صحيفة المثقف

كلاب الصيد

ibtesam yousifaltahirالى روح ابي، الاستاذ الذي تتلمذت على يده أجيال، بعيدا عن قاعات المدارس

الجو كان خانقا، حارا ساكنا، دخلتُ وأغلقت الباب خلفي. وقفت لحظات مغمضا عيناي لأتمتع بالبرودة المنبعثة من المبردة، وارتميت على المقعد بعد أن خلعت الجاكيت الذي لابد من ارتداءه حتى في هذا الجو الحارق، متطلبات الشؤون الرسمية.

 الهدوء يسود الشقة (المعمل)، فقد خرج العمال وصمتت المكائن، لم يبق غير أزيز المبردة. بقيت لحظات، انتظر احد الأصدقاء، اعتاد أن يمر علي يوميا لنذهب لأقرب مكان نطفئ به لهيب الحر بكأس أو اثنين، قبل التوجه للبيت.

 رن جرس الباب، جفلت لصوته الحاد وهو يقطع ذلك الصمت. فنهضت متكاسلا متوقعا صديقي وهو يتأفف من الانتظار. فوجئت بثلاث مخلوقات، لم أرهم من قبل، ذكرتني سحناتهم بكائنات قابلتها منذ زمن، زمن اعتقدت أني ودعته مع ذلك الحلم والأمل الذي كان، حين كنت شابا.

لم يبادروا بالسلام...اذن هم!! اعتقد أنكم فهمتم ماعنيت بـ(هم).

 ـ أنت يوسف الصالح؟..

 تسارعت نبضات قلبي، لذلك الصوت الأجش.

ـ نعم..أنا، هل من خدمة أقدمها لحضرتكم؟. لم يصغوا لجوابي أو السؤال، بل كانوا يتطلعون للداخل، ثم أزاحني أحدهم وهو يدخل.

فقلت "تفضلوا" قلتها وأنا أمد يدي بحركة مسرحية مرتبكة لإفساح المجال لهم، محاولا استعادة رباطة جأشي، ولثقتي بأن ليس هناك ما أخشاه ولم اخفِ شيئا يستفزهم. لقد ولى ذلك الزمن، زمن التحدي والأمل بالمستقبل، لم تبق فسحة لذلك بعد أن صار لي عائلة كبيرة  وأطفال.

حاولت أن اقنع نفسي بأني تركت السياسة منذ زمن، وصارت مجرد عادة أمارسها من خلال قراءتي للصحف والنقاش اليومي مع الأصدقاء...

ازاحوني بصلف وهم يمدون صدورهم للأمام بعنجهية وافتعال. تركوا ثالثهم في الخارج. احترت للحظات، "هل اتبعهم لادلهم على الطريق؟ يبدو أنهم ليسوا بحاجة لدليل".

"لا اعتقد أنهم سيضايقوني أو يسألون عني الان، فأنا بنظرهم برجوازي، رجل أعمال، وهم ينظرون لرجال الأعمال نظرة فيها اعتبار". قلت لأبنتي يوما حين طلبت مني أن اخفف من حدة انتقادي لهم فللحيطان أذان. فقالت بهدوء:

"هؤلاء جهلة لا يعرفون حتى معنى البرجوازية، ليس لهم علاقة بالطبقات الاجتماعية ولا حتى بالأعراف الدولية أو القيم الانسانية، فهم كالثور الهائج، ينطح كل من يقف أمامهم".

انتابني شئ من الخوف وأنا أتذكر حوارها معي، ربما هذا الجيل الذي نتهمه بالتخاذل والمساومة، ينظر للأمور بواقعية أكثر. ولكن (كلاب الصيد هؤلاء) كما سماهم تشيخوف، ليس لهم واقع منظور ولا مقروء، ليس لهم شبيه في أي زمان أو مكان.

 دخلوا المكتب الذي هو عبارة عن غرفة صغيرة تتوسطها طاولة قديمة وبضع كراسي، ودولاب حديدي. فتحوا الدواليب وبعثروا كل الأوراق والملفات! أبدو غبيا لو سألتهم  

"ما الذي تفعلوه؟"

مع ذلك وكنوع من التحدي لذلك الخوف والارتباك، سألت :"هل يبحث الاخوان عن شئ ما، لأساعدكم".

حاولت جاهدا أن اختلق ابتسامة باهتة على شفتي التي شعرتهما جافتين، ربما هو العطش، فصديقي لم يأت للان.. هل يعرف أنهم هنا؟ هل شعر الزملاء بوجود هؤلاء فحذروه؟

أسئلة تطاولت وتشابكت في رأسي، زادت من الحرارة والاختناق. مددت يدي لكأس ملأته من الحنفية شربته دفعة واحدة، لم اعبأ لطعمه وحرارته. لم يعبئوا لسؤالي، ربما بعثروه مع الأوراق.

قلت لا بأس سأسهر اليوم، وأعيد ترتيب الأمور، حتى لا يرى العمال ما حصل.

 لم تبدو هناك أي جدية في عملية بحثهم تلك، بل كانت كأنها محاولة استفزاز.  فجأة فزعت لفكرة، يا الهي، لابد أنهم سيذهبون للبيت، أو ربما هم ذهبوا قبل مجيئهم! هناك الكثير من الكتب، التي بالرغم من وجودها بالسوق، تعتبر بالقائمة السوداء، يا الله ، ما أطول قوائمهم السوداء!

تلك الفكرة استفزتني وجعلتني (ألوب). ما العمل؟ لبست الجاكتة بالرغم من العرق المتصبب من جسدي. هل اتصل بالبيت؟ أم ابعث احد الزملاء من سكان العمارة ليطمئني؟.

قبل أن افتح فمي، شدني أحدهم من ذراعي لدرجة آلمتني، كفه ثقيلة كأنها كف ملاكم، ويداي نحيفتان كأنهما خيارة، كما تشبههما أمي "اذا لم تخف على نفسك، وأنت بهذا العود الرقيق، الذي اقل مسكة منهم ستهرس عضامك تحت اكفهم القاسية؟ فكر بنا، ماذا سيحل بنا لو أخذوك؟ من لأولادك الذين مازالوا طلبة لا حيلة لهم ولا قوة".  عانقتها يومها وأنا اضحك "اطمئني، ابنك أقوى منهم جميعا" .

قاطعتني بغضب: "لم تعد شابا لتحتمل مثل قبل.. ابنك بطولك، وهم ليسوا بأشباه الأمس، هؤلاء مكبلين بالحقد والقسوة، كلاب مسعورة". أغرورقت عيناها بالدموع، قبلتها وأنا أحاول أن أطمئنها "أمي.. ما الحكاية.. ما الذي فعلته؟ ها أنا ذا من المعمل للبيت، ليس هناك سوى الأحاديث التي تدور بيننا، لم يعد هناك مؤتمرات ولا مظاهرات، لأُعتقل بسببها.. الحال اليوم (سكتة يا أم حسن) كما تقولين". 

علقت زوجتي، التي اعتادت الصمت كل تلك السنين "هذا هو ما يستفزهم، الكلام، يريدون الكل أخرس، أنا سمعت عن ناس اعتقلوا لمجرد النظر لصورة الريس بسخرية.. بالله عليك".

 - تفضل معنا، بدون ضجة.. السيارة تنتظر تحت.

 نظرت لهم بغضب. 

- الى أين؟.. ما الحكاية؟

لم يتركوا لي مجالا لأتم اسئلتي.

ـ لا تستعجل ..ستعرف قريبا، لابد انك قد خمنت الموضوع.

- لكني، لم افعل شيئا، بل حتى الكتب لم يعد مجال لقراءتها، فالحياة أخذتني كباقي الناس. ثم نحن في عهد الديمقراطية والرفاه. قلت الجملة الأخيرة وكأني ابلع لقمة سمك مليئة بالعظام.

 قال الآخر الذي كان صامتا كل الوقت:

 ـ نحن لا نعرف شيئا، ننفذ الأوامر فقط.

اقتادوني بطريقة يظهروا كما لو أنهم يسايروني. دخلت سيارة بيضاء كانت بانتظارنا.

التفت لتلتقي نظرتي بنظرات احد الزملاء صاحب محل لبيع الملابس في شارع النهر، علاقتي به طيبة، بدا لي أو هذا ما تمنيت، انه فهم مقصدي، وقرأ ما وددت أن أقول له!

 سارت بنا السيارة بالطرقات المعتادة، لم أشأ أن أتطلع لوجوههم، ما هم سوى آلآت تنفذ ما مطلوب منها، فليس معقولا أن يكون لهم مشاعرنا أو أحاسيسنا.

 تطلعت لأيديهم الضخمة الخشنة، وهي تمسك بالسلاح المخبأ بجيب البنطلون "أهو الخوف مني، أم هي عادة؟ أو ربما الأوامر".

 انشغلت بالحوار معي لأسيطر على حالة القلق والخوف. ترى هل جربت تلك الأيدي أن تداعب طفلا، أن تمسح على شعره؟ لابد أن لهم أولاد وزوجة، ربما لا يفعلون ذلك فالأوامر جعلت حياتهم محدودة المهام، فهناك الآلاف ممن لابد من ملاحقتهم، وإحصاء خطواتهم، أو قتلهم، لا مجال ولا وقت كاف للحب أو العواطف..

أو ربما هم ليس أنفسهم في البيت، بل يكونوا شخصية أخرى.. فهذا هو عملهم، لقمة عيشهم تتطلب حرمان أطفال من آبائهم، ليشتروا لأولادهم ما يرغبون .. ربما ملاحقة وتهديد هذا وسجن ذاك، يجنبهم الاحتكاك بأشباههم.

" رسالة غبية...تافهة، ماذ يريدونا ان نفعل، نغلق أبوابنا بوجه الأقرباء والأصدقاء؟ هل معقول؟ من اي كوكب هؤلاء..."

تذكرت ابني الذي كان يمطرنا باسئلة الغضب، دون أن ينتظر جوابا. وهو يعلق على رسالة وجدها ملقاة من الباب الخارجي للحديقة مطوية بعناية تنبهنا بصيغة تهديد، أن لا نكثر من الاجتماعات، ولا ننتقد الحكومة..

صرنا بسبب تلك الرسالة نشكك ببعض الأصدقاء، كيف عرفوا أننا ننتقد الحكومة؟ ولماذا يفسرون انتقادنا للظواهر المهينة الشاذة هو انتقاد للحكومة؟ أو ليس انتقادنا ذاك هو من حرصنا على الوطن؟ أسئلة كثيرة خطرت وقتها، أكثر من التي تتسابق في رأسي الآن كخيول مغيرة.

جفلت لحركة احدهم، حيث كنت غارقا بالتفكير. دون كلام اخرج عصبة سوداء ، وصاح:

 ـ در ظهرك لأشد العصابة على عينيك، أمامنا طريق طويل، لا تحاول أن تحرك العصبة، لدينا أوامر بقتلك أن فعلت..

شعرت نبضي يتحول لطبول تقرع برأسي غضبا أكثر منه خوفا. وأنا أراهم خائفين أكثر مني، لكن خوفهم ذاك يجعلهم أكثر حقدا، أكثر قسوة التي يظنون بأنها ستنقذهم أو يستخدمونها كغطاء على جبنهم.

 

 ابتسام يوسف الطاهر - لندن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم