صحيفة المثقف

"سواراسواتي" الظبية الجنيّة

الفجر يحل آخر عقدة في حبل الظلام .

sardar mohamadهربت آخر نجمة مع عساكر الليل الملمة راياتها .

نظرت الخراف مساحات العشب المصقولة بالندى فبدت سندسيّة تثير شهيّتها.

كنت مستلقياً في بقعة آمنة لا يصلها نقع هوج السافيات ولا وقع سنابك الطغاة .

عصاي مطمئنة اضطجعت بموازاتي على العشب الريّان .

انثنت نهايتها إلى جسدها الأملس كرقبة أوزة .

ثقوب جرابي الخلق كعيون العاشقين حماها التوله من الرمد .

سادت الفوضى بين الرعاة والخراف الوديعة وهي تقضم العشب بفرح حين طلعت ظبية يتبعها ذئب فاغر الشدقين استعداداً للنهش .

توقف الذئب وارتد على أعقابه خجلاً حين لمحني بكل هدوء أُخرجُ من جرابي خبزاً أفتته وأطعم العصافير .

لاذت الظبية بي وقفت بإزائي مسحت جنبها بجنبي فأطعمتها وآمنت من خوف .

شارك النمل وليمة جذور الكلأ الرطيب متلذذاً كما لو يأكل من ثمر الجنّة، ولم يدخل مساكنه خيفة .

طوت الظبية أذنيها ورقدت بموازاتي،لوت عنقها إلى جسدي وقرّبت فمها من أذني .

قال احد الرعاة : سلام قولاً من رب رحيم .

أسليمان آخر؟

حدتثني الظبية همساً: أنا الجنيّة (ساراسواتي) منذ ألف عام أبحث عنك بناء على وصيّة  أمي،

 - لا تملّي ستجديه ...

***

جاءت من قرار مكين، شهوراً ظلّت تبني صرح جسدها خليّة خليّة .

يخال الناس أنه كالرقاد في فراش سَري تقرفصت فيه، ورزقها يأتيها حلالاً بلا نصب، بغاية الهدوء، يأتيها رغداً .

حين كانت نطفة سُقيت بمارج من نار واستقبلتها في رحم أمها لؤلؤة تنتظرجمهور المتسابقين، وكانت الأسرع فاتحدت بها وطفقتا تبنيان هيكلاً مقدساً .

طردها صلب أبيها، أخوة لها كثر طردوا .

هبط جمع منهم في عالم مطاطي وجمع بدبر حيوان وجمع في بالوعة نجسة، وهي الوحيدة التي هبطت في رحم أمها النظيف، وغلّقت الأبواب دونها .

نضجت ففتحت باب الرحم، وملصت مخضبة بالدماء المباركة، دماء تغرد للحياة.

هللت الجنيات، ولفّت بلفافة من لهب وهن ينشدن :

جاءت (ساراسواتي)  . جاءت ظبية العشب، ابنة النار ربّة الحكمة ..

***

رأيت دماً يسيل مغرداً للفناء

غزانا الأشرار، ذبحوا أبي،بقروا بطن أمي،وسبيت مع الذراري .

بُح صوت النخّاس ولم أحلو لعين مشتر،أضلاعي بارزه، ولوني أصفر.

أطلقني، فغدوت أتسول في الأسواق .

صدفة مرّ تاجر كهل،فعرض عليّ الخدمة في داره  .

كنت آكل ما يكفل لي الحياة،وأنام على حصير، وألتحف صوفاً .

زادني صغر الدنيا في عيني كبراً عند ربّي .

كان سيّدي يستضيف عدداً من الخلاّن يتدارسون ويتحاورون، لاحظني سيّدي .

خفت التأنيب لأني كنت أسترق السمع وأتنصت بلا استئذان .

تصوّرت أن فعلتي ستغضبه فإذا هي تُفرحه .

سألني عن دوام حزني واصطباغ وجهي بالأسى .

حدثته عن الغزاة وما حلّ بنا .

- خذ هذا الكتاب فهوإرثك منّي، فلي احساس بأني أشرفت على النهاية، وأعلمُ أنك لا تبغي مالاً ولا جاهاً. كن حريصاً على خدمة سيدتك .

ورحل تاركاُ زوجة صغيرة ودار عامرة،وخادمة وأنا.

في ليلة شتائية استبد فيها البرد واقتحم الأعضاء، كنت أتدفأ بسخين دموعي .

دخلت أرملة سيّدي الراحل وعلى عيونها غشاوة الشبق .

- زادني البرد برداً .

- أمي !!!

- طار طائر الكرى، واخترقني البرد، فلتكن لهيباً يخفف قساوته، إنسَ كلمة أمي هذي، وانس خرافات البوادي،تعال تذوق مالم يذق .

- أمي !!

- تفتأ تلهج بكلمة رحلت مع سيّدك،لا تمنع نفسك لذتها، فقد ظفرت بالروح مني .

- كبير عليّ أن آكل من صحن غيري .

- لا تخذل امرأة طلبت بنفسها الدفء، هل يرضيك أستدعاء الخادمة لتكون في موضعك أوموضع سيّدك فأبيع أنوثتي بثمن بخس .

- كفاك يا أمي .. بدأت أوصالي تقضقض ويكاد عمود الحياء الفقري ينفصم.

- بل هذه طقطقات منقارطائر الإحساس .

- مادمت مصرّة، إذهبي للمخدع وأنا سأتبعك .

وقفت أمام المرآة والدنيا لا تسع فرحتها،تفحصت وجنتيها الذابلتين فقرصتهما مستدعية حمرة الأصيل .

- مرآتي الصقيلة، يا أخت النهار، هل برقي ما زال يخفق في غلائل السحاب، وغصوني نضرة تسرّ الناظرين ؟

- مرحى جميلة الجميلات،أيتها المتوحشة أضناك نأي أنفاس الرياحين،لا شك أن خادمك سيكون سخيّاً معك،سيهبك ما تفتقدين، ما لم يستطعه الراحل الكهل زوجك، أوعية عقارالعشب إقذفيها في المزابل، سيُشفى الغليل بالغليل،وامنحيني لحظة التمتع بمشهد الفتوة تنهاربين سفحي الشهيق والزفير.

- إي مرآتي، لك ما تريدين،فالينابيع تكاد تشح وما وجدت هاطلاً، ويكاد يفرّ رونق الألوان من زهوري .

 أتراني أخطأتُ؟ لست طالبة أكثر من حق، وحاجات النفس قاهرة وحاجات الجسد أكثر قهراً .

-لا جميلة الجميلات، نضّي ثوب خوفك، وارقدي بثوب روضك، فَروضك خصيب، إصطنعي الخادم الغريب لنفسك فقد طمى السغب، وهبت نسائم حارقة دغدغت الرغبة،

لمَ ترتعشين وخصلاتك تصطفق؟

هنا وجدت ُالفرصة متاحة، لتتحاور مع المرآة . أخذت جرابي وتحسست كتابي، وانطلقت لا ألوي على شيء  في أرض الله الواسعة بين فضة الرمل وزرقة السماء . فسمعت صوتاً ينداح من جرابي .

- لله درك، يا لنبلك .

لم تسمح لداعي الهوى أن يصفع قفا الوفاء، يا لجليد روحك أمام صولة الجسد،أعرضت وإن انقضّ على طرى غصونك ونقرتك مناقير الشهوة، فقاتلتها وثلمت أسنّة رماحها .

سرت ُ على غير هدى آكل مما تنبت الأرض وأشرب كما تشرب الوحوش واستمرأت هذا العيش ولم أستمرىء ما همّت به سيدتي .

في ليلة مكحولة الآفاق تسرق فيها الظلمة البصر، قفزت من خرجي ظبيتي التي افتقدت، وتقافزت بين كثبان الرمل فتبعتها، لهثت وبسفح كثيب رملي قعدت، ومن تعب رقدت ُ .

ذهلت إذ أحسست برأس يغفو فوق أضلاعي.

 لمحت ثقوب جرابي كجفون مغمضة خجلاً .

- لاتوجل . أنا الظبية "ساراسواتي"، والظباء اللواتي فررن يوم كنت في المرعى يحطن بك .

هذه جوتي ومعها الإبريق ، وهذه أرشيا ومعها صورتها، وهذه صافيتازي ومعها حقيبتها، وهذه رتن ومعها حزمة أعواد بخور .

بدأن يرقصن وينشدن بصوت لم تسمع الخلائق أطرب منه : نحن الخالدات، الطيبات، الناعمات، الراضيات، فطوبى لمن كان لنا وكنّا له،

قبيل شروق الفجرقالت " ساراسواتي" : حان وقت الرحيل، نحن بنات الجن نعشق التخفي،فإن رمت عالمنا الذي استهزأتم به وسخرتم منه إقرأ كتابك سيعلمك كيف تربح نفسك وكيف نغوص في الرمال .

سرعان ما استوين تحت الثرى وتركن قمعاً رمليّاً .

تأملتُ عيني "ساراسواتي" التي تخلّفت عنهن،فمددت كفي ومسحت دمعها السخين، تفحصتُ الرمل، وتدلّينا معاً متعانقين تحت آنية فضة الرمل .

قبل اكتساء الرمل ببهاء النورلم يعد لنا وجود على سطحه .

"ساراسواتي" زميلتي في معهد الفنون الجميلة، والقصة هي الخامسة في مجموعتي غير المطبوعة – العوم في بخور الهند –.

 

سردار محمد سعيد

نقيب العشاق بين ذرى قنديل وقمم هملايا .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم