي يبين فيه أنّ " العلوم الإنسانية " ليست مجرد " علوم زائفة " بل هي ليست علوما على الإطلاق. (8)

ولن نلجأ لأسلوب من فمك أدينك، لنختار من بين علماء العلوم الإنسانية نفسها من يتحدث عن تراجع في موقفه اتجاه تقييمه لهذه العلوم، كما هو الحال مع " ليفي شتراوس "، الذي انتهى إلى التخفف من مزاعمه العلمية بصورة تكاد أن تكون خفية بعض الشيء، وصار في السبعينات يعتبر أنّ الدراسة الوصفية للأسطورة هي ضرب من بناء أسطورة عن الأسطورة. والحقيقة أنّنا نجد لديه في مؤلفاته المتأخرة نبرة مختلفة تماما عما كان عليه من قبل، بهذا الشأن. (9)

ولن نشارك البعض اعتقاده بانتفاء الحاجة إلى العلوم الإنسانية لأنّها لا تقدم جديدا، كما هو الحال في موقف " أندريه كومت – سبونفيل " الغريب من هذه العلوم، والذي يعبر فيه عن شعوره بالملل منها، رغم أنّه لا ينكر شرعيتها. إنّه يقول: (لا أزعم الإفلات من العلوم الإنسانية أو أنّني أريد معارضة تقدمها، بالعكس ! أن أحدد اجتماعيا، يبدو لي أمرا طبيعيا جدا لا يستدعي مني قراءة كي أعرفه. يبدو لي واضحا أيضا أنّ هناك لا شعورا نفسيا وحتمية نفسية .. الخ. أنا لا أعتقد اطلاقا بحرية الاختيار ولا بالشفافية الذاتية للفاعل ! بحيث أنّ لي شعورا بأنّ كل ما بإمكان العلوم الإنسانية الإتيان به هو تطوير وتدقيق لتفاصيل أطروحة أعتقد أنّها صحيحة بالأساس، لكنّها صحيحة كثيرا بقدر لا يجعلني بحاجة إلى العلوم الإنسانية للاقتناع بها). (10)

كل هذه المناقشات حول جدوى العلوم الاجتماعية والإنسانية ودقة مناهجها سوف لن نستعين بها في مناقشتنا لفالح مهدي، لأنّها، في رأينا، لم تكن منصفة في تقييمها للعلوم الإنسانية ومناهجها. رغم ما فيها من فائدة تجعل الباحث يبتعد عن المغالاة في تقدير المنهج الذي يتبناه، ويكون أكثر تواضعا في طرحه للنتائج التي يتحصل عليها بالاستناد إلى ذلك المنهج.

لن نناقش فالح مهدي في سبب اعتماده منهجه الذي يدرس الظاهرة الدينية في ضوء المكان، وفيما إذا كانت هناك مبررات لذلك أم أنّ الأمر على نحو الترجيح بلا مرجح؛ فقد: (بات الوضع اليوم يدعو إلى المزيد من التأمل في طرائق التعاطي مع المناهج بنحو من الترجيح بلا مرجح، لنقل الترجيح بضربة حظ في ظرفية تكاثرت فيها المناهج حتى أصبح التكافؤ بين النظريات والمناهج أمرا لا يتحمل مسؤوليته العقل المدبر لها، بل أنّ تكاثرها وتعقيدها يفرض صعوبة الترجيح). (11)

ما أو أن أقوله هنا هو الآتي: يؤكد " فالح مهدي " على دور المكان في تشكيل العقل والتفكير، إنّه يعتمد المكان في دراسة الأفكار والقيم والأعراف والأخلاق والأيديولوجيات وأنماط التفكير والسلوك وكذلك المذاهب والأديان بما فيها الإسلام.

(المفهوم الجغرافي للتاريخ، يعتبر العامل الجغرافي والطبيعي اساسا لتاريخ الأمم والشعوب، فيختلف تاريخ الناس باختلاف ما يكتنفهم من العوامل الجغرافية والطبيعية؛ لأنّها هي التي تشق لهم طريق الحضارة الراقية، وتوفر لهم أسباب المدنية، وتفجر في عقولهم الأفكار البناءة أحيانا، وتوصد في وجوههم الأبواب، وتفرض عليهم السير في مؤخرة القافلة البشرية أحيانا أخرى، فالعامل الجغرافي هو الذي يكيّف المجتمعات بما يتفق مع طبيعته ومتطلباته) (12)

ينتمي منهج المكان إلى ما يسميه البعض " نظريات العامل الواحد "، التي يسعى أصحابها إلى تفسير المجتمع والتاريخ بعامل واحد من العوامل المؤثرة في دنيا ألإنسان، إذ يعتبرونه المفتاح السحري الذي يفتح مغاليق الأسرار، ويمتلك الموقف الرئيسي في عمليات التاريخ، ويفسرون العوامل الأخرى على أنّها مؤثرات ثانوية تتبع العامل الرئيسي في وجودها وتطوّرها، وفي تقلّباتها واستمراريّتها. (13)

مما يلاحظ على هذا المنهج الذي يتبناه " فالح مهدي " هو أنّه من نوع المناهج التي هي في أساسها فرضيات رأى فيها أصحابها، على أساس انسجامها مع بعض المعطيات، أنّها حقائق يمكن الاستناد إليها في تفسير المجتمع والتاريخ، دون التنبه إلى احتمال وجود فرضيات منافسة هي أيضا يمكن أن تنسجم مع نفس المعطيات؛ فافتراض أن تكون الثقافة منتجا للمكان، وبذلك تختلف الثقافات من مكان إلى آخر، وكون ذلك ينسجم مع مجموعة من المعطيات، لا يمنع من وجود افتراض منافس، ينسجم هو أيضا مع نفس تلك المعطيات، كالافتراض، مثلا، الذي يرى أنّ أيّ ثقافة في أي مكان هي ليست منتجا للمكان بل هي في الحقيقة تحقيق كمون للكائن البشري في مكان معين. يقول " بسراب نيكولسكو ": (ما من ثقافة هي المكان الممتاز الذي يمكن منه الحكم على الثقافات الأخرى. كل ثقافة هي تحقيق كمون للكائن البشري، في مكان معين تماما من الأرض وفي لحظة معينة تماما من التاريخ. أمكنة الأرض المختلفة ولحظات التاريخ المختلفة تحقّق الكمونات المختلفة للكائن البشري. فالكائن البشري في كليته المفتوحة، هو المكان بلا مكان، لما يجتاز الثقافات ويتخطاها .... الثقافات المختلفة هي الوجوه المختلفة لللإنساني). (14)

يلاحظ البعض أنّ نظريات العامل الواحد لا تتفق مع الواقع؛ لأنّ كل واحد منها قد حاول أن يستوعب بعامل واحد تفسير الحياة الإنسانية كلها، وأن يهب هذا العامل من أدوار التاريخ وفصول المجتمع ما ليس جديرا به لدى الحساب الشامل والدقيق. (15)

كان على " فالح مهدي " أن يستفيد من جميع التحديات التي واجهها المنهج، ومما توصلت إليه التجربة البشرية بعد مسيرتها الطويلة والمضنية في البحث عن الحقيقة والمتمثل في أنّ الحقيقة لا يمكن أن يستوعبها أو يحيط بها تخصص ما أو بضعة تخصصات ولا يمكن الوصول إليها من خلال منهج معين أو بضعة مناهج.

لقد دعا العديد من المفكرين ممن وعى هذا الدرس، ومنهم إدغار موران (الفكر المركب)، وبسراب نيكولسكو (العبر مناهجية)، ويورغن هابرماس (العقل التواصلي)، إلى تجنب الرؤية الإحادية والتطلع إلى فكر متعدد الأبعاد، تتكامل فيه الآراء دون أن يقصي بعضها بعضا. ينبغي على كل طرف – بحسب هابرماس –، أيا كان انتماؤه، أن يعمل على نفسه، ويرتد على داخله، لكي يعقل ويتدبر مسألة " حدوده " (تدرب المرء على الوعي بتناهيه، يفتح الإمكان لإعادة بناء العلاقات بين العقل والدين، أو بين مجال وآخر، أو قوة وأخرى، بمنطق تداولي) (16) إنّ التمترس وراء العقل العلمي في دراسة الظاهرة الدينية لا بد وأن يؤدي إلى رؤية رافضة للرؤية التي تستند إلى القلب او غيره، وإذا لم يعمل العقل العلمي على نفسه، ويرتد على داخله، لكي يعقل ويتدبر مسألة حدوده، فإنّه يعجز عن تفكيك آليات عجزه، على نحو يتيح له أن يفهم ما كان يمتنع على الفهم أو يفعل ما كان لم يكن بمستطاعه فعله، (فإنّ الاشتغال على الحدود يفتح أمام المرء الإمكان الوجودي لبناء قدرات خارقة على المعرفة والعمل، أو لاتخاذ مبادرات فعالة باتجاه الآخر على المستوى الاجتماعي والسياسي. بهذا المعنى فالإقرار بالمحدودية، بمعنى الوقوف عند الحد، هو في الوقت نفسه اختراق للحد كعازل أو كعائق. ومقولة التفكير في الحدود والعمل عليها، هي تخط للنقد الكنطي الذي يقوم على سبر الإمكان بمعرفة حدود العقل، إذ تعني اجتراح إمكانات جديدة لتجاوز الحدود المرسومة وكسر الحتميات المقفلة. إنّها ثمرة الموجة النقدية الجديدة التي مثلها فلاسفة ما بعد الحداثة، كما تجسد ذلك مع فوكو الذي يتخطى مقولة " التشريع للعقل "، بالمعنى الكنطي، إلى تشريع الأبواب وفتح مفهوم الإمكان على كل أبعاده، واحتمالاته، وعلى نحو تتغير معه العلاقة بين الممكن والمستحيل). (17)

(لكي نفهم سبب ثورة فيرابند ونظرائه على المنهج – وإن كان تقويض المنهج حتى في طريقة فيرابند لا يعدم منهجية – علينا أن نحصي فظاعات المنهج الواحد والأضرار التي يخلفها فعل تسلّطه على الفكر. لقد اختار أمثال هؤلاء الفوضى على المنهجية؛ لأنّ الفكر قد يجد فضاءً لنشاطه الخلاق أكثر مما يفعل وهو مكبّل بالمنهج. المنهج إذن، سجن للفكر وقمع مستمر لفعاليته. غير أنّنا نعتقد أن لا مخرج من المنهجية حتى في هجاء المنهج. لا نقارع المنهج إلا بمنهج قد ينفي عن نفسه فضل المنهجية. ومن هنا، لا بد من البحث عن مخرج لهذه الأزمة، وليس إذن أمام مأزق المنهجية سوى أن نجد طريقا للاستفادة منها والتحرر من سطوتها. وقد عزّز هذا الأمر خيار التعدد المنهجي، فيما ارتقى البعض إلى خيار أكثر حيوية: البين-مناهجية ... غير أنّ مآلات الأمور انتهت إلى اعلان العبر- مناهجية كذروة الصهر لهذه المناهج وتجاوزها معا. منشأ الخلط إذن كامن في تذرير المعرفة وتحويلها إلى حصون منيعة فقد معها العلم كليته) (18)

(تقترح الرؤية العبر مناهجية علينا النظر في واقع متعدد الأبعاد، مبني على مستويات عديدة، يحل محل الواقع الأوحد البعد، ذي المستوى الواحد، للفكر الكلاسي) (19) إنّها تؤكد على مستويات الإدراك ومستويات الواقع: (إنّ التوافق بين الذات العبر مناهجية والموضوع العبر مناهجي، يمر بالتوافق بين مستويات الإدراك ومستويات الواقع. بذلك يختفي في الرؤية العبر مناهجية الفصل الكلاسي واقعي – خيالي. إنّ مستوى ما من مستويات الواقع ثنية في جملة مستويات الإدراك، ومستوى ما من مستويات الإدراك ثنية في جملة مستويات الواقع. الواقعي ثنية للخيالي والخيالي ثنية للواقعي. لقد كان الأقدمون على حق: هناك فعلا مخيلة حقة، خيال مؤسس، حق، خلاق، رؤيوي. من ثنية إلى ثنية يبتكر الإنسان نفسه.

الواقع يشمل الذات والموضوع والقدسي، بما هي الوجوه الثلاثة للواقع الواحد نفسه. بدون واحد من هذه الوجوه لا يعود الواقع واقعا، بل استيهام مدمر. إن مجتمعا قابلا للحياة لا يمكن أن يكون إلا مجتمعا تجتمع فيه هذه الوجوه الثلاثة اجتماعا متوازنا. إنّ مشكلة القدسي، مفهوما بوصفه حضور شيء في العالم لا تختزل واقعيته، هي مشكلة لا يمكن تفاديها في كل مقترب عقلاني للمعرفة ... إنّ إلغاء القدسي أدى إلى فظاعة أوشفيتس وإلى الملايين الخمس وعشرين من الموتى للنظام الاستاليني ... إنّ أصل التوتاليتارية يوجد في إلغاء القدسي، القدسي، بما هو اختبار واقع لا يقبل الاختزال، هو بالفعل العنصر الضروري في بنيان الوعي، وليس مجرد شوط في تاريخ الوعي. عندما ينتهك هذا العنصر ويشوه ويبتر فإنّ التاريخ يصير إجراميا). (20)

(وعليه، فإنّنا نعتبر العبر مناهجية هي المشترك الذي يمكن أن تلتقي عنده الإنسانية على اختلاف مللها ونحلها من دون تحيز أو تعصب؛ لأنّها ليست طرفا بل هي ميزان لقياس الحقيقة. إنّها تعترف بالقدسي فهي على طريقة مرسيا إلياد لا تعتبره بالضرورة مستلزما للإيمان بالله، ولكن هذا لا يعني أنّها تحمل موقفا ضد الإيمان بالله. فليست هي دينية ولا هي لا دينية: إنها عبر دينية). (21)

(الموقف العبر ديني ليس مجرد مشروع يوطوبي: إنّه مدون في أغوار كياننا، من خلال العبر ثقافي الذي يفضي إلى العبر ديني) (22)

(إنّ التقدم الصاعق للعلم التقني لم يفعل سوى تعميق الهوة بين الثقافات. لقد انهار منذ وقت طويل أمل القرن التاسع عشر في ثقافة واحدة لمجتمع عالمي قائم على السعادة التي يجلبها العلم. لقد شهدنا عوضا عن ذلك، من جهة، الفصل التام بين العلم والثقافة، ومن جهة أخرى، التجزؤ الثقافي داخل الثقافة الواحدة.

لقد ولد الفصل بين العلم والثقافة اسطورة الفصل بين الغرب والشرق، الغرب، المؤتمن على العلم بما هو معرفة للطبيعة، والشرق، المؤتمن على الحكمة بما هي معرفة للكائن البشري. هذا الفصل الجغرافي والروحي في آن معا، فصل مفتعل، لأنه، كما أصاب هنري كوربان الملاحظة، هناك شرق في الغرب وغرب في الشرق. في كل كائن بشري يجتمع، كمونيا، شرق الحكمة وغرب العلم، شرق الوجدان وغرب الفاعلية. غير أنّ لأسطورة الفصل بين حكمة الشرق وعلم الغرب ، شانها شأن كل أسطورة، حصتها من الحقيقة، ذلك إنّ العلم الحديث قد ولد فعلا في الغرب وأسلوب الحياة الغربي يكاد حاليا ينتشر في كل أصقاع كوكبنا، مخلا بتوازن الثقافات المنقولة. إنّ الغرب المسلح باقتداره الاقتصادي، يتحمل مسؤولية كبيرة: كيفية تحلل ثقافي ناجم عن تنمية لا كابح لها للعلم التقني ؟

... يدل العبر ثقافي على انفتاح كافة الثقافات على ما يجتازها ويتخطاها ... هذا الإدراك لما يتجاوز الثقافات ويتخطاها هو، أولا خبرة لا تختزل إلى أي تنظير، لكنه غني لحياتنا وعملنا في العالم. إنّه يدلنا أنّه ما من ثقافة هي المكان الممتاز الذي يمكن منه الحكم على الثقافات الأخرى. كل ثقافة هي تحقيق كمون للكائن البشري، في مكان تماما من الأرض وفي لحظة معينة تماما من التاريخ. أمكنة الأرض المختلفة ولحظات التاريخ المختلفة تحقق الكمونات المختلفة للكائن البشري. فالكائن البشري في كليته المفتوحة، هو المكان بلا مكان، لما يجتاز الثقافات ويتخطاها ... الثقافات المختلفة هي الوجوه المختلفة لللإنساني). (23)

ملحق: أنسنة الدين

كتب " لوك فيري " تحت عنوان " أنسنة التضحية ": (إنّ الحداثة ليست رفضا للتعالي، وإنّما هي إعادة ترتيب هذا التعالي على شروط توافقه مع مبدأ رفض حجج السلطة: فهمُ الغيرية الذي يمارس حضوره بقوة في الفلسفة المعاصرة، ينزع إلى اتخاذ شكل " دين للآخر ". إنّ هذا التقديس للبشري بما هو كذلك يفترض الانتقال مما يُمكن أن نسميه بـ " تعال عمودي " (للكيانات الخارجية والمتعالية على الأفراد) إلى " تعال أفقي " (تعالي الناس الآخرين بالعلاقة معي ... ولعله ينبغي، لإنصاف مثل هذا الانتقال، كتابة تاريخ للتضحية: فلأجل أية دوافع ومن أجل أية كيانات ضحت الكائنات البشرية على مر الأزمان، بحياتها، أو على الأقل بأحد أوجه هذه الحياة ؟ لأنّ التضحية مقبولة إراديا كيفما كان المضمون الممنوح لها، وأيا كان مداها، تتضمن دوما، على الأقل بالنسبة للذي يعتقد بإدراك استعجاليتها، الاعتراف بمعنى متعال على وجوده الخاص. فهو يسلم، بكيفية صريحة أم لا، بأنّ هناك عالما آخر يحتوي على قيمة أكبر من العالم الدنيوي يمكنها أن تكون مثلا (على أنّ هذه الأمثلة ليست مختارة بالمصادفة المحضة ...): التسبيح لله، الأمة، الثورة، حسب ترتيب يمضي من الأكثر إلى الأقل عمودية، من الإلهي إلى البشري .. عند الرومانسيين، ينزع الشعب إلى احتلال المكان الذي كان مخصصا فيما مضى لله: فهو يشكل كيانا أعلى من المجموع البسيط للأفراد الذين يكونونه، ومع ذلك فإنّه يمثل أنسنة معينة للإلهي. نفس الشيء بالنسبة للثورة، المتعالية، هي كذلك، على الأفراد الذين يموتون من أجلها؛ والتي تندرج سلفا في النظام الدنيوي الأرضي.

إنّ التضحية في سبيل الوطن أو في سبيل القضية الثورية لم تعد اليوم أمرا مجديا، فهل اختفت نهائيا من أفقنا الأخلاقي؟ لقد سبق لي أن أوحيت بأنّ الأمر ليس كذلك، غير أنّ ما هو صحيح، بالمقابل هو أنّها تغيرت بعمق في طبيعتها: فإذا لم يعد مواطنونا مستعدين للتضحية من أجل قيم " عمودية " قد تفرض عليهم من أعلى إلى أسفل، كقوى خارجية، فإنّهم يبدون أحيانا مستعدين لفعل ذلك من أجل كائنات أخرى، بشرط " أن تكون إنسانية). (24)

وبعد أن يثير العديد من التساؤلات إلتي يمكن قد يطرحها البعض على ماسبق من كلامه، يقول: (إنّنا لا نعيش نهاية القيم التضحياتية بقدر ما نعيش، بالمعنى الدقيق، أنسنتها، الانتقال من فكرة دينية عن التضحية إلى فكرة أنّها لن تستطيع أن تطلب إلا " من الإنسان ومن أجله ". إنّ هذه التوزيعة الجديدة هي التي تحكم، في نظام الأخلاقية، ظهور انشغالات غير مسبوقة ... حيثما كانت هناك تضحية، هناك أيضا فكرة قيم عليا. وكون أنّ هذه القيم تدرك اليوم على أنّها مجسدة في قلب الإنسانية، وليس في تعال عمودي ما، لا يغير من ألأمر في شيء. أو بالأحرى نعم: إنّ هذا يغير علاقة الإنسان بالمقدس، ولكن لا يتضمن إطلاقا اختفاءه التام، حتى وبما في ذلك داخل النظام الجماعي، فالتعالي الجديد لا يفرض أقل من القديم، حتى ولو كان يفعل ذلك على نمط آخر: إنّه يظل نداء إلى نظام من الدلالة، إذا كان يتجذر في الكائن البشري، فإنّه يحيل مع ذلك على خارجية جذرية، ومن كونه كان معينا في السابق في أعلى الأخلاقية، التي كان يزعم تأسيسها كليا، فإنّ المقدس ينقلب إلى جهة الأسفل . ولعل في هذا الانتقال من الأعلى إلى الأسفل، من اللاهوتي- الأخلاقي إلى اللاأخلاقي- الديني، لا يزال يكمن سر الأخلاق المستقبلية.

إنّ مستلزم الاستقلال، المحبب جدا إلى الإنسية الحديثة، لا يلغي فكرة التضحية، ولا فكرة التعالي. وإنّما ببساطة، وهذا هو ما يجب أن يفهم جيدا، يتضمن أنسنة للتعالي، ومن ثم ليس القضاء كلياعلى، ولكن بالأحرى انتقالا للصور التقليدية للمقدس. إنّ الحب الذي كان مخصصا في الماضي للألوهية (أو لكيانات متعالية على البشر مثل الوطن أو الثورة) قد تأنسن، ولنفس الأسباب، الأيديولوجيات التضحياتية أيضا، ودون أن تزول، فإنّها قد تغيرت؛ وخصوصا، فإنّها غيرت موضوعها). (25)

وتحت عنوان أوجه جديدة للمقدس كتب " فيري ": (إنّ درس المؤرخين ثمين جدا. فهو يسمح لنا بكيفية أفضل أن نفهم تاريخ محتمل للتضحية، ومن ثم للتمثلات التي يقيمها البشر عن المقدس. إنّ السيرورة البطيئة لتحرر العالم من الأوهام التي تمت بواسطتها أنسنة الإلهي تنكشف هكذا معوضة بحركة موازية لتأليه الإنساني. وهو ما يجعل التشخيص إشكاليا إلى أبعد حد، التشخيص الذي بحسبه قد نشهد بلا قيد ولا شرط تآكل كل التعاليات في كل أشكالها وقد انهزمت بآثار دينامية محتومة: دينامية الفردانية الديمقراطية. فكل شيء يشير على العكس إلى أنّ هناك تعاليات تعيد تشكيل ذاتها، أولا في دائرة العواطف الفردية، ولكن أيضا وبدون شك فيما وراءها، من خلال اعتبار الإنسانية في مجموعها. ولأنّ هذه التعاليات تعاش في محايثة الذوات، فإنّها تعرف مجالا جديدا للمقدس. إنّ هذا المجال هو الذي علينا الآن أن نحيط بحدوده). (26)

هذا المعنى للأنسنة هو الذي أقلق مضجع الكنيسة، فـ - والكلام لـ " فيري " – (من جهة " يقظة العالم "، أو بعبارة أفضل، الحركة الواسعة لـ " أنسنة الإلهي " التي تميز منذ القرن الثامن عشر صعود العلمانية في أروبا. فباسم رفض حجج السلطة وحرية الضمير، لم يكف مضمون الوحي من أن " يؤنسن " على امتداد القرنين الأخيرين. ولعل على هذا النزوع بالذات لا يكل البابا الحالي عن تكثير رسالاته. ولعل في هذا السياق يجب مهما كان موقفنا من ذلك، تأويل وفهم معاركه) (27) ... (إنّ الكنيسة تمارس المقاومة، لكن ليس دون سبب: فإذا كان الاتجاه هو إلى أنسنة مصادر القانون والأخلاق والثقافة، وإذا كانت هذه الأنسنة تتضمن إعادة مساءله التعاليات العمودية القديمة، فكيف يمكن الاستمرار في الحفاظ على مصداقية لاهوت أخلاقي). (28)

 

رضا حسن الغرابي

.........................

الهوامش:

1 – عبد الجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير للطباعة والنشر، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد. ط2. 2017م. ص261.

2 – نفسه، ص267.

3 - لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، ترجمة محمود بن جماعة، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2015م، ص68.

4 – عبد الجبار الرفاعي، في أنسنة الفكر الديني، مجلة ذوات، العدد (35)، 2017م، ص45 – 46.

5 - عادل مصطفى، فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007م، ص276-277.

6 – بول فيرابند، ثلاثة محاورات في المعرفة، ترجمة محمد أحمد السيد، الناشر: منشأة المعارف بالأسكندرية، ص16.

7 – رضا حسن الغرابي، المذهب الذاتي ونظرية المعرفة، سينشر قريبا، ص143.

8 – زكريا ابراهيم، مشكلة البنية، مكتبة مصر، ص37.

9 – ليونارد جاكسون، بؤس البنيوية، ترجمة ثائر ديب، دار الفراقد، سورية – دمشق، ط2، 2008م، ص128.

10 – جان فرانسوا دورتييه، فلسفات عصرنا، ترجمة ابراهيم صحراوي، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2009م، ص277-278.

11 - ادريس هاني، المعرفة والاعتقاد: مقاربة عبر- مناهجية في أنساق الفكر الإسلامي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2012م، ص45 – 46.

12 - محمد باقر الصدر، اقتصادنا، العارف للمطبوعات، بيروت، 2012م، ص54.

13 – نفسه، اقتصادنا ص53.

14 - بسراب نيكولسكو، العبرمناهجية: بيان، ترجمة ديمتري أفييرينوس، تقديم أدونيس، دار مكتبة ايزيس، دمشق، 2000م، ص127-130

15 - محمد باقر الصدر، اقتصادنا، مصدر سابق، ص55.

16 - علي حرب، الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 2010م، ص235.

17 – نفسه، ص235.

18 - ادريس هاني، المعرفة والاعتقاد، مصدر سابق، ص46-47.

19 - بسراب نيكولسكو، العبرمناهجية، مصدر سابق، ص61.

20 – نفسه، ص87-88 وص 147-148.

21 - ادريس هاني، المعرفة والاعتقاد، مصدر سابق، ص53.

22 - بسراب نيكولسكو، العبرمناهجية، مصدر سابق،ص151.

23 – نفسه، ص124 وص130.

24 - لوك فيري، الإنسان المؤله أو معنى الحياة، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، المغرب، 2002م، ص105-106.

25 – نفسه، ص107 – 109.

26 – نفسه، ص134.

27 – نفسه، ص44.

28 – نفسه، ص53.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم