صحيفة المثقف

حقيبة (صافيتازي)

sardar mohamadها أنذا أعيش بلا خوف، هنا أجد السلام والتفكير بهدوء دون منغّصات، فلا أصوات مفخخات ولا هذيان برلماني، ولأني أعشق التأمل في الظلمة فهذا لا يتوافر سوى في بلدان الديموقراطية بإصرار.

وهنا حصل ما لا يصدّق، أنا كنت لا أصدقه .

 (صافيتازي) زميلتي في معهد الفنون ذات الشعرالأسود الكثيف والطويل بخصلاته التي لا تستقر مكانها فتنساب انسياباً لتغطي وجهها، فتزيحها بأطراف أصابعها المخضبة بالحنّاء .

تقترب منّي حتى عندما أكون منسجماً مع تخطيط .

هي من بادرت في أول أيام الدراسة،

- أراك تشعر بالخوف كأن أحد يطاردك؟

- بلى، هذا سبب لجوئي إلى الهند .

- أتريد مكاناً آمناً لا يصل إليه إلا الجان؟

- ليتني أجد ذلك !

- هو موجود، ولكن عليك أن تؤمن به ليسعفك، تُصدّق به، عرفت أنك لا تعترف إلا بالواقع . في هذه البلاد كن آمناً فلا يستطيع أحد من الوصول إليك، ولكن المكان الذي أريدك اكتشافه يليق بك كفنان .

- وهل يفوق الطبيعة حسناً؟

- بلى، وفيه تشاهد ما خفي عن الناس، فإن أيقنت ورغبت، آتيك ليلاً لأشرح لك كيفية دخول هذا المكان العجيب .

قالت (صافيتازي): لا تعجب من بنات الجان، هن سيعثرن عليك إن أردن .

قطّة سوداء ذات عيون خضر، قفزت لشرفة شقتي في الطابق الرابع، ولا أعلم ما الوسيلة التي اتخذتها للوصول، طفقت تموء فجلبت انتباهي وتصورت أنها جائعة، فتحت لها الباب فقفزت إلى النافذة وذابت في الزجاج .

دخلتُ الغرفة، شُدهت إذ وجدت القطّة تجلس على فراشي، فسارعت لأجلب لها قطعة رغيف من المطبخ، ولكن عندما رجعت كاد يغمى عليّ إذ وجدت أن القطّة قد تحولت إلى غانية وجهها مغطى بشعر كثيف أسود، فأزاحته بأصابعها، فإذا صافيتازي قدّامي ومعها حقيبتها التي اعتادت على حملها في المعهد .

قالت : على وجهك علامات التعجب والدهشة .

- وهل يوجد ما يُدهش أكثر من هذا؟

- بلى، بالنسبة لك أيها البشري، هناك أكثر غرابة ودهشة .

- ماهو؟

رفعت الحقيبة، وقالت : هذه .

- أليست مجرد حقيبة جلديّة؟

- لا ليست مجرد حقيبة، بداخلها عالم متكامل، زرع وماء وشجر وطيور وسحاب ومطر، وفاتنات كغصون تتمايل مع النسيم .إذا صرت كما أخبرتك سابقاً متيقّن وكان لديك استعداد لولوج هذا العالم فما عليك إلا أن تدخل الحقيبة .

- أدخل الحقيبة ؟.. كيف وهي لا تسع كفاً؟

- إذن أنت لم تؤمن بعد . تقدم نحوي، قرّب رأسك وسأريك .

تقدمت نحوها برهبة فمدّت ذراعيها وأحاطت رأسي بكفيها وبدأت تنشد أغنية غريبة فشعرت بضوء وألق يغشي العيون، فأغمي عليّ، وشعرت أنني صرت كالعجينة تتشكل كيفما يراد لها .

وجدت نفسي داخل الحقيبة ولم أر العالم الذي حدثتني به صافيتازي.

يبدو أنني في جيب الحقيبة الشخصي ل (صافيتازي) تحسست في ظلمة الحقيبة منديلاً رطبا، علبة مسحوق، شيء حلقي، حبة دواء قد تكون للصداع وقد تكون لمنع الحمل .

لا أشكو الظلمة داخل الحقيبة وتمنيت لو أنها معي في بلدي لتحجبني عن السفلة والأراذل .

أتاني صوت تصوّرت انه من الجيب المجاور ينشد :

لله قلبك طبعه النـــــــزق     حتى م تضرم نارك الحدق

كل العيون السود إثمدها   من لون قلبك غب يحترق

وضعافها نظر يسابقـــه       لهف على أعقابه ولق

وإذا تمايل عود غانيـــة      فلخفق نبضك روعه قلق

يشجيك عرش الحب تحمله  كالنخل لا يلوي به الوسق

وانزاح طرف خمارها فبدا   وجه كضوء الفجر ينبثق

شجاني الصوت فقررت أن أنتقل للجيب الثاني فعثرت بقلم صغير فحملته معي قاصداً الجيب الثاني .

تحدث القلم قائلاً : قف ..لا تعجل .

كل شيء عجيب مذ عرفت (صافي) بشر يتحول إلى قطة، حقيبة تسع بشراً، والآن قلم يتحدث.

- لا تدخل الجيب الثاني ففيه غيلان وجنيّات وعفاريت .

الصوت الذي سمعت لم يكن مصدره من هناك إنه منّي .

- ولكني أسمع أصواتاً كأن هناك مهرجان أوحفل .

 - نعم هو حفل . إرفع رأسك قليلاً وشاهد الحفل بأم عينيك واسمع بأذنيك مباشرة .

رفعت رأسي بحذر فشاهدت حفل عيد موت بلى عيد موت وليس عيد ميلاد، تحلقت مجموعة عفاريت حول قطعة – كيك – على شكل خارطة العراق وهم يرفعون السكاكين والشوكات ويغنون – سنة حلوة يا جميل – سنة ديموقراطية يا جميل - .

هل أدلك على وسيلة للخروج من الحقيبة .

- خلّصني بالله عليك .

 - شريطة أن تأخذني معك، والوسيلة سهلة، هل تذكر الحبة التي تلمستها، خذها وامضغها جيداً، وسترى مفعولها الآني.

سارعت وتناولت الحبّة، وما أن دخلت جوفي حتى أحسست أني أتضخم، أتضخم، فصاح القلم : لا تنساني، لا تتركني، خذني معك .

كبرت، كبرت، فتمزقت الحقيبة ورجعتُ إلى حجمي الطبيعي، ورأيت القلم قد كبُر وصار غانية رشيقة شعرها غطى وجهها فأخفى ملامحها .

إلتفتت إلي وأزاحت شعرها عن وجهها بأصابعها المخضّبة،

فإذا هي صافيتازي ..

لله مرة قطة ومرة قلم، وقد تصير أفعى غداً .

- لا تحدث نفسك بخيالات تفترضها، (صافي) ستكون الضوء والظلمة، النهاروالليل، المودّة والرحمة، السلام والمسرّة، و قلبها لن يفارقك يوماً .

صافيتازي هي إحدى زميلاتي في معهد الفنون في الهند، وصافي اسم التحبب، والقصة هي الثالثة من قصص مجموعتي غير المطبوعة – العوم في بخور الهند -

 

سردار محمد سعيد

نقيب العشاق بين ذرى قنديل وقمم هملايا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم