صحيفة المثقف

النص الشعري بين البراءة والصنعة والسوق

wadea shamekh2في الحوار الأزلي عن موت الشعر بوصفه ديوان العرب، وكأن العرب ارباب الشعر ومقبرته أيضا، وسيظل هذا السؤال ناقصاً في التعجب إزاء المشهد الجمالي العام ودور كل نوع ابداعي في صياغته، دون إختيار مفهوم الحيازة والزعامة .

الشعر ديوان العرب، تابوت لتحنيط العرب والناطقين باللغة العربية ومبدعيها بهذا التابوت اللامع ..

لماذا يتبرقع العربي بالشعر، وما هو مفهوم التلقي الجمالي لانماط التعبير الأخرى، ولماذا نتباكى على الشعر كفارس مهزوم بعد غزواوت الرواية والقصة والسينما والمسرح ؟؟

..............

في الشعر لا وصايا ولكن لا بد من نظام ما، ليس بالضرورة ان يكون عروضيا او موسيقيا بقدر ما يكون الجمال نظاما أيضا داخل الفوضى، والبحث عن الدهشة في ثعلبية الحياة وصلابة اللغة وتحصنها بالمقدس وقوانينها النحوية والاملائية، وصولا الى استجلاء مزايا دلالية واسلوبية تسحب البساط من فخامة اللغة ورنينها دون المساس بنظامها الخاص وجمالها الداخلي .

...............

 النص الشعري ليس نصا تداوليا بالمعنى اللساني لقيمة الشعر، فهو نص دلالي جمالي، ولكن وجوده كمنتوج نهائي في سوق العرض والطلب يجعله مدموغاً بقيمة السوق التداولية وشروطها، فالنص عندما يكون مكتفيا بذاته كمنتج جمالي ودلالي من قبل منتج ما، يتضمن عذرية النص وسر جمالها . ولكن مسك عصا التداولي والدلالي يحتاج الى صنعة تفوق براءة الدهشة في الانتاج والتأليف، صنعة تقف وراءها عين ثاقبة ورؤيا عالية .. ليس بحثا عن سوق التداول السلعي بل ضمان بقاء النص صالحا للقراءة لازمان طويلة دون ان يمسه فساد المعنى والجمال ولحظة الابتكار والتجريب .

.......................

هذه الضمانة التاريخية الجمالية تخّلص المنتج من الانفعال وتشذب الرغبة في الشيوع، وتكبح جماح البريق الزائف، وسر الصلاحية سيكون تمرينا شاقا للمواهب في ادراك الفجوة العميقة والخيط الرفيع معا بين البراءة والصنعة .

هناك في الشعر العربي والغربي من الامثلة الكثير على هاذين النموذجين، ولكل كاتب حجبته وصدقيته في التجربة، الدهشة والبراءة صنوان للحظة الخلق الميتافيزيقة – حسب باشلار- ولكن كيف للنص ان ينمو خارج رحم اللحظة ليلامس ظروف العيش في غير الظروف المختبرية التي انتجته من رحمها؟؟؟

.......................

هنا تبرز الطاقة الخلاقة عند الموهبة الابداعية في الاستعداد للولادة وما بعدها، في التوافر على قنص اللحظة الميتافيزيقة بشكل عارٍ من المعارف والتجربة للامساك بجمرتها حتى دخولها مصهراً آخر من مراحل العملية الابداعية، مصهر بدرجة حرارة الروح ولوعة العقل ونضوج التجربة .

.................

 لعل الاخطر في امر انتاج النص الابداعي والشعري على وجه الخصوص هو الوعي المبكر بمفهوم الرسالة الشعرية ومهمة النص للمنتج والمتلقي معا، ومن تصفحنا للتعريفات المتوفرة عن النص الشعري سنجد ان فك الاشتباك بين نيران المنتج وقلقه وهويته وعمقه وبين التلقي وشروطة مقلقة جدا ولا تنتهي الى هدنة دائمة .

فعندما اتمّ الشاعر الكبير اليوت قصيدة" الارض اليباب" ونفخ فيها من روحه من العبقرية في امساك لحظة الخلق وحالما انتهى من النص وعرف ان دوره الأدائي قد انتهى اوكل المهمة الى صديقه الصانع الامهر - عزرا باوند - ليضع مشرطه العميق على النص ويزيل ثلث شحومه لتصل الارض اليباب معافاة شعرا ومتخلصة من نزق وانانية المبدع وتمسكه بلحظة الدهشة والبراءة والانتقال بالنص الى مرحلة الصنعة والتروي وفهم العلاقات التي تربط النص بعالمه الخارجي كما الطفل الذي يخرج من رحم امه لينفصل عن شروط المشيمة وتنفس الاوكسجين المذاب وصولا الى التلاحم مع الحياة ونظامها الجديد .

...............

 بين البراءة والصنعة خيط هلامي يحرقه المحترفون حد اللعنة ويقطعه الابرياء حد السذاجة، فالنص عملية خلق وهو امساك بلحظة معرفية جمالية تحتاج الى موهبة ودهشة عالية لتحسسها بمهارة صياد يعرف كيف يتعامل مع طرائده، ومع ان التجربة الشعرية افرزت مثل هذا التمايز فكان البحتري وابو تمام صانعين فيما جاء المتنبي وغيره بشعراء الخيال والدهشة كما ارى.

سيبقى الشعر والنص الابداعي غير برىء جدا عندما يحرق مراحل الدهشة والبراءة والصنعة معا وهو في طريقة الى سوق التداول السلعي، كسلعة شعرية غير مغشوشة ملقاة في معارض ومكتبات وارصفة وبسطات مهنتها البيع والشراء والتجارة بالكتب والمؤلفين .

سأكتفي بقول شاعر لا أعرف اسمه وهو يصرخ واحسبها مرثية للشاعر والكتاب معا وهما يتدهوران بتردي الذائقة الشعرية وشيوع الذائقة السوقية على الشعر واسقاط قيمة الديوان والخيمة العربية والفحولة على النص والواقع معا .

وقوفي في سوقٍ أبيع واشتري

دليل على أن الأنام قرود .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم