صحيفة المثقف

اوهام

ameen sabahkobaالوهم الاول

جلست على طاولة مستديرة وحولها جمع من اصدقائها، تطلعت نحوهم بفرح قبل ان تشهد حربا قد تأججت بعيني اثنين منهم. فراحت تراقب بصمت ما تقوله العيون، قالت عيون الاول: اتركيه، ولكِ مني ان احفر اسمكِ على سطوح المعادن،  سأنقشه على الاحجار وسأحفظه امد الدهر، سأشكل من حروفه اساور ومشابك وخواتم، تتزين بها الحسان، في كل زمان ومكان، سأحفره على الذهب حتى تزداد قيمته، سيعلق اسمكِ في المتاحف فيشاهده الناس ويروون حكايته، وقد يتزين به الملوك بتيجانهم متفاخرين، وانسيه لعل همومي وهمومك تزول.

ولكن عيون الثاني قاطعته وقالت:لا تستمعي له، واتركيه، وسأجعلك نشيدا يردده كل كبير وصغير، ان ظن انه سيحفر حروفك على تلك المعادن فهو جاهل، لأنها قد تزول او تسرق، اما انا فسأحفره في القلوب، سأرويه واعطره وانثره مع الريح لينتقل بين الازمنة، سأروي للاجيال القادمة عن صاحبته التي وهبتني اسرار الحروف، سأزين صفحات الكتب بحروفه، سيذكره العشاق اذا ما تناجوا، وستذكره اللحاظ اذا ما صوبت ورمت، وسترتعد النفوس اذا ما ذكر .

واختفى الثلاثة لأعوام . ثم اجتمعوا وعادوا باحاديثهم وذاكرتهم الى جلستهم تلك، ابرقت رؤوسهم بالشيب، وذبل جلدهم، وتزينت وجوههم بالتجاعيد، قال الاول وقد تطلع نحوها:منذ ان تركتك وانا منكب على ضرب المعادن وتشكيلها، ونظم الاساور وتجميلها .وكنت اذا توقفت لأخذ جزء من الراحة اصبت بالهذيان، وسمعت صوت المعادن وهي تردد اسمك بخشوع ثم تأمرني باكمال العمل.

قال الثاني: وانا منذ ان تركتك وانا منكب على تحرير النصوص، وحياكة القصص، وترديد الالحان، وقراءة الكتب. وكنت اذا غفوت على وسادتي اسمع صفحات الكتب وهي تهمس بأسمك، واسمع شخوصها تهذي بما عاشته من حوادث بين طيات تلك الكتب.

تطلعت نحوهما مبتسمة، ثم اشارت الى اكواب الشاي الموضوعة على المنضدة، وما ان لامست ايدي الثلاثة اطراف الاكواب حتى انفجرت سيارة كانت بالقرب من المقهى، فتدحرجت الرؤوس الثلاث، ولمح فيما بعد ان على الارض كتابا وقلادة،  وكانت كلمة احبك محفورة على الاثنين.

الوهم الثاني

وقفا على طاولة بيضاء وتبادلا بضع نظرات .بينما كانا يثبتان الورقة، تصاعدت انغام اغنية I'll always love you لتنتشر في القاعة الفارغة . رسما بالفرجال بضع دوائر صغيرة على الورقة، حينها اعلن انه سيرحل دون عودة، فتقافزت الدوائر من على الورقة، وتحولت الى اغلال طوقته من رقبته، واجتهدت هي برسم اكبر عدد من الدوائر على سطح الورقة، فتقافز بعضها ليطوق حروفه، وتقافز الاخر ليطوق مشاعره، ثم اعلنت انها سترسم دائرة اكبر فخرجت من الورقة لتطوقهما معا!.

الوهم الثالث

نجلس على مائدة طويلة في احدى الحقول .يدور حولنا بدلوه الاصفر المملؤء بالمشمش الجاف، يتوسل بالحضور ان يشتروا منه، ثم يرمق طعامهم بحسرة، اناديه، فيدنو مني بحذر لكي لا يلمحه صاحب المطعم فيطرده منه .اجلسه على مائدتي فيتراقص فرحا، يلمح كامرات التصوير فيفر هاربا، ثم يعود متوسلا بأن نشتري منه، نأخذ ما لديه، ونعطيه حقه من المال، ثم نزج في دلوه قنينة كوكا كولا، يركض فرِحا بما لديه من نقود، فتصادفه شاحنة مسرعة لتحول جسده الى اشلاء .فتتبلل اوراقه النقدية بمزيج من دمائه وشراب الكوكا كولا.

الوهم الرابع

 تطلعت امي نحوي وقد هلكت من الالحاح، كانت تحاول ابعادي عن قراءة الكتب والروايات، وكتابة القصص. وكانت تقول :لو انك ادخرت جهدك وبصرك للطب لكان افضل. ثم تركتني ومضت ومضيت، حتى وجدتها يوما تحدث رفيقاتها بهمس

:سحرته مجنونة الكتب حتى افقدته عقله، ثم رمته بين الصفحات المتآكلة، وليتها لانت له، ان قلبها كالحجر، ولكن مع ذلك فان لابني حروفا تنطق الحجر، وتلين الحديد، فمابالكن بالقلوب!.

اتركها وامضي الى مكتبتي، اتطلع الى الكتب واغازلها عن بعد، وافكر بما قالته امي عن الفتاة .يخرج تشيخوف من مجموعته القصصية ويسهم بصره نحوي معدلا وضع نظارته الطبية، ويعبث دستوفيسكي بلحيته الطويلة، تم يبتسم بمكر. يقول كازانتزاكيس

ان علي ان اعشق النساء كما كان يفعل زوربا، ثم يصمت .ثم يأتي عروة بن الورد، وينصحني بأن اهب ما املكه من مال للفقراء والمحتاجين بدلا من ان اصرفه على الكتب، ثم يقول بهمس وقد خفض رأسه :اتركها.

يعارضه الفرزدق ويقول :لا تستمع لهذا الاحمق، فقد ضيع ثروته على الصعاليك، وخير زوجته

فتركته .وافعل كما فعلت مع النوار ولاتأبه بجنس حواء.

يقف والد ليلى العامرية بالقرب من الجميع ويقول: لقد قلت فيها شعرا كما قال قيس لذا فبحكم العرف ستؤكد الشائعات وتنشر الفضائح ان بقيت معك.

يعارضه المجنون، ويركض من بعيد وقد رافق غزالة واطلقها وقال:لا تستمع للوشاة وهب لها قلبك وإن تركتك .يقول طه حسين وقد عدل نظارته الشمسية لاتستمع لقيس فانه غير موجود، وابياته التي على رفك ما هي الا ابيات انشدها العشاق، وجمعها الشعراء بأسمه.

يكرر ابو الطيب ما قاله لديك الجن وعلى وجهه ابتسامة صفراء :

اتركها.

وارى ديك الجن يبكي على ورد منشدا

:يا طلعة طلع الحِمام عليها.

اتطلع الى الناحية الاخرى، فأجد محفوظ وهو منكب على احد كتبه ويقول :سخر احاديثك للحرافيش والبائسين، واظهر مظلوميتهم.

ويقول الجواهري معدلا طاقيته انني بالقرب من دجلة، لذا عليَ ان اتغزل بدجلة .

اسمع همس رضوى من بعيد واشاهد ابتسامتها الحنونة وهي تقول :لاتكن كالتي انتظرت رجلا خرج البحر ثم تشبثت فيه وغاب فلم تدركه* .اسمع درويش وهو يقول :لاتكن كصاحب ريتا.

 ويقول ماركيز وهو يحك ذقنه الحليق بابتسامة ساخرة متطلعا اليهم :الم اخبركم ان الزمن لا يسير بشكل مستقيم بل بشكل دائرة.

تقول امي بتوسل لاتتركني.

ثم اسمع ضحكاتهم وهي تزلزل المكتبة، ويتكرر صدى صوت امي وهي تقول:

 ان لابني حروفا تنطق الحجر، وتلين الحديد فمابالكم بالقلوب!.

الوهم الخامس

اجلس مرتديا صدريتي البيضاء في مختبر النحت، تؤشر استاذتي على الورقة وتقول ان علينا ان ننحت السن المرسوم، اهوي بسكينة النحت على اصبع الواكس، فينقسم الى نصفين .ابدله بآخر فاصنع سنا مشوها، يتكرر رسوبي وسط سخرية الجميع تقول استاذتي انني عنيف في النحت فاضحك متذكرا قول الاستاذ في معمل السباكة

:ما هذه الرقة؟

اتوعد المقربين بنصوص الهجاء،

فيساعدونني ثم اجلس بين صديقين وقد نجحت، اشكو لأحدهم عن الوحدة فيقول ان الجميع معي

.(نفس ما كان يردده الجميع (انهم معي).

اغوص في ذاكرتي فاسمعها تقول سوف ابقى معك . التفت فلا اجدها، اسمع الاخرى بعد برهة تردد نفس الكلمات وبنفس الصوت ثم تختفي .

ثم اتطلع نحوهم، فلا اجدهم . واتطلع الى صديقي فارى شبحه يبتسم بخبث. ثم اشاهد ملثما يضع سكينة النحت على رقبتي، يضع كفه على فمي لكي لا اصرخ، فارتعد من الخوف واغيب عن الوعي.

الوهم السادس

كنت جالسا بمكتبتي فاذا بحسناء ناصعة البياض مقبلة نحوي .

قلت:الكِ عندي حاجة؟

قالت :لستُ من الانس انا من جنيات عبقر، جئت لأحذرك مما انت مقبل عليه لقد طاوعتك منذ ان زاولت الكتابة، فاجريت اهمس لك بالكلمات الساحرة لتعرضها على قومك، ولكنك ما إن اسرت بلحظ محبوبتك حتى تركتني واهملت همسي، ورحت تسمع ما يقوله قلبك فتهديها الكلمات .

قلت افعلي ما شئت، فوالذي نفسي بيده ما كففت عن ذكرها ما حييت.

فاذا بوجهها ينقلب الى وجه كلب، واذا باظافرها تزداد طولا، وكذلك انيابها، ثم نبحت بشدة حتى ان الكتب تساقطت من الرفوف من شدة الصوت، واذا بها تقبل نحوي وانا اصرخ !.

خاتمة

جلس يشكو اوهامه الى الطبيب، قال :آرقنني الاوهام و والكوابيس.

اجابه الطبيب وهل نمت البارحة

؟.

قال: كلا.

فقطب الطبيب حاجبيه وقال :لِمَ؟.

قال :قضيت الليل وانا احضر لامتحان التشريح!.

 

امين صباح كبة

.....................

* الطنورية: رواية لرضوى عاشور

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم