صحيفة المثقف

ثالث الجولات في عبقر

sardar mohamadبدأت بتسوية وتنضيد بعض الحوائج التي تلزمني في جولتي الثالثة ولبست طيلساني الحريري ووضعت الإثمد على أهلّة جفوني، وزاد اعتنائي بعمّتي فجعلتها مائلة ونكّستها قليلاًعلى جبهتي، مستغلاً رقاد حبيبتي المراقبة الإنسيّة .كان ظنّي أن الجان يراقب الإنس، حركاته، سكناته، وتبيّن لي أن الحبيبة الإنسيّة إذا صدقت بحبها تراقب الإنسيّات والجنيات والشيطانات، تخشى فقد الحبيب – وقد يقتل الحزن من أحبابه فقدوا -، حملت خرجي بميناي وخفّي بيسراي وتسللت بهون وبخطى هادئة، خطوة أولى ..ثانية ...ثالثة ..قربت من باب الغرفة إذن سأنطلق كالعصفور الذي فرّمن قفصه،،، وإذا بصوت ينسلّ من زجاج المرآة

 - أهكذا يهرب الرجال ؟؟ عجبي .

فكأنما نزلت علي صاعقة، تسمّرت وأجبت سريعاً

- ليس هرباً، بل حرص ألّا توقظك جعجعة خروجي وتوجهي إلى عبقر، ولمَ أهرب هل كنت سياسياً سارقاً أو سلطوياً منافقاً .

- مرّة أخرى لعبقر؟ يا لعبقر هذا، والله إني لخائفة منه خوفاً شديداً .

- لا تخافي، فلا مفخخات فيه، ولا من يطلب فدية لإطلاق سراح مختطف .

وصلت الوادي، نزلت السفح متبختراً، فوجدت دليلتي تترقب مجيئي بكل جرأة وحرية، فلا تخاف من بذيء متربص بحجج واهية مستغلاً الدين كستار، وحين وصولي بدأت بكلمات اعجاب بلباسي وزينتي، وقالت :

- هلم ّ بنا إلى السفح الغربي من الوادي حيث شياطين وشيطانات شواعروشعراء الأندلس، وطيلسانك الحريري يلائم رقّتهم وانسياب عباراتهم .

- تمهل، تمهل هذا مشهد غريب قد لا يتكرر، أميرتان عاشقتان، شيطان ولاّدة بنت المستكفي يناجي شيطان عليّة بنت المهدي وأخت هارون الرشيد .

- أمرعجب، واحدة أمويّة والأخرى عبّاسيّة، وبعض لبعض عدوّ .

- هكذا العشق، لا يعرف من أين تكون من أي أرض، ولمن تنسب إلى أي قوم، وما هو لونك، وزّيك .دعنا نقترب فنسمع رقيق الكلام ورفيعه .فاقتربت من شيطان ولاّدة وقلت :

- ما هذا الثوب المعلق، كتب على كل جهة منه بيت شعر؟

قال

- هذا واحد من ثياب الأميرة ولاّدة بنت الخليفة الأموي المستكفي بالله والشعر من إيحائي :

أنا والله أصلح للمعالي        وأمشي مشيتي وأتيهُ تيها

أمكّن عاشقي من صحن خدّي   وأعطي قبلتي من يشتهيها

- وما قصتها مع بن زيدون ؟

- عشقته وعلقت به، لكنه خانها مع جاريتها السوداء.

- ها، لقد فهمت الآن لمَ تخش عليّ حبيبتي، بالله عليك أنشدنا كيف عاتبته .

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا     لم تهو جاريتي ولم تتخير

وتركت غصناً مثمراً بجماله      وجنحت للغص الذي لم يثمر

ولقد علمت بأنني بدر السما       لكن دهيت لشقوتي بالمشتري

- هذا عشق العربيات إن ولج الشغاف عذب ورق، زدنا، زدنا .

ترقّب إذا جنّ اللظلام زيارتي      فإني رأيت الليل أكتم للسر

وبي منك لو كان بالشمس لم تلح  وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر

وقالت :

ألا هل لنا من بعد هذا التفرق       سبيل فيشكو كل صب بما لقي

وقد كنت أوقات التزاور في الشتا   أبيت على جمر من الشوق محرق

فكيف وقد أمسيت في حال قطعة     لقد عجل المقدور ما كنت أتقي

تمرّ الليالي لا أرى البين ينقضي    ولا الصبر من رق التشوق معتقي

سقى الله أرضاً قد غدت لك منزلاً     بكل سكوب هاطل الوبل مغدق

- ولكن مع رقة شعرها وعذوبته فهي جريئة إذا مُسّ لها طرف، عنيفة الهجاء

ولقّبت بالمسدس وهو نعت  تفارقك الحياة ولا يفارق

فلوطيّ ومأبون وزان     وديّوث وقرنان وسارق

- هاهاها لم تبق من صفة قبيحة، وماذا عن عليّة العباسية .

- إسأل شيطانها فهو أعرف .

- هي من بيت الخلافة، أحبت من هو دونها مستوى، خادمها طلّ، ومنعت منه، لكنها كانت ترضي تكبرهم وغرورهم بدلوماسية وسياسة .

منعت حتى من ذكر اسمه

فتحايلت بذكاء

فعندما كانت تقرأ سورة البقرة وصلت إلى الآية – فإن لم يصبها وابل فطلّ، وفطنت لهارون يسترق السمع من خلف ستارة غيّرت الآية إذ قالت :

فإن لم يصبها وابل ف...ف ...فالذي نهانا عنه أمير المؤمنين .

ولخشيتي عليها من غضب بيت الخلافة أوحيت لها أن تتخذ لفظة ظل كناية عن طل

- أتحفظ مما قالت فيه شعراً

يا رب إني غرضت بحبه   فإليك أشكو ذاك يا رباه

ظل ولكني حرمت نعيمه   وهواءه إن لم يغثني الله

ولما اشتاقت لرؤيته خاطرت بالمشي على ميزاب حتى لاقته فحدثته

قد كان ما كلفته زمناً    يا ظل من وجدي بكم يكفي

حتى اتيتك زائراً عجلاً   أمشي إلى حتفي على حتفي

ولمّا أحس الرشيد ما بينهما حجب (طل) عنها قالت :

أيا سروة البستان طال تشوّقي     فهل لي إلى ظل إليك سبيل

متى يلتقي ما ليس يرجى خروجه   وليس لمن يهوى إليه دخول

وغنّي شعرها

ودعت من أهوى ورحت بحسرة  عجباً لقلبي كيف لم يتصدعا

لا وجد إلا دون وجد نالني      يوم الفراق وقد خرجت مشيعا

 - وماذا حدث لهما بعد هذا الحب العنيف ؟

 - قتل طل واختلف الرواة بذلك، أما مصرع عليّة فقصته مضحكة لا يصدقها مجنون، ماتت بضمة من أخيها هارون، بضمة ياللعجب !!!!.

قلت لدليلتي

- دعينا من القهر والحزن، وأريد أن أستمتع ببعض الموشحات، ألسنا في مرابع شياطين شعراء الأندلس ؟

- هذه شيطانة الحصري القيرواني، كيف تتلذذ بقصيد يا ليل الصبُ متى غده، والتي يقرأها البعض غلطاً – يا ليل الصب بكسر الباء

ياليلُ ..الصبُ متى غده    أقيام الساعة موعده

وكفى عجباً أني قنصٌ     للسرب سباني أغيده

صاح والخمر جنى فمه   سكران اللحظ معربده

يامن جحدت عيناه دمي     وعلى خدّيه تورّده

خدّاك قد اعترفا بدمي     فعلام َجفونك تجحده

ما ضرك لو داويت ضنى    صبٌ يدنيك وتبعده

يا أهل الشوق لنا شرَق     بالمع يفيض مورده

ما أحلى الوصل وأعذبه       لولا الأيام تنكده

- وهذه شيطانة ابراهيم بن سهل تبكيه لموته غرقاً، لنسمع هذا الموشح الرقيق

هل درى ظبي الحما أن قد حما   قلب صب حله من مكنس

فهو في حر وخفق مثلما        لعبت ريح الصبا بالقبس

يا بدوراً أشرقت يوم النوى       غرراً تسلك بي نهج الغرر

ما لنفسي في الهوى ذنب سوى   منكم الحسنى ومن عيني النظر

أجتني اللذات مكلوم الجوى        والتداني من حبيبي بالفكر

كلما أشكوه وجدي بسما       كالربى بالعارض المنبجس

إذ يقيم القطر فيها مأتما       وهي من بهجتها في عرس

وهذه شيطانة الوزير لسان الدين بن الخطيب تقول ما عارض به ابراهيم بن سهل فأحسن وأجاد:

جادك الغيث إذا الغيث همى      يازمان الوصل بالأندلس

لم يكن وصلك إلا حلما       في الكرى أو خلسة المختلس

إذ يقود الدهر أشتات المنى     ينقل الخطو على ما يرسم

زمراً بين فرادى وثنى        مثلما يدعو الوفود الموسم

والحيا قد جلل الروض سنا     فثغور الروض عنه تبسم

وروى النعمان عن ماء السما    كيف يروي مالك عن أنس

فكساه الحسن ثوباً مُعلما         يزدهي منه بأبهى ملبس

 - دعينا نشنف السمع بالغزل وحلو الكلام وشفيف الصور .

 - رافقني إلى هذه الناحية فهذي شيطانة أبو البقاء الرندي

يا سالب القلب مني عندما رمقا     لم يبق حبك لي صبراً ولا رمقا

لا تسأل اليوم عمّا كابدت كبدي     ليت الفراق وليت الحب ما خلقا

وكنت في كلفي الداعي إلى تلفي     مثل الفراش أحب النار فاحترقا

أنظر إلي فإن النفس قد تلفت     رفقاً على الروح إن الروح قد زهقا

 - وهذه شيطانة بن زمرك فلنستمع لها

زار الخيال بأيمن الزوراء         فجلا سناه غياهب الظلماء

هذا وما شيء ألذ من المنى           إلا زيارته مع الإغفاء

بتنا خيالين التحفنا بالضنى        والسقم ما نخشى من الرقباء

حتى أفاق لصبح من غمراته       وتجاذبت أيدي النسيم ردائي

تا الله لا أشكو الصبابة والهوى      لسوى الأحبة إذ أموت بدائي

- أستمتعت اليوم بحلو الكلام ورقيق الصوروالعبارات، ولكن تعبت فهل لنا أن ننهي جولتنا لهذا اليوم على أن نكملها غداً مع شيطانات وشياطين شعراء وشواعر بلاد الأندلس..

 

(من إرشيف نقابة العشاق)

سردار محمد سعيد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم