صحيفة المثقف

المنامة الثانية والسبعون: الحقيقة الطالبية

mohamadtaqi jonلا يتهم ابن سيَّا بأنه سلبي،  يبحث عن العيوب والمناقص، وكالخفاش ينظر بعيون الليل، ويغمض عينيه عن الاشياء المضيئة.. فهو يدري ان بقاء العراقيين محافظين على وجودهم وقيمهم ودينهم واعرافهم برغم قساوة الهجمة الشاملة يعني أن رصيدهم من القوة لا ينتهي، وان العراق لم يفقد طبيعته التاريخية في مقاومة اعدائه حتى تحطيمهم، لذا هم  يخافون (لعنة العراق)، أن تصيبهم. وهذا يجعله بالعراقيين المخلصين وقدرتهم على الخلاص مؤمنا، وبأنهم الامل المرجى والمنى. ومن تلك الامال وجود من يبحث مستقتلاً عن المنصب ليس من اجل المنصب، بل ليخدم من خلاله البلد والشعب، مفوتاً على غيره اللص والفاسد أن يجثم عليه..

كان (طالب) من البقية.. يخاف الله، ولا تبطره النعمة. كان يمتلك عدداً لا يحصى من البسمات، فتقلص كثيراً بسبب ناس معينين وغير معينين. صارت البسمة تغور إلى أعماق منه لا يدريها فيتشبث بها طبيعةً وجبلَّةً، ولا يزال يقاوم فهو إلى الآن يبتسم، وثمة بسمة على وجهه ترتسم، وان كانت بنسبة حزن واضحة.

انه يشبه (الواحة) وسط الصحاري التي ترتاح جداً بأنها صحاري، وتتشبث بالواحة لاسباب غير خضراء حتماً. كان محطة استراحة إنسانية يقف عندها (جميعهم) ليتجددوا ويتزودوا بما فقدوه منها. انه بمجمله يمثل دمعة حائرة معلقة لا تستطيع الرجوع ولا تريدُ الطلوع.

ذات يوم طبيعي جداً كالأيام الطبيعية التي نرزح تحت وطأة ثقلها، قليلة الخير معدومة الهمم، شاهد ابن سيَّا (طالباً) يهرع ليزاحم النفعيين على رئاسة دائرته المتواضعة، ويجادلهم بالآلية الصوتية نفسها.. ثم قفز إلى الأسماع انه تسنَّم الرئاسة.

الرئاسة: منصب تهفو إليه القلوب، وتزيغ له الأعين، وتبح له وعليه الأفواه، لتصبَّ كل تلك الجهود في الجيوب، وهو المتمم والمصحح لتعريف المنصب.

حين دخل عليه ابن سيَّا يبارك له، أراد أن يقرأ كل تاريخه وما آل اليه في حاضره بوجهه في لحظات المباركة تلك! فلم يجد شوارع وأزقة مستحدثة لا تبين بداياتها ونهاياتها، ولا تدور في ساحات كبيرة أو صغيرة. كان وجهه بشارع واحد فقط هو نفسه المستقيم الذي تمشّى فيه طويلا ويعرفه جيداً، ويوصل اليه رأساً. كانت ابتسامته أقل حزناً فرحاً بالمنصب، وأسنانه التي تخرج من شفتيه ترسم البراءة الدائمة. انه هو هو، هو (طالب) وهو (أي شخص) يكلمه فيجد نفسه فيه؛ لأنه (مرآة جيدة الصقل).

قال ابن سيَّا: " لا أعلم لماذا أتيه حين أتأمل فيه.. يشرد ذهني إلى ماضٍ قديم جداً! لعلي أحس في نهايات الفكر العميقة أنه يعني طيبة الأمس والشوق للماضي المجيد الذي لا يأتي مثله اليوم والغد" وأضاف: " طالما كنت اعتقد بأنَّ الإنسان الطيب يحبه الناس، حتى تأكدتُ بـ(طالب) من أن الإنسان الطيب يحبه القلة الطيبون فقط، ولا يحبه الباقون ولكن يستغلونه باستهزاء خبيث".

وهكذا لم تستقم رئاسة طالب؛ لأن الناس (عدا الأقل) غير الطيبين، أرادوا استغلاله فأبى واستعصم، وحاول استقطابهم للخير فأبوا واستعصموا، فتقاطع الخصمان وتطاعن القِرنان واستحَرَّ القتل واستخدِمت كافة الأسلحة (الأخلاقية وغير الأخلاقية)، حتى عافت النفوس كرامتها وتنازلت عن سمعتها. وسقط طالب في رمضان لاهب سقط عبد الكريم قاسم قبله في رمضان مثله. قال ابن سيَّا:

" فدخلتُ عليه وهو يسلـِّم سلاحه، وقبَّلته القبلة اليومية التي تمنحني الطمأنينة يوماً كاملاً. كانت نفس القبلة تجمع الخير بحركة شفة موصولة بأعماق قلب لا نهاية لقرارته.. كانت تعني طيبة العراقيين التي غاضت كثيراً ولكنها لم تنقرض، وقد وجَدتْ أخيراً مكاناً وموئلا لها على وجنات (طالب). حين تركته كان يلملم أشياءه ليعود سيرتَه الاولى، يمارس الطيبة ويزرع الخير ولكن في مساحة أصغر. عندها أدركتُ لماذا كان يزاحمُ النفعيين ويجادل بالالية الصوتية ذاتها التي يجادلون بها من أجل (منصب الرئاسة) الذي صار مُلكاً صِرفاً لهم. انه كان يريدُ أن يوسِّعَ دائرة الخير بما يمنحه المنصب ليس غير، فحاربه النفعيون وانتصروا عليه في الأخير"!

لأجل أن يعلم الجميع أن مصرع طالب يعني مصرع بقية الخير بكل ما تنصبُّ فيه من روافد تعريفية. وعليهم المحافظة على (طالب) وكل (طالب) مثله لكي لا تنهي رئاسة الخير في العراق الى الابد. أطلقها ابن سيَّا كلمات وأبيات دمعيَّة قرَّحت العين وأشجت الحلق وحشرجت الروح.. جازعاتٍ نادباتٍ:

أسقطتَ يا عبد الكريم (طالبِ)       كقاسمٍ في رمضانَ لاهبِ

جاءت لنا أيامه ناعيةً                  باكيةً بأدمعٍ سواكبِ

يا رمضانَ الخير.. الشرُّ غدا         واقعَنا، والخيرُ حلمَ خائبِ

إن الجميعَ سوف يبكون عليكً يا شريفاً.. يا نزيهاً.. يا أبي

يا نجمة آلت تضّوي وحدها           في عنف ليلٍ أرهبيٍّ غالبِ

لكن إذِ انطفتْ سيبقى نورُها           يبحثُ عن موعدِهِ المناسبِ

يا خاطباً عُميَ وبُكمَ المفسدين.. شرُّ مخطوبٍ وخيرُ خاطبِ

مصرعُك الفاجعُ ذا مصرَعُنا                  طوبَى لأيامكَ من ذواهبِ

خسارة ما بعدها خسارة               على العراق وعلى المناصبِ

إن لم تكن أنت توفـِّي حقه             فمنصبٌ لفاسدٍ وناهبِ

 

أ. د. محمد تقي جون الحسني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم