صحيفة المثقف

شوارع ومدن.. سيمياء وهويات

wadea shamekh2المدن شوارع والشوارع رئات المدن وخواصرها الندية، فلا اخضرار في الصحارى فكرا وواقعا، الشوارع عناوين المدن وهويتها، فيكفي ان تشير الى اسم شارع لتحضر المدينة بكل بهائها، وهذه سمة الحواضر وعافيتها واشراقاتها، فعندما نذكر " الشانزلزيه، تحضر باريس بكل عطرها واضوائها وتاريخها، وعندما نذكر لندن ينط شارع اكسفورد شاهدا على تنوع الحضارة والمدنية الانجليزية، وهكذا تتناوب الشوارع والمدن في الافصاح عن عطرها ولونها وجنسها وثقافتها، وحين نفكر في بيروت سيخرج شارع الحمراء شاهدا وشهيدا على حياة مدينة صغيرة في جغرافيتها ولكنها كبيرة في عمقها التاريخي ثقافيا وحضاريا وفكريا .

......

في العراق هناك تقليد راسخ منذ زمان بعيد في ان شارع المتنبي رئة بغداد الثقافية وهويتها الحضارية، يقع شارع المتنبي في الذاكرة العراقية الحيّة بوصفه شارعا للعقل والأحتفاء بنتاجه الجمالي والفكري والانساني..، ومن أهم صفات هذا الشارع إنه جامع المتناقضات.. ربما هو السمة البارزة للتعبير عن الشخصية العراقية المتجولة في هذا الشارع، اليقظة، المتحمسة، المبدعة، المقتنية، المتشاطرة، اللعوب، البائعة، المشترية، العارضة، المعروضة.. الحاكمة، المحكومة، الضحية، الجلاد، فصار شارعا للثقافة بأفقها المديد ..

.......

بعد سقوط الصنم وفقدان الهوية الوطنية العراقية التي تشظت الى لافتات لا حصر لها بين الدين، الطائفة،الحزب، القومية، المذهب،العشيرة .. الخ حتى عاد الالتفات الى الشوارع الثقافية بوصفها فعلا مضادا لهذا الخراب الهوياتي الوطني، فكان لابد من هوية جامعة لتستقر عليها سيمياء المدن للخلاص من المحو المنظم لوجودها .

فكانت المدن تنزع الى خضرتها وحضارتها عن طريق ابتكار شوارع ثقافية، ولعلها خطوة عميقة لها جذورها المبثوثة في رحم المدن واهلها المنتجين والمروجين لسوق الثقافة .

..........

المدن التي لم تنم على قيم المحاصصة وحضورها اللقيط على المشهد المديني العراقي سارعت الى استدعاء جهازها المناعي الذاتي ضد فايروسات الهويات القاتلة، فكانت الشوارع الثقافية بديلا، ومن المفرح والعميق ان هذه الشوارع لم تكن بمبادرات رسمية، فكانت البصرة مدينة الحضارة والتاريخ تقترح عبر حراكها الاهلي ان يكون للفراهيدي شارع يمثل نبضا للمدينة ويحتفي بفعاليتها الابداعية ويكون توأم المتنبي الشاعر في بغداد، وهكذا ابتهلت المدن التاريخية لتنهض من ركام كوابيسها الواقعية وشيوع الاحادية على حياتها، فكان للحلة شارعها – شارع طه باقر - والناصرية شارعها - الحبوبي- والعمارة شارعها – الرصيف الثقافي .

.........

ولو تقصينا اسماء الشوارع فلن نجد لها صدى لمحمول سياسي او ديني او قومي، طائفي، مذهبي .. الخ ..

لقد كانت صرخة جمالية بحس أهلي غير مسيس ولا مسلفن لخطاب ما، الدعوة لوجود شوارع ثقافية هي صدى عميق للبحث عن سؤال الهوية .

ان الشوارع الثقافية اقتراح جمالي بعد ازمة الهوية العراقية وبروزها كطقس جمالي للاحتفاء بالعقول المبدعة على رصيف الحياة،.

..............

 لعل ما يثري امر وجود الشوارع وجودها الحي في يوم "الجمعة" وما يمثله هذا اليوم من عطالة في التقويم الجديد وحيازته لممارسات دينية ومذهبية سائدة، فجمعة الشوارع فعل محايث ليقظة العقول لتحتفي بجمالها وجمال المعروض من غابة الكتب بكل رحيقها .

الشوارع ميدان حضاري ومدني لقلب المدن التي لا عقل لها ولا مزاج جمعي، وهي جزء من البنية التحتية للمشهد الثقافي العراقي، و نوافذ جديدة يطل ّ عليها العراقي بلا عقد ولا نوازع وخلفيات مسبقة ..

الشوارع الثقافية في عراق ما بعد الصنم ابتكار جمالي لروح العراق في مجابهة القحط والتصحر والاحادية .

شوارع الثقافة قفزة الكائن الوجودية وصرخته لتجاوز الصدأ والرمادية في المشهد المكتظ بالرايات السائدة..

 الشوارع عودة لطفولة وبراءة الحياة واشاراتها في قوس قزح عابر للتعمية والخواء .

شوارع الثقافة العراقية سؤال وجودي وجمالي ومطر وفير لا تحتمله مظلات العبودية، لانها معارضة جمالية وفكرية بأفق مفتوح وعلى الهواء الطلق

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم