صحيفة المثقف

آخر ليلة في هذا العالم

ترجمة لقصة القاص

ري برادبيري

mohamad abdulkarimyousif

آخر ليلة في هذا العالم

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

 

"ماذا تفعل إذا عرفت أن هذه الليلة هي الأخيرة في هذا العالم ؟ "

"ماذا سأفعل ؟ هل تقصد ما تعنية ؟ هل أنت جاد؟ "

" نعم أنا جاد."

" أنا لا أعرف. لم أفكر في الأمر . " ثم أدارت مقبض ركوة القهوة الفضي نحوه و وضعت الفنجانين في الصحنين .

سكبت قليلا من القهوة . في الخلفية، كانت البنتان الصغيرتان تلعبان بالمكعبات على سجادة الصالون في ضوء مصابيح الأعاصير الخضراء . كانت رائحة القهوة النظيفة المخمرة تعبق في الهواء مساء.

تابع قائلا: " حسنا. من الأفضل أن نفكر في الموضوع ."

أجابته زوجته: " بكل تأكيد أنت لا تقصد ما تقوله ."

أومأ برأسه .

" هل تقصد الحرب؟"

هز برأسه.

" لا تقل القنبلة الهيدروجينية أو الذرية ؟"

"كلا."

" ولا الحرب الجرثومية ."

 تابع قائلا: " لا شيء من هذا . لنقل إنها الصفحة الأخيرة من كتاب . " ثم بدأ يحرك قهوته ببطء ويحدق في أعماقها السوداء .

" لا أعتقد أنني أفهم ما تقوله."

كان يرمق الفتاتين وشعرهن الأصفر مشع بسبب ضوء المصباح ثم خفّض صوته وقال: " كلا . وأنا أيضا لم أفهم . إنه مجرد شعور . أحيانا يخيفني، وأحيانا لا أشعر بالخوف نهائيا بل أشعر بالسلام الداخلي . أنا لم أخبرك بأي شيء . حدث معي هذا لأول مرة منذ أربعة أيام خلت . "

" ماذا؟ "

" كان حلما رأيته . حلمت أن كل شيء سينتهي وكان هناك صوت قال ذلك . لم يكن كأي صوت على ما أذكر . لكنه كان صوتا مختلفا . قال أن كل شيء سيتوقف على الأرض . لم أفكر كثيرا في الأمر عندما استيقظت في الصباح التالي . لكن عندما ذهبت للعمل انتابني هذا الشعور طوال اليوم . رأيت ستان ويليز يحدق في النافذة في منتصف النهار. قلت سأدفع بنس إن قلت لي بماذا تفكر يا ستان . فقال لي: "رأيت حلما الليلة الماضية ." وقبل أن يخبرني عن فحوى الحلم، عرفت بماذا حلم. لكنه أخبرني بحلمه وأنا استمعت إليه.

" هل كان نفس الحلم الذي رأيته؟ "

" نعم . لقد أخبرت ستان بأنني حلمت بنفس الشيء أيضا. لم يندهش . في الحقيقة جلس واسترخى . ثم بدأنا نفتش عن معناه من مكتب لأخر . لم يكن الأمر مخططا له . لم نقل شيئا لكننا بدأنا البحث عن معناه . مشينا رأينا الناس ينظرون إلى مكاتبهم أو أيديهم أو من خلال النوافذ ولا يرون شيئا أمام أعينهم . تحدثت لبعضهم وتحدث إليهم ستان."

" وكلهم حلموا بنفس الحلم ؟ "

" كلهم شاهدوا نفس الحلم تماما من دون أي اختلاف . "

" هل تؤمن بالأحلام ؟"

" نعم . لم أكن متيقنا بها كما أنا اليوم . "

" ومتى سيوقف ؟ أقصد العالم ."

" في وقت ما في الليل بالنسبة لنا، ثم يمتد مع حلول الليل في العالم وسوف تذهب هذه الأجزاء المتقدمة أيضا . سيستغرق الموضوع أربع وعشرين ساعة وينتهي كل شيء."

جلسا لبرهة من الزمن . لم يلمسا قهوتهما . ثم رفعا فنجانيهما ببطء و رشفا القهوة ثم نظر كل واحد منهما بالأخر .

قالت له: " وهل نستحق ذلك ؟ "

" المسألة ليست مسألة استحقاق. إنها مسألة أن الأشياء لا تعمل . ألاحظ أنك لم تناقشي هذا الموضوع .أليس كذلك ؟ "

قالت: " أعتقد أن لدي أسبابي."

" إنه نفس السبب الذي قدمه كل شخص في المكاتب ."

أومأت برأسها . وهي تلتقط صحيفة المساء وقدمتها له قائلة:" لم أرغب أن أقول أي شيء. هذا ما حدث ليلة أمس . كل النساء في هذا المجمع السكني يتحدثن به. لا يوجد شيء في الأخبار عن هذا الموضوع. "

أخذ الصحيفة ثم جلس مسترخيا في كرسيه وقال: " كلا . كل الناس يعرفون . ماذا نحتاج ؟ هل أنت خائفة ؟ "

" كلا . ولا يجب أن أخاف من أجل الطفلتين . أفكر دائما أنني مرعوبة حد الموت. لكنني لست كذلك . "

"أين غريزة حب البقاء التي تحدث عنها العلماء كثيرا؟"

" لا أعرف. الانسان لا يشعر بالإثارة عندما يشعر أن الأمور منطقية .وهذا شيء منطقي . ولا شيء أخر لكن هذا يمكن أن يحدث من الطريقة التي عشنا بها . "

" لم نكن سيئين للغاية . أليس كذلك؟ "

" كلا . ولم نكن جيدين كثيرا . وأعتقد أن هذه هي المشكلة . لم نكن نهتم إلا بشؤوننا الخاصة في حين كان السواد الأعظم من الناس مشغولين في ارتكاب أشياء مريعة."

كانت الفتاتان تضحكان في الردهة وهما تشبكان يديهما وتهدمان المنزل الذي صنعتاه من المكعبات .

" كنت أتوقع أن أرى الناس يصرخون في الشوارع في وقت كهذا."

" لا أعتقد ذلك . الإنسان لا يصرخ عند حدوث الأشياء الحقيقية ."

" هل أخبرك شيئا ؟ لن أفتقد أحد إلا أنت والبنتين .أنا لم أحب يوما المدن أو السيارات أو المعامل أو العمل أو أي شيء إلاكم أنتم الثلاثة . لن أفتقد إلا عائلتي وربما التغير في الطقس أو كأس ماء بارد في طقس حار أو رفاهية النوم .سأفتقد أشياء صغيرة لكنها مهمة . كيف نجلس هنا وكيف نتحدث ؟ "

" لأنه لا يوجد شيء أخر يمكن أن تفعله."

" هذا هو الحال، بالطبع، إذا كان هناك ما يمكن فعله، كنا سنفعله، وأعتقد أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ العالم أن الجميع يعرف حقا ما كانوا سوف يفعلونه في الليلة الماضية. "

" أسأل نفسي ماذا يفعل الناس الآن، هذا المساء، خلال الساعات القليلة القادمة . "

" اذهب إلى المعرض. استمع إلى الراديو . شاهد التلفاز . العب الورق . خذ الأولاد للنوم . دعهم ينامون لوحدهم . أحبب كل شيء. "

" افعل كل شيء وكأنك فخور به ...أحبب دائما "

" لسنا جميعنا سيئين ."

جلسا للحظة ثم سكبا المزيد من القهوة . " لماذا تعتقد أن ذلك سيحدث الليلة ؟

" لأن..."

" لماذا ليس المقصود بالحلم ليلة ما خلال العشر سنوات الماضية من القرن الماضي، أو من خمسة قرون أو عشر قرون ؟"

" ربما لأنه لا يوجد 30 شباط عام 1951 ولم يتكرر هذا اليوم سابقا في أي يوم من أيام التاريخ . والآن حدث. إنه موجود . وهذا التاريخ يعني أكثر مما يعنيه أي تاريخ آخر. لأنه التاريخ الذي تكونت فيه الأشياء كما هي في العالم . ولهذا السبب كان هذا التاريخ هو تاريخ النهاية . "

" هناك قاذفات في طريق الذهاب والعودة عبر المحيط الليلة وهي لن ترى الأرض ثانية ."

" لماذا هذا جزء من المنطق؟ "

ثم قال: " حسنا . ليكن ما يكون ؟ ألن نغسل الصحون ؟ "

غسلا الصحون بحرص ثم رتباها في مكانها بعناية فائقة . وعند الساعة الثامنة والنصف ذهبت الفتاتان الصغيرتان للنوم وقبلاهما وشغلا الأنوار الصغيرة بجانب سريريهما وتركا الباب مفتوحا قليلا.

قال الزوج وهو يخرج بعد أن نظر نحو الخلف وغليونه في يده للحظة صغيرة: "أسأل نفسي.."

"ماذا ؟"

"أيهما أفضل أن نترك الباب مغلقا أم نتركه مفتوحا قليلا فقد نسمعهما إن صرخا . "

" أسأل نفسي إن كانت الطفلتان تعلمان – هل ذكر أحد ما أي شيء أمامهما؟ "

" كلا . طبعا لا . لقد سألتا حول الموضوع."

جلسا ثم قرأا الصحف وتحدثا ثم استمعا للموسيقا على الراديو ثم جلسا بجانب الموقد ينظران إلى الفحم المحترق. دقت الساعة العاشرة والنصف ثم الحادية عشرة ثم الحادية عشرة والنصف . فكرا بكل الناس في العالم الذين قضوا هذا المساء كل بطريقته الخاصة .

تحدث أخيرا وقال: " حسنا " . ثم قبّل زوجته لمدة طويلة .

" لقد كنا طيبين مع بعضنا على أي حال."

سألها: " هل ترغبين بالبكاء؟ "

" لا أعتقد ذلك."

تجولا في المنزل ثم أطفأا الأنوار وأقفلا الأبواب وذهبا إلى غرفة النوم ثم وقفا عاريين وسط الظلام . أخذت غطاء السرير وطوته بعناية فوق الكرسي كما كانت تفعل دائما. ثم دفعت الأغطية . وقالت:" هذه الأغطية باردة ونظيفة وأنيقة ."

"أنا متعب ."

" كلانا متعب."

اندسا في السرير واستلقيا.

قالت: " انتظر لحظة ."

سمعها تنهض وتخرج من البيت، ثم سمع صوت صرير الباب . ثم عادت بعد لحظات. و قالت: " يبدو أنني تركت الماء يجري في المطبخ . لقد أغلقت الصنبور."

شعر أن هناك شيء مضحك وأن عليه أن يضحك .

شاركته الضحك لأنها تعرف الشيء المضحك . ثم توقفا عن الضحك أخيرا واستلقيا في سريرهما البارد الليلة . شبكا أيديهما وقربا رأسيهما من بعضهما .

بعد لحظة، قال لها: " تصبحين على خير ."

أجابته بإيماءة ناعمة من رأسها قائلة:" تصبح على خير . يا حبيبي."

 

محمد عبد الكريم يوسف - كاتب ومترجم سوري

...............

الحواشي:

العنوان الأصلي للقصة:

The Last Night of the World , Ray Bradbury , 1951 , republished 2012

ري برادبيري: أديب أمريكي يكتب في مجال أدب الرعب والفانتازيا والخيال العلمي، من أشهر أعماله رواية فهرنهايت 451 والتواريخ المریخية. لدیه الكثير من الحكايات الصغيرة ومنها ما تحول إلى أفلام أمريكية مثل هیبة الرعد. ولد رايموند دوگلاس برادبري في مدينة وككان في مقاطعة ليك بولاية إلينوي الأمريكية في 22 أغسطس 1922، وانتقلت عائلته إلى لوس أنجلوس في سنة 1934 في فترة الكساد الكبير. وبعد أن ترك المدرسة عمل في بيع الصحف بالإضافة إلى التأليف في أوقات الفراغ. بدأ ينشر مؤلفاته من مطلع أربعينات القرن العشرين، حيث نشر أول قصة له في سنة 1941. ومن مؤلفاته الشهيرة مجموعة التواريخ المريخية الصادرة في سنة 1947، ثم رواية فارنهايت 451 في سنة 1953 التي منحته الشهرة العالمية. تزوج برادبيري في سنة 1947 من ماركريت ماكلور (1922–2003)، وبقيا معاً حتى وفاتها، ولهما أربع بنات. وبعد ثلاثة أعوام بدأت شهرته الأدبية مع نشره مجموعة قصصية حملت عنوان التواريخ المريخية عن مجموعة رجال ذوي نزعة مادية بشعة يستعمرون المريخ ويقومون باستغلاله بشكل مدمر. ألف برادبيري 13 رواية وأكثر من 400 قصة قصيرة، وتحول بعضها إلى أفلام أو صور متحركة بالإضافة إلى العديد من المسرحيات والسيناريوهات لأفلام سينمائية وبرامج تلفزيونية . أصيب بسكتة دماغية قبل عدة سنوات من وفاته فبقي مقعداً يتنقل على كرسي، لكنه حافظ على نشاطه في التأليف والمشاركة في الفعاليات الأدبية وجمع التبرعات. توفي مساء 5 يونيو 2012 (أو صباح 6 يونيو بالتوقيت العالمي المنسق) في لوس أنجلوس، وأوصى أن يدفن في مقبرة الحديقة التذكارية في ويستوود ڤلدج، وأن يُكتَب على شاهدة قبره "مؤلف فارنهايت 451".

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم