صحيفة المثقف

النسر يودع قمته العالية

في ذكرى رحيل

 الشاعر العربي الكبير

محمود درويش

almothaqafnewspaper

النسر يودع قمته العالية..!! / جودت العاني

 

حزنت قبل رحيلك

وتحسست خاتمة الفاجعة

وانت، قد تحسست موتك قبلنا

حين تركت لمن يكمل مشوارك

في قصيدةٍ لم تكتملْ

ومَنْ يُكمِلُ مشواركَ في إكمالها؟

تحسست، إنك لملمت جرحك بين طياتها

دون أن تنتظر الجواب

في زمن الأسر والأغتصاب

وتحسست إنك لا تريد

أن تعترف ببلوغك القمة،

التي تطل من عليائها

على عالم الجمال والنضال والحرية

وحين تواريت في ليلة مقمرة

كنسر يودع قمته العالية

تساءل غيرك، ماذا تراه يراها؟

فهل هي محض سأم

أم محض وداع لشعر الألم..؟

أم إنها صدفة

تحسستها في لأعب "النرد":

 

من أنا لأقول لكم، ما أقول

عند باب الكنيسة..

ولست سوى رمية النرد

ما بين مفترس وفريسة..

ربحت مزيدًا من الصحو

لا لأكون سعيدًا بليلتي المقمرة..

بل، لكي أشهد المجزرة..

 

وتاه السؤال ..

وتاهت علاماته في صدفة حائرة..

وظل السؤال على حاله، يقول:

 

لو لم أكن أو أكون

نجوت مصادفة،

كنتُ أصغر من هدف عسكري

وأكبرُ من نحلةٍ

تتنقلُ بين زهور السياج..

وخفتُ كثيرًا على أخوتي وأبي..

وخفتُ على زمن من زجاج..

وخفت على قطتي وعلى أرنبي..

وعلى قمرٍ ساحرٍ

فوق مئذنة المسجد العالية..

وخفت على عنب الدالية..

 

ثم يدخل درويش في تساؤلاته

عالم الصدفة المشبعة بالقدر

وظل حائرًا دون أن يستقر:

 

كان يمكن أن لا أحب

الفتاة التي سألتني

كم الساعة الآن ..؟

لو لم أكن في طريقي إلى السينما..

كان يمكن أن تكون خلاسية مثلما..

هي، أو خاطرًا مبهما..

 

وحين ينتقل من الصدفة

التي تصنع الأحداث

كما يراها شاعرنا الكبير

إلى إحساسه الواقعي المشبع

بالحياة والأمل:

 

حين تبدو السماء رمادية

وأرى وردة نتأت فجأة

من شقوق الجدار

لا أقول: السماء رمادية

وأقول لها: يا له من نهار..!!

 

بيد أنه لم يستسلم لحس واقعي مجرد

وينصرف عن قدسية المعنى

في أطروحة المكان والزمان:

 

لا أقول: الحياة بعيدًا هناك حقيقية

وخيالية الأمكنة

بل أقول: الحياة، هنا، ممكنة

ومصادفة، صارت الأرض

أرضًا مقدسة

لا، لأن بحيراتها ورباها وأشجارها

نسخة من فراديس علوية

بل، لأن نبيًا تمشى هناك

وصلى على صخرة

فبكت، وهوى التل

من خشية الله

مغمي عليه ..

 

وتتمسك الصدفة شاعرنا الراحل

إذ، يعيد تكرارها

وهو يجمع بين سراب الصحارى

وبين شقوق الجدران الحجرية

التي تتدلى منها الزهور،

ويلف حولها النحل البري،

وهناك، على الساحل،

حيث أكوام من المحار..

يجمع بين الأنا ولآأنا

من أكون حتى أقول لكم ما أقول

وليس ذلك ضياعًا بين

مسالك الضبابيات

وتقاطع المفردات

إنما ذلك تكوينًا إبداعيًا يجمع

بين الأضداد: بين الحياة والموت،

بين الممكن والصدفة،

وبين الواقعية والمثالية،

نحو فلسفة إلتزامية

فهو بحق قد تمكن من (مثلنة) الواقعية

وتمكن من (وقعنة) المثالية

وتلك هي العبقرية في الرؤيا

كما هي الرؤية العبقرية

في الكشف عن خبايا الواقع..!!

 

كان يمكن أن تسقط الطائرة

بي صباحًا

ومن حسن حظي، إني نؤوم الضحى

فتأخرت عن موعد الطائرة..

كان يمكن أن لا أرى الشام والقاهرة..

ولا متحف اللوفر والمدن الساحرة..

كان يمكن، لو كنت أبطأ في المشي

أن تقطع البندقية ظلي

عن الإرزة الساهرة..

كان يمكن، لو كنت أسرع في المشي

أن أتشظى

وأصبح خاطرة عابرة..

كان يمكن، لو كنت أسرف في الحلم

أن أفقد الذاكرة..

 

شاعرنا لا يريد أن يعترف

بأنه يتربع القمة العالية..

ويرنو لكي يرتاح

في ظل أغصان عنبته الداليه:

 

لولا وقوفي على جبلٍ

لفرحت بصومعة النسر:

لا ضوء أعلى،

ولكن مجدًا كهذا

المتوج بالذهب الأزرق اللآنهائي

صعب الزيارة:

يبقى الوحيد هناك وحيدًا

ولا يستطيع النزول على قدميه

فلا النسر يمشي

ولا البشري يطير

فيا لكِ من قمةٍ

تشبه الهاوية

أنتِ يا عزلة الجبل العالية..!!

 

هكذا هو الراحل محمود درويش

لا يريد أن يبقى هناكَ في قمة المجد،

لأن المجد ليس في القمة،

حيث العزلة والأغتراب والموت،

إنما أيضًا في منحدرات السفوح

والسهوب والهضاب وشواطئ البحار

وبيوت الفقراء

وعند من يمسكون بالحجارة والقنبلة

الحياة كلها هناك

وكان يعرف تفاصيلها ويتحسس خلجاتها

والدموع التي تسيل والدماء التي تسفح .

فأذا كان " همنغواي " الذي بلغ القمة

يخشى النزول إلى السفح

حتى لا يضيع منه المجد أو يأفل،

قد وضع حدًا لحياته ..

وإذا كان " ألبير كامو " قد وصل القمة

وخاف من ضياعها

فوضع حدًا لحياته

فأن محمود درويش كان يعرف

إن القمة عزلة مخيفة

قمة الهاوية

فذهب بقدميه وهو يتوقع

عودته إلى الوطن السليب

بقدميه أو بتابوت..!!

نم قرير العين

أيها الشاعر العربي الكبير..!!

*  *  *

 

26 / 08 / 2017

د. جودت العاني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم