صحيفة المثقف

المنامة الخامسة والاربعون: (ضِفِل)

mohamadtaqi jonلا يدّعي ابن سيَّا أنه ابتكر أو أشَّر البخل ولواحقه: الأنانية، الأثرة، الشح...الخ، ولا أنه يريد أن يزايد على (الجاحظ) في الكتابة عن البخلاء، فهذا أمر بعيد عن الهدف والتحقيق. فهل ترك ابن سيَّا الجِدَّ الذي صرَّح به، وتجرَّد له، وركب إليه العتاقَ والجُرْدَ، إلى اللهو وإضاعة الوقت وأحاديث القيلولة؟

ولكن ابن سيَّا يؤكد أن البخلَ إذا كان طبيعة تنشأ عند بعض الناس والأسر والمناطق، فهو اليوم في العراقيين (تطبُّع) نائب عن (الطبع) كما ينوب (التمييز) أحيانا عن (الخبر) بُعداً عن الأصل والطبيعة!!

إنها حالة مزرية حقاً؛ فإذا كنت قلما تجد بخيلاً في العراقيين (قبلا)، فاليوم قلما تجد كريماً!! وإذا وجد حقاً (الكريم مَرَضاً) كما وصف أبو تمام، و(الكريم خُرقا) كما نعت أبو نواس، أوصافاً تتجاوز المألوف من الكرم والجود، فإن ابن سيَّا اكتشف أوصافاً تتجاوز المألوف من البخل والشح، وأعلى درجاته أو أوطأ دركاته على الدقة.

إنه (ضِفِلْ) فيا للغريب الغربيب والبديع البعيد!! فأيّ اقتناص للفظ وأي اعتياص! فأين (ضِفِلْ) من (البُخِل)؟ وما الداعي لأن تتربع (الضفالة) أو (البخل المزدوج) على (عرش) البخل والمنع؟

" له وجه بليد، ويزداد بلادة حين يكون في حالة (إعطاء)... يكح كحات قافزة متنازلة كقفزات كنغر هارب شحاً، فلا يتكلم ولا يعطي. رأيته (قال ابن سيا) وقد سأله أحدهم عن الوقت فمدّ يده طويلة (مدَّ الكريم) وسحب الردن عن الساعة باهتمام (المعطي)، ونظر إلى السائل كنظره إلى (المستعطي) وأعلمه الوقت وكأنه أعطاه (الوقت)، وتمتم حين ذهب: (حتى شكراً ماكو)!!!

ولقد لفت الانتباه (تلك القالة) التي أشَّرته (حالة)، حين سأله ابن سيَّا عن مكان ليدله عليه، فنظر طويلا في عيني ابن سيَّا فهم منه انه ينتظر ذهاب شخص مريب ليخبره، فبقي ينتظر والأسئلة الفِجَّة حوله مُضِجَّة، والاستغراب يفتح باباً بعد باب: من ينتظر؟ ولم ذلك وسؤالي بسيط؟ ولكنه طمأن ابن سيَّا - بالنظر طبعا - بأن عقبى الانتظار مجدية، وقبل أن يخرج ابن سيا من معهود صبره إلى مفجور ضجره التفت (هذا) يمنة ويسرة خشية أن يسمعه (أحد) أو (ذاك المريب)، وبصوت يتخافت إلى الهمس ذكر له المكان؟!؟!؟!

فخبط ابن سيَّا خبط عشواء في سيره عن الرجل إلى المكان تعجباً، حتى خبط رصيف الشارع، وصدم أحد المارة، وكدم آخر. وراح يحلل هذا الشخص، ويعلل ظاهرته. انه مرادُهُ وصيد صادَهُ، وكشفٌ واكتشافٌ جديد، فيا بؤسه كشفاً واكتشافاً! وهل يتوقع بأنه في (زمكانه) هذا سيتاح له كشف واكتشاف ما يتاح للمكتشفين في الشرق والغرب حيث البيئة الكشفية الصحية؟ انه سيكتشف الموت ويكشف عن الموتى!

وفي مختبره وبتجاربه بين تكسر الدوارق، وانفجار السحَّاحات، واحتراق الأنابيب، وانتكاسات ونهايات شتى... وصل إلى ناجح التحليل وناجع التعليل:

" إنه (بخيل) ونفسه (أبخل منه)! فهو بخيل مزدوج متعمق في البخل كلما أوغلَ أبخلَ! وهكذا عندما سألته بخِلَ، ولكنه كان أكرم من (داخله الأبخل)، فأمهلني حتى يغفو داخله، وبعد أن اطمأنَّ  إليه التفت إليَّ وهمس بصوت خائف متخافت لكيلا يستيقظ (الأبخل الأدخل) فيمنعه من إسداء (الفُضيل أو الفضيليل، أو الفضيلليل)!! فيا لتعاسة ابن سيَّا بهذا الجديد المضاف المضيف عبئاً على أعبائه وحملا على أحماله، ويا لتعاسة بشراه زفها إلينا ويا لصعوبة حياتنا به علينا.. ثم تمتمَ ابن سيا فزمزم: 

من بعدما حاتمُها               زالَ، وجُودُها ارتحلْ

وصارَ بخلاً (طبعُهَا الجمعــــــــــــــي)، وما شذّ فقلّ

مدينتي يسودها                 مزدوَجُ البُخلِ ضِفِلْ

البخلاءُ عنــــده                 صاروا عبيداً وَخَوَلْ

وخجل الجاحظُ مما خطَّ فيهـــــــــــــــــــــــــم وذُهِلْ

والبخلُ قد أخلى له العــــــــــــــرشَ وعن حُبٍّ نزلْ

ضفالةٌ مرتبــــةٌ                فاقتْ مراتبَ البُخُلْ

بل صارَ بخلٌ عندَهَا           جُوداً غبياً وَبَــــذِلْ

لا يعملُ الفضلَ وإسمُهُ لمقلـــــــــــــــــــــوبُ فَضِلْ

يُعِدُّها معجزةَ الجودِ إذا أعطــــــــــــــــــــــــى أَمَلْ

اذا البخيلُ جاد بالقــــــــــــــــــــــــول فضِفلٌ لم يَقُلْ

أو همَّ بالوعدِ فمن أعماقِــــــــــــــ،،ـــــــــهِ نهاه ظِلّ

ضفلٌ عراقيٌّ جديدٌ أصَّلـــــــــــــــــــــــــــوه فَأَصُلْ

 

أ. د. محمد تقي جون

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم