صحيفة المثقف

لوك فيري .. نحو مبدأ جديد للأخلاق والمعنى (4)

الجواب الخامس: "الحب" مبدأ جديد للأخلاق والمعنى

لماذا نريد مرة أخرى الذهاب إلى ما هو أبعد، لماذا بعد كل شيء لا نبقى عند حدود "نيتشة" ووضوحه اللاذع؟ لماذا لا نكتفي كما فعل الكثيرون بتوسيع برنامجه وبإملاء الخانات التي ما زالت فارغة وبالتطريز حول الموضوعات التي أورثنا إياها؟ وإذا كنا لا نحبه أو كنا نجد أنّ فكره يقارب إلى حد بعيد وقاحة وعقائد الفاشية  – الحمراء أو السمراء – لماذا لا نرجع إلى الخلف، إلى حقوق الإنسان مثلا، أو إلى الجمهورية، أو إلى الأنوار؟

إنّ أي تاريخ للفلسفة، ومهما كان مبسطا لا يمكنه تجنّب هذه الأسئلة؛ لأن التفكير بالعبور من حقبة إلى أخرى ومن نظرة للعالم إلى أخرى يعتبر حاليا جزءا من الفلسفة نفسها.

إنّي أقول وببساطة ما يلي: إنّ تفكيك معبودات علم ماوراء الطبيعة كشف من الأشياء ما لا يمكننا عدم أخذها في الحسبان. ولا يبدو لي، ولا من الممكن ولا من المرغوب فيه، أن نعود إلى الوراء. إنّ " الرجوع المتكرر إلى ... " ليس له أي معنى: لو كانت المواقف الأخرى موثوقة ومقنعة بالقدر المطلوب لما أمكنها تحمل قسوة النقد، ولما توقفت عن أن تكون في مكانها المناسب. إنّ إرادة إحياء الفراديس المفقودة تنتج دائما عن نقص في الحس التاريخي. إن المشاكل التي على الديمقراطيات حلها لم تعد هي نفسها التي كانت في القرن الثامن عشر: فالانتماءات الطوائفية لم تعد هي ذاتها، والتطلعات تغيرت، وكذلك علاقاتنا مع السلطات وطرق استهلاكنا، إنّ حقوقا وفعاليات سياسية جديدة (اللأقليات العرقية، النساء، الشباب، ...) قد ظهرت ومحاولة حجب وجوهنا لا تفيدنا بشيء.

إنّ الأمر ذاته يحصل في تاريخ الفلسفة. وسواء أردنا ذلك أم لا، فإنّ " نيتشة " قد طرح أسئلة لم يعد من الممكن التغاضي عنها. لم يعد بإمكاننا التفكير بعده كما كنا نفكر قبله، وكأنّ شيئا لم يحصل، أو كأنّ المعبودات الشهيرة ما زالت في كامل تماسكها؛ لأن الواقع لم يعد على هذا النحو بكل بساطة. لقد حصلت زعزعة، ليس فقط مع " نيتشة " بل مع كل فلاسفة ما بعد الحداثة: لقد مرّ الطليعيون من هنا ولم يعد بإمكاننا التفكير والكتابة والرسم أو الغناء تماما كما في السابق. لم يعد الشعراء يتغنون بضوء القمر، ولا بمغيب الشمس. لقد حصل نوع من الخيبة من العالم، ولكن رافقته أشكال جديدة من الحرية أيضا. من منا في هذه الأيام يريد العودة جديا إلى زمن " بؤساء " فكتور هوغو، أي الحقبة التي لم يكن فيها للنساء حق الاقتراع ولا للعمال إجازات، والتي كان أثناءها الأولاد بسن الثانية عشر يعملون، وكنا نستعمر بنشوة أفريقيا وآسيا؟ لا أحد، ولهذا السبب فإنّ الحنين إلى الفراديس المفقودة ليس سوى تصنّع وإظهار للضعف.

أين نحن من كل هذا إذن؟ ومرة أخرى، إذا كان من غير الممكن تجنب " نيتشة "، فلماذا لا نتوقف عنده ونكتفي كما فعل الكثير من مريديه، مثل: ميشال فوكو، وجيل دولوز، بمتابعة عمل المعلم؟

إنّ هذا ممكن، فعلا، ولكن السؤال الذي يُطرح: إلى أين ستؤدي الدعوى المستمرة المقامة ضد " معبودات " الأنسية باسم نفاذ البصيرة والفكر النقدي؟ أي مخطط تخدم؟ هذا سؤال ليس ممنوعا طرحه، ولما لا، بما أنّ هذه المسألة هي بامتياز مسألة علم الأنساب أيضا، ولا شيء يمنع من إعادة السؤال إليه، من أين أتت؟ لأنّ خلف المظاهر الطليعية والجريئة للتفكيك وخلف ادعاء ابتكار " ثقافة مضادة " معارضة " للمعبودات " المتبرجزة، هناك، وبشكل متناقض، احتمال لانتصار التقديس المطلق للواقع كما هو، وهذا بالأحرى منطقي: إذ لشدة اسقاط أهلية المعبودات المعروفة وعدم قبول أفق آخر للفكر غير أفق " الفلسفة بالمطرقة "، كان من المحتم أن ننتهي كما توصل " نيتشة " إلى السجود أمام الواقع كما يسير. هذا معناه أنّ التفكيك الذي كان يريد تحرير العقول وكسر أغلال التقليد، قد انقلب إلى عكسه، أي إلى خضوع خائب أكثر من كونه واعيا، إلى الواقع القاسي للكون المعولم الذي نغوص فيه.

كيف يمكن في هذه الأوضاع تجنب مصير قدامى مناضلي الثورة الذين بدّلوا قناعاتهم للالتحاق بـ " عالم الأعمال "، والذين صاروا " وقحين " بالمعنى الأكثر سوقية للكلمة، أي فاقدين للأوهام ولأي طموحات غير تلك الرامية إلى تكيف فعّال مع الواقع؟ وفي هذه الشروط،. هل يجب فعلا، وباسم وضوح فكر يحتوي على الكثير من الإشكاليات، التسليم بإعلان موت " العقل " و " الحرية " و " التقدم " و " الإنسانية "؟ أليس هناك بين هذه الكلمات التي كانت في الماضي القريب محملة بالضوء وبالأمل، شيء يمكنه الإفلات من صرامة التفكيك والاستمرار بعده؟

هذه في نظري هي الأسئلة التي تفتح للفلسفة المعاصرة طريقا غير التمديد اللامتناهي لـ " مذهب التفكيك ". إنّها ليست كما يمكن أن تشك في ذلك طريق عودة إلى الوراء، إلى " الأنوار "، إلى " العقل "، إلى " الجمهورية "، وإلى " الإنسية "، إذ من الممكن أن لا يكون هناك معنى لذلك، بل محاولة إعادة التفكير فيها تستوجب مشقّات جديدة، ليس " كما من قبل " ولكن " على العكس، كما من بعد وعلى ضوء التفكيك الذي حصل ". لأنّ عدم القيام بذلك يعني أنّ الخضوع للواقع كما هو قد ينتصر.

نأتي الآن إلى ما أعتبره فلسفتي الخاصة، المرتبطة بتلك الحقبة الخامسة من التفكير، التي نحياها الآن، وقد سميتها " الإنسانوية الثانية ". إنّها خلافا لإنسانوية " ديكارت " و " الأنوار "، إنسانوية ما بعد التفكيك، تعطي معنى لأبعاد الوجود الإنساني التي حرّرها القرن العشرون المتميز بابتكارات باهرة وبالبلى الكامل للتقاليد. فبدل أن تقصر هذه الإنسانوية الجديدة قيمة الحياة الإنسانية، كما تفعل الأنوار على ما يتبع العقل والحقوق والتاريخ والتقدم، فإنّها تبدو إنسانوية قائمة على الحب – وسنرى لماذا أصبحت كذلك – . إنّ الدور المركزي الذي تعطيه الإنسانوية الجديدة لهذا الشعور الفريد للغاية هو الذي مكنّها في هذه الرؤية الخامسة للعالم من الإجابة عن مسألة معنى الحياة.

إنّ الحب ليس واحدا من بين مشاعر أخرى يمكن مقارنته بالخوف والغضب والاستياء على سبيل المثال، بل أنّه أصبح مبدأ ميتافيزيقيا جديدا؛ إذ هو الذي يعطي حياتنا معنى. وبالفعل هو وحده القادر على إضفاء طابع مثالي على كل ما يمكن أن يكون محبوبا، على وجه الدقة، في جميع الفرديات الإنسانية، مع إيجاد مثل جمعية جديدة، لأننا نريد أن نترك عالما يمكن العيش فيه ويكون أكثر ما يمكن استقبالا لمن نحبهم، لأطفالنا وللأجيال القادمة. ومن هذا المنظور يؤدي الحب اتجاه الأقرباء إلى الاهتمام بالانسان الآخر المثيل (وهو عكس القريب، اي من لا نعرفه)، كما نرى ذلك بالخصوص في نشأة الانسانوية الحديثة منذ " هنري دينان ".

الحب قيمة في تزايد، هذا بارز للعيان ! (لا أحد بوسعه على كل حال أن ينكر أنّ كل المثل التقليدية  – الدينية منها والأخلاقية والوطنية والثورية – فقدت قوتها وبريقها في الجذب، على الأقل في الديمقراطيات الكبرى، بحيث يبدو الحب، بشكل ما هو القيمة الوحيدة " في تزايد ") إلا أنّ أغلب المثقفين لا يهتمون بذلك، أو أنّ اهتمامهم غير كاف، إذ لا يزالون حبيسي المبادئ القديمة. ففي بلادنا لا أحد أو يكاد مستعد للتضحية من أجل الاله، أو في سبيل الوطن أو الثورة. إنّ هذا العدول عن الدواعي التقليدية للتضحية السياسية في سبيل كبريات القضايا، وهذا التراجع للمثل التي تؤدي إلى جلد الذات والتي قتل باسمها عشرات الملايين من الأفراد، ذاك في نظري أفضل حدث من أحداث القرن ! وفي المقابل نكون مستعدين للتضحية بأنفسنا من أجل من نحبهم، إذا لزم الأمر بالطبع، ليس سعيا وراء لذة التضحية، بل لأنّ حياتهم في خطر أو أنّنا كنا من جديد في حالة حرب على سبيل المثال.

إنّنا نعيش " ثورة حب ". إنّ ما أسميه " ثورة الحب "، هو الانتقال في أوروبا – بعد الثورة الصناعية – من الزيجات المعدّة في القرى أو العائلات بحسب مصالح المجموعة أو تقاليدها، إلى الزواج القائم على الاختيار الحر من قبل الشبان. إنّها إذن نشأة العائلة الحديثة في مقابل العائلة التقليدية التي لم تكن على أساس الاختيار، بل كانت مفروضة. وفي الواقع، فإنّ الاعتبارات المصلحية، وكذلك الخضوع لمختلف الضغوط الاجتماعية التي تمارس على الشباب في المجتمعات التقليدية، تضعف من الآن أمام الاختيارات التي تمليها عاطفة الحب وحدها. فيعلو شأن الحب أكثر من أي وقت مضى؛ لأنه فيه تعبير عن الفرد الذي تحرّر من إكراهات التماثل الاجتماعي، فبحث عن حياة موفقة في الانفتاح على الآخرين. هكذا يتضح كيف أنّ الضعف الذي عانته المثل التقليدية جعل من الحب المصدر الكبير لمعنى وجودنا، ليس في دائرة الحياة الخاصة فحسب، بل وأيضا في دائرة الحياة الجمعية. إنّ السياسة نفسها ستتغير كليا إذ أنّ مسألة الأجيال القادمة ستحل شيئا فشيئا، بمفعول هذا التاريخ للحياة الخاصة، محل مواطن المعنى القديمة التي كانت تحدو السياسة التقليدية (الوطن بالنسبة إلى اليمين، الثورة بالنسبة إلى اليسار). إني أعتقد أنّ مسألة معرفة أي عالم سنتركه لمن نحبهم، ستحل تدريجيا محل الغايات التي كان النقاش الديمقراطي يدور حولها إلى ذلك الحين. وهذا ما يبيّن من جهة أخرى، أنّ الحركة المدافعة عن البيئة هي وحدها الحركة السياسية الجديدة منذ ظهور الليبرالية والاشتراكية، لأنّها بالأساس الحركة الأولى التي طرحت في صلب النقاش السياسي مسألة الأجيال القادمة. وهكذا، عوضا عن الإنسانوية ألأولى، وهي إنسانوية الأنوار وحقوق الإنسان، تقوم إنسانوية ثانية، موسّعة للغاية: إنسانوية جديدة متّسمة بالأخوة والتعاطف، لم تعد تضحي بالإنسان لفائدة الأمة أو الثورة أو حتى التقدم (وهي مثل اشتهرت بأنّها خرجت عن الإنسانية ومتعالية عليها)، بل تجد في محايثة وجودنا ذاتها وفي مشاعرنا تجاه الآخرين مصدر يوتوبيا إيجابية يحملها المشروع المتمثل في توريث من سيأتون بعدنا عالما يوفّر لكل واحد وسائل التحقق.

قد يتساءل البعض عن أيّ شيء نتكلم حين نذكر الحب؟ هل يتعلق الأمر بـ " إيروس " ذلك الحب التملكي والغيور الذي يأخذ ويستهلك؟ أم بـ " فيليا "، أي حب الصداقة الذي يبتهج بمجرد وجود الآخر؟ أم بـ " أجابي "، أي الحب الذي يُعطي مجانا دون أن ينتظر أيّ مقابل ويمكن أن يتسع ليشمل حتى العدو؟ أم هل يتعلق الأمر بالثلاثة معا؟ من اعتبار هذه الأشكال الثلاثة للحب يستخلص " أندري كومت سبونفيل " درسا يستحق التفكير: ((إنّه من الواضح أنّه لا يمكنني أبدا، بمعنى " فيليا " أن أحب أكثر من عشرة أو عشرين شخصا في هذا العالم. يبقى إذن كثير من الناس، أكثر من خمس مليارات في الحقيقة، خارج حقل هذا الحب. وبالنتيجة في ما وراء فيليا، فإنّ الأخلاق، والاحترام الشرعي، المجرد، وفي الحقيقة اللامبالي، هو الذي يأخذ المكان. إنّه هو الذي يسمح لي بالتصرف مع أولئك الذين لا ينقصني نقصهم وغيابهم أبدا، ولا يعنيني وجودهم في شيء، تقريبا، كما لو كنت أحبهم. وهو الذي يأمرني بتوجيه شيك إلى أكثر الناس احتياجا، والمشاركة في مظاهرة ضد هذا الظلم أو ذاك. أو ببساطة أكثر قبول فكرة أنّ حريتي تتوقف عندما تبدأ حرية الآخر. وإجمالا حد أدنى من الاعتبار والمراعاة تقوم لدينا غالبا، وإذا مرّ كل شيء على ما يرام ، مقام " أغابي ". إنّ أغابي قد تحول الأخلاق إلى شيء تافه، ولكن هذا الحب مجاني جدا، ومنزه جدا إلى حد أنّه يبدو منيعا كليا على الإنسان، لذلك يصير ما هو تافه، أي الأخلاق، في نهاية التحليل، ضروري جدا. " تصرف كما لو كنت تحب ... " تلك هي الكلمة الأخيرة في القضية. إنّه شيء قليل، من دون شك، بالنظر إلى المثال المسيحي، ولكنه قد يكون كثيرا، بل حتى غير مؤمل لو فكرنا في إيجابية العالم كما يسير)). إلى هذا التحليل أود فقط أن أضيف هذا الشيء: إذا كانت " فيليا " هي التي تدخل الأسرة مع مجيء الفردانية الحديثة، فهل من العبث تخيل أنّها تجعلنا أكثر حساسية تجاه فضائل " أغابي؟ قد يُعترض على هذا بدون شك بأنّ الحب أناني، وأنّ الأسرة، وهي الدائرة الخصوصية بامتياز، لا تهتم بما هو جماعي إلا بقدر التأثيرات التي يمارسها عليها: فالآباء ينشغلون بالوضع الاقتصادي عندما يشكل تهديدا لأطفالهم، وبالمدرسة أو الجامعة عندما يدخلون إليها، وبمستقبل الطب والضمان الاجتماعي عندما يمرضون ... كل هذا ليس خاطئا. ولكن بين هذه الأنانية المتعددة من جهة، والأخلاق المجردة للأوامر الكونية من جهة أخرى، هناك فيما يبدو لي، حلقة متوسطة، رابطة، وحدة ملموسة، لا تصير مدركة واقعيا إلا فيما بعد وبدخول " فيليا " إلى الحياة الخاصة. فأن ننشغل أولا وقبل كل شيء بأقاربنا، فإنّ هذا لا يمنع من إنّنا نشعر بشفقة معينة أمام معاناة أولئك الذين نعرف الآن بأنّهم بشر مثلنا. وبالفعل، فإنّ بدون هذا التوسط لا يمكن أن تكون ثمة رحمة ممكنة تجاه الجنس البشري برمته. والحال إنّ هذا التعاطف المحسوس هو الذي سيقود، فيما يبدو لي، إلى تنسيب الحدود الضيقة للتناقض، تناقض الأنانية والغيرية، الذي كان الحب الحديث يحبس ذاته فيه – لقد كان هذا التناقض ضروريا لكي لا تظل أخلاق الواجب تجريدا محضا، ولكي تكون، إذا جاز لنا القول، ملحقة بـ   " أغابي ". فمن المستحيل بالنسبة لمن يحب أطفاله أن يظل غير مبال كليا بالمصائب التي تضرب " أشباههم "، ولو كانوا في أقصى الطرف الآخر من العالم. وفي إطار ديمقراطي تتطور فيه فكرة أن ليس هناك اختلافا في الطبيعة بين الأفراد، فإنّ الأنانية محكوم عليها، مهما كان ذلك قليلا، بتجاوز نفسها بنفسها. إلا أنّ هذا التجاوز ليس، في أغلب الأحيان، حتى في حاجة إلى أن يكون أثرا لاستدلال أو لنهج فكري. فعلى هذا العمق الجديد سوف تنطلق مغامرة العمل الانساني أواسط القرن التاسع عشر. ولعل بفضله سيمكنها أن تنوب عن دين مسيحي سبق لبنيته التقليدية سلفا، بنية اللاهوتي – الأخلاقي، أن دمرتها تماما تقدم الفردانية.

يفتح لنا الحب تجربة ما نسميه مع " هوسرل " بـ " التعالي في محايثة الحياة "، أي أنّه يعطي بعدا مقدسا للمعيش ذاته، دون التردي مع ذلك في الأوهام الميتافيزيقية التقليدية التي فضحتها فلسفات التفكيك. فالحب يفرض نفسه كبعد من أبعاد المطلق والمقدس في صميم جواز وجودنا بالذات. والدليل على ذلك أنّنا نستعد لكل شيء من أجل من نحبهم. وفي هذا تذهب الحقبة الخامسة من الفلسفة إلى أبعد مما كانت عليه حقبة التفكيك التي سبقتها: ففي نفس الوقت الذي تتبنى فيه الحقبة الخامسة بقدر كاف من الاتساع إعادة النظر في القيم المشتهرة بأنّها عليا وخارجة عنا، نجدها تكتشف في اتجاهها إلى آخر هذا الحراك شكلا من أشكال التعالي يتنزل هذه المرة برمته داخل تجربتنا الدنيوية، وهو تعال سنتمكن بفضله من إعادة تأسيس مثل مشتركة، ولكنها لن تكون مقامة " ضد الحياة " كما كان " نيتشة " يخشى قبْليا من كل تعال. إذن نجد من جديد تعاليا للمعنى في تجربة الحب؛ لأنّه يجعلنا نخرج، تقريبا، من ذواتنا، ومع ذلك نحس هذا الشعور، ليس باعتباره موجودا في عالم أخروي ما، بل بكل بساطة باعتباره متجذرا في الأرض، في قلوبنا كبشر. فالحب يضطرنا إلى تجاوز ذواتنا، بحكم تعالي الآخر فقط، تعالي الشخص المحبوب الذي يتغلب على أنانيتنا الطبيعية، إلا أنّ هذا التعالي الذي يحْمله إنّما نعيشه ضمن المحايثة الأكثر حميمية، محايثة حياة القلب الباطنية. وبمعنى آخر: عندما أقع في الحب، ليس هناك من شك في أنّي خضعت لغواية كائن خارجي بالنسبة إلي، من قبل شخص لا سيطرة لي عليه، لا بل في الغالب أخضع له. في هذا المعنى هناك حتما سمو، لكن من الواضح أنّني أشعر به في نفسي، لا بل أكثر من ذلك، إنّ موقعه، إذا جاز القول، قائم في أعمق أعماق كياني أي في دائرة الشعور أو كما يقال عن حق " في القلب ". إنّ من غير الممكن إيجاد استعارة للملازمة أجمل من صورة القلب هذه؛ ذلك لأنّه هو وفي آن معا موطن السمو بامتياز – سمو حب الآخر الذي لا فضل لي فيه – وموطن ملازمة شعور الحب في أعمق أعماق شخصي. إنّه سمو في الملازمة إذن. إنّ ما نحياه ليس نهاية المقدس أو المعنى، بل على العكس هو بروز صورة جديدة لما أسميه  " المقدس ذو الوجه الإنساني ".

ليس لما تقدم فحسب تذهب الحقبة الخامسة إلى أبعد مما أنجزته فلسفات التفكيك، بل، أيضا؛ لأنّ هذه الأخيرة تعطي الأولوية للقوى اللاواعية التي لا نحس آثارها إلا بصفة غير مباشرة، بينما تسعى قوة الحب بالذات إلى تأسيس الحياة الطيبة على شعور نحسه مباشرة في بداهة المعيش.

يمكن أن نتوجس في هذا بروز وثن جديد بالمعنى النيتشوي، ولكن لا شيء من ذلك البتة؛ إذ ليس الحب مثلا سماويا نحاول فرضه على الحياة الدنيوية، بل على العكس هو الحياة ذاتها. فأنا على استعداد لكل شيء من أجل الحبيب، مستعد على كل حال لصنع الكثير: وهنا من الأكيد أنّ الأمر يتعلق بتعال، ولكنه لأول مرة تعال إنساني صرف، روحاني وجسمي في آن واحد. ومن هنا فصاعدا تتخذ فكرة التضحية في نظرنا معنى متجاوزة حتى من نحبهم ومن هم أقرباؤنا، ولكنها تعني على كل حال أشخاصا أكثر مما تعني كائنات مجردة. فهنالك من زاوية فلسفية شيء غير مسبوق: هنالك تعال يعطي في النهاية معنى قويا جدا للحياة، ولم يعد في نفس الوقت متعاليا على الوجود الإنساني؛ إذ الحبيب في الأرض وليس في السماء. وبذلك لا تقع إنسانوية الحب تحت طائلة النقد النيتشوي للأوثان.

من ألآن فصاعدا، تكون القيم الخاصة هي ما يؤسس لأقوى انتظارات المجتمع في الدائرة العامة، وبالتالي للجدل والعمل السياسيين. ذاك على نحو متزايد شأن المجالات التي تشمل الصحة والتربية والبيئة والشغل وإعادة التأهيل والوقاية من الحوادث، الخ. أيّ عالم سنتركه لمن هم الأحب إلينا، أي لأطفالنا، وبوجه أعم للشباب، أعني الإنسانية التي تأتي بعدنا؟ تلك هي المسألة السياسية الجديدة. إذن يفتح الاهتمام بالأجيال القادمة فضاء مشتركا بين الدائرة الخاصة (العاطفة التي تزدهر في الأسرة وتؤدي إلى تقديس من تُجَمّل صورتهم) والدائرة العامة  (مستقبل الشباب وفيما بعد مستقبل البشرية قاطبة). ذلك أنّ العالم الذي سنتركه لأطفالنا يتطابق مبدئيا مع العالم الذي سنتركه لكل البشر، وأنّه من جهة أخرى عندما نختار للجميع توجهات سياسية نحكم بأنّها أفضل ما يمكن لأطفالنا نحن، فإنّنا ننطلق من معيار على قدر كاف من المصداقية للبحث عن الحلول الأكثر صوابا وسخاء والأفضل رويّة. مثلا، عندما كنت وزيرا للتربية الوطنية، لم يكن يخطر ببالي أن أقوم بإصلاح لفائدة بناتي الثلاث فحسب، بل كنت أفعل ذلك، بداهة، لفائدة أطفال فرنسا جميعا؛ إذ كان مَرَدّ هذا الأمر إلى ما هو جمعي، وليس إلى الحياة الخاصة. ولكني مع ذلك كنت أطرح على نفسي بلا انقطاع هذا السؤال الذي أعتقد أنّه يشكل أفضل معيار: إذا كان هذا الإصلاح لا بد أن يُطبق على البنات الأحب إلي، هل كنت أنجزه بنفس الصيغة، هل يكون هو عين الإصلاح الذي كنت أختاره؟ ذاك هو ما أسميه " سياسة في الحب " ذلك أني لا أتفق مع الفكرة القائلة بأنّ السياسة تحرّكها المصالح، بل أعتقد على العكس من ذلك أنّ الإنسانوية الثانية تُدخل أو تستدعي على الأقل، في السياسة بعدا من التعاطف والأخوة أشد حضورا وتحديدا مما يُتصور، ويبدو لي إنّ السياسيين يمكن أن يغنموا، إن تعلقوا بهذا البعد، أكثر مما يفعلون. من هذا المنظور اقترحت أمرا واجبا جديدا، متميزا عن الأمر القطعي الكانطي، وقد صغته تقريبا على النحو الآتي: " افعل بحيث يمكن لقاعدة فعلك أن تُطبق على من هم الأحب إليك ". ويبدو لي أنّه لو امتثلنا لهذه القاعدة لعاملنا الأجانب والمعطلين عن العمل بغير ما نفعل اتجاههم. لنتخيل أطفالنا مكانهم، ماذا سنفعل؟ فلو تفحصنا كل القرارات السياسية بحسب هذه القاعدة، لما كان هنالك أي شك في أنّ الاختيارات المتبناة وفق هذا المعيار قد تكون مختلفة بدرجة بالغة عما هي عليه في الإطار المعهود. وبالطبع هناك نصيب من اليوتوبيا في مثل هذا الأمر أو الواجب. ولكن على عكس اليوتوبيات التي أدمت القرن العشرين، فإنّ هذه اليوتوبيا إنسانية صرف، وبناء عليه فهي غير قاتلة.

إنّ الإنسية " اللاماورائية " لا تزن شيئا بالنسبة للعقيدة المسيحية، وخاصة بالنسبة للوعد الذي تعطينا إياه بقيامة الأجساد وبلقاء من نحبهم بعد الموت. نعم، لاشيء يمكن منافسة المسيحية على مستوى التجربة الأولى لعقائد الخلاص، ولكن شرط أن نكون مؤمنين، وإذا لم نكن كذلك – ولا يمكننا بالطبع إجبار أنفسنا عليه ولا ادعاؤه – فيجب عندها أن نتعلم النظر بشكل مغاير إلى المسألة النهائية لكل عقائد الخلاص، أي مسألة الحداد على الكائن المحبوب.

إنّني أعتبر أنّ على كل منا صياغة حكمة حب خاصة به، بصمت، ولكن يبدو لي أنّ علينا، وبعيدا عن البوذية والمسيحية أن نتعلم أخيرا العيش وأن نحب الراشدين ونحن نفكر، إذا توجب الأمر ذلك، كل يوم في الموت. ليس تحت تأثير سحر مرضي أبدا، بل على العكس، من أجل البحث عما ينبغي القيام به، هنا، والآن، وبكل فرح مع أولئك الذين نحبهم والذين سنفقدهم، إلا إذا فقدونا هم قبل ذلك. ومع أنّني بعيد كل البعد عن امتلاك هذه الحكمة، فإنّني متأكد من أنّها موجودة ومن أنّها تشكل تتويجا لأنسية متخلصة من أوهام علم ما وراء الطبيعة ومن الدين. (48)

لنلاحظ كيف تمكّن " فيري " من عرض فلسفة كاملة. إذ أنّه قدّم لنا من خلال " مبدأ الحب " سبيلا جديدا لبناء فكر في المحاور الثلاثة المكونة لكل فلسفة كبرى (نظرية، وإتيقا، ومذهبا في الخلاص):

على مستوى النظرية: اقترح " فيري ": " فكرة مبتكرة للسمو "، أعادت الاعتبار للسمو، لكنها أعطتها دلالة جديدة استطاعت بها الإفلات من الانتقادات الآتية من " المادية المعاصرة والتموضع في مجال فكري ليس " لما قبل " بل " لما بعد " " نيتشة.(49) وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.

وعلى مستوى الأخلاق قدّم لنا " فيري " أخلاقا مبنية على تقديس الغير: " تأليه ما هو إنساني ": يؤكد  " فيري " على إنّنا نستمر، سواء كنا ماديين أم لا، بالاعتقاد أنّ بإمكان بعض القيم عند اللزوم دفعنا إلى المخاطرة بالموت. فالعديد منا ما زالوا يعتقدون بأنّ حفاظ الشخص على حياته، برغم كونها أثمن موجود، ليس بالضرورة وفي كل الظروف القيمة الوحيدة المعتبرة. إنّك وبدون شك قد ترتكب أعظم المخاطر في سبيل إنقاذ من تحب. من هنا يستدل " فيري " على وجود هذه القيم السامية التي تعلو فوق الحياة المادية أو العضوية، ولكنه يرفض أن يكون هذا السمو هو سمو الله أو الوطن أو الثورة كما هو الحال عند السابقين، ويختلف مع المادية المعاصرة التي تستبدل السمو بالملازمة الجذرية. وبعبارة أخرى: لم يستبدل " فيري " أنواع السمو الماضية – سمو الله أو الوطن أو الثورة – بالملازمة الجذرية العزيزة على الماديين ولا بالعودة عن ما هو مقدس متزامنا مع التضحية، بل بالأحرى بأشكال سمو جديدة، أفقية وليست عمودية، إذا أردنا، بل متجذرة في ما هو إنساني، أي في كائنات موجودة على ذات المستوى بالنسبة لنا، وليس في كيانات قائمة فوق رؤوسنا. إنّه يؤكد أنّنا نعيش حركة تأليه أو تقديس لما هو إنساني: لقد بتنا قادرين – بحسبه – على ركوب المخاطر من أجل الانسان الآخر، إذا لزم الأمر، وليس بالتأكيد من أجل كيانات الماضي، مثل الوطن أو الثورة – بالطبع، يمكننا أن نبقى محبين للوطن، لكن معنى الوطن قد تغير: صار يعني الأرض بشكل أقل من البشر التي يعيشون عليها، كما صار يعني الوطنية أقل من الأنسية –. يعطينا " فيري " مثالا على ما تقدم، إنه ينصح بقراءة كتاب " هنري دونان " – مؤسس الصليب الأحمر، وبعيدا عن هذه المؤسسة الخاصة مؤسس العمل التطوعي الإنساني الحديث الذي خصص له حياته – " ذكرى من سولفيرينو ": لقد استخلص " دونان " من معاناته التي مرّ بها درسا صار مبعث الثورة الأخلاقية الحقيقية التي تمثلها المنظمات الإنسانية. إنّها الثورة التي اعتبرت أنّ الجندي ما أن يُطرح أرضا، مجردا من السلاح وجريحا، فإنّه لا يعود منتميا إلى أمة إو إلى معسكر، ليصبح إنسانا فقط، يستحق بسبب هذا الحماية والمساعدة والعناية، بغض النظر عن ارتباطاته السابقة بالصراع الذي شارك فيه. وإذا كان " دونان " يلتقي هنا بالفكرة الأساسية لحقوق الإنسان، فإنه يذهب أبعد من ذلك؛ لأنّه دعانا أن نتغاضى أيضا عن الانتماءات بطريقة تطلب بها المجموعات الإنسانية، كوريثة للمسيحية، أن نعامل، من الآن فصاعدا، عدونا الشخصي، ما أن نجده في حالة الكائن البشري غير المؤذي، بطريقة وكأـنه صديقنا. (50)

أما على مستوى الخلاص فإنّ " فبري " يقترح علينا إعادة التفكير في " مسألة الخلاص " من خلال ثلاثة عناصر: " لزوم الفكر الموسع، حكمة الحب، تجربة الحداد ":

فكرة " الفكر الموّسع " لم تعد تعني فقط، كما عند " كانط "، إلزامية الفكر النقدي واللزوم البرهاني (وضع النفس في موضع الآخرين من أجل فهم أفضل لوجهة نظرهم)، بل طريقة أخرى للرد على التساؤل عن معنى الحياة: بالتعارض مع الفكر " المحدود " يمكن تعريف الفكر الناقد، للوهلة الأولى كفكر قادر على انتزاع نفسه من نفسه. من أجل " وضع نفسه مكان الآخرين "، وهذا ليس فقط من أجل فهمهم بشكل أفضل، بل من أجل النظر إلى أحكامه الشخصية، في عودة إلى ذاته، من وجهة نظر يمكنها أن تكون لآخرين. على المرء من أجل وعي ذاته أن يكون بطريقة ما " على مسافة من نفسه ". هناك يبقى الفكر المحدود منغمسا في طائفته الأصلية لدرجة يحكم معها إنّها الوحيدة الممكنة، أو على الأقل، الوحيدة الصالحة والشرعية. يتوصل الفكر الموسع، بأخذه بقدر المستطاع بوجهة نظر الغير، إلى تأمل العالم كمشاهد صاحب مصلحة وحنون. وبسبب قبوله بعدم مركزة منظوره الأصلي وبانتزاع نفسه من الدائرة المحدودة للأنويّة، يتمكن الفكر الموسع من الدخول في العادات والقيم البعيدة عن تلك التي يتبناها، ثم ولدى عودته إلى نفسه، ووعي ذاته بطريقة متجردة وأقل جزما، فإنّه يُغني وجهات نظره الشخصية. إنّ هذا المسار هو الذي يُعطي للحياة معناها ويبرّرها: علينا انتزاع أنفسنا من الأنّوية، إنّنا بحاجة إلى الآخرين لكي نفهم أنفسنا، وبحاجة إلى حريتهم وسعادتهم، إذا أمكن ذلك، لإتمام حياتنا الخاصة. وفي هذا يشير الاعتبار الأخلاقي، من تلقاء ذاته، نحو إشكالية أعلى: إشكالية المعنى. ففي التوراة، أن نعرف يعني أن نحب. وإن أردنا قول الأمور بفجاجة: عندما نقول عن شخص ما " لقد عرفها توراتيا "، هذا يعني أنّه ضاجعها. إنّ إشكالية المعنى هي علمنة هذه المعادلة التوراتية: إذا كانت المعرفة والحب نفس الشيء فإنّ ما يُعطي معنى لحياتنا، عندئذ وفوق كل شيء، ويُعطيها كذلك توجها ودلالة، هو مثال " الفكر الموسع " عينه، فهو وحده، فعليا، وبدعوته لنا للسفر بكل ما للكلمة من معنى، وبِحثّنا على الخروج من ذواتنا من أجل إيجاد أنفسنا بشكل أفضل، يتيح لنا أن نعرف وأن نحب الآخرين بشكل أفضل. لأجل هذا ولا شيء غير هذا ينفع أن نشيخ، من أجل توسيع رؤيتنا وتعلم حبّ فرادة الكائنات والأعمال، وكذلك من أجل إلغاء الزمن الذي يوفره لنا وجود هذا الحب عندما يكون قويا. وفي هذا نتوصل، ولكن في بعض اللحظات، وكما كان يدعونا إليه اليونانيون، إلى تحرير أنفسنا من ظلم الماضي والمستقبل، لكي نسكن هذا الحاضر الخالي من الشعور بالذنب والآمن، والذي فهمت الآن إنّه كان مثل " لحظة خلود "، ومثل هنيهة لم يعد يعني فيها الموت من الخوف شيئا بالنسبة لنا.

لكي نفهم أفضل الفكر الذي تبشر به العبارات السابقة، علينا أن نذهب أبعد من ذلك وأن نحاول اكتشاف كيفية وجود " حكمة حب " أو نظرة لـ " الحب " تتيح الادراك الكامل للأسباب التي من أجلها يعطي وحده، على الأقل من منظور الأنسية، معنى لحياتنا. لكي نحيط بـ " حكمة الحب " بشكل أفضل علينا الانطلاق من معرفة ما يميز أيّ عمل فني كبير، لأنّه وفي أي مجال كان يتميز في البداية بفرادة سياقه الثقافي الأصلي. إنّ ما يميّز العمل الفني العظيم، وخلافا للفن الشعبي، هو أنّه لا يرتبط بشعب خاص، بل إنّه يرتقي إلى العالمية. إنّ وصول العمل إلى المستوى العالمي – بحسب " غوته " – لا يُكتسب عن طريق الاستخفاف بخصوصيات الأصل، بل بالقبول بواقع الانطلاق منه ثم الانقطاع عنه من أجل تحويله إلى شيء آخر ولكن دائما في فضاء الفن. لهذا السبب يتحدث العمل العظيم، بخلاف الأعمال الأخرى إلى كل الكائنات البشرية مهما كان المكان أو الزمان الذي نعيش فيه. إنّ ما يلزم فهمه هنا، لكي نفهم في أيّ ميدان يُعطي الحب معنى، هو أنّ بين الواقعين الخاص والعالمي، يوجد مكان لأجل متوسط: الفريد أو الفردي. إنّما هذا الأخير وحده، وفي آن معا، موضوع حبنا وحامل المعنى. لكي نفهم هذه الفكرة الأساسية التي تمثل الجسر الرئيسي في البناء الفلسفي لللإنسانية المعلمنة، لا بد من الانطلاق من بيان ما نعنيه بـ " الفرادة ": إنّنا إذا قصدنا بـكلمة " فرادة " أو " فردية " خصوصية لم تتوقف عند ما هو خاص بل ذابت في أفق أعلى لكي تصل إلى عالمية أكبر، عندها سندرك في أيّ مجال يقدم عمل فني عظيم النموذج الأكثر كمالا عنها. كوننا ما زلنا نقرأ " أفلاطون " أو " هوميروس " أو " موليير " أو " شكسبير " أو نسمع " باخ " أو " شوبان "، فهذا يعود بالمعنى الدقيق إلى أنّهم مؤلفون لأعمال فريدة ومتجذرة، في آن معا، في ثقافتهم الأصلية، وفي زمانهم، لكنها أيضا قادرة على التوجه لكل البشر وفي كل الحقبات. هذا هو الأمر بالنسبة لكل الأعمال العظيمة وحتى لكل الآثار التاريخية الكبرى. لأنّها ارتقت إلى المستوى الأعلى من " الفرادة " ، ولأنّها لم تتوقف، لا عند الخاص الذي كان يشكل، كما عند أيّ إنسان، موقع الانطلاق، ولا عند العام المجرد والروحي، مثل التركيبة الكيميائية أو الرياضية، مثلا. إنّ ما نحب في العمل الفني هو تلك الفرادة التي ليست خاصة فقط ولا عالمية بالكامل. إنّك ترى هنا بأية وسيلة تلحق الفرادة مباشرة بمثال الفكر الموسع: عندما أنتزع نفسي من نفسي من أجل فهم الغير، وعندما أوسّع حقل تجاربي، فإنّي أتفرد بما أنني أتجاوز ما هو خاص في وضعي الأصلي من أجل التوصل إما للعالمية أو على الأقل لمراعاة إمكانيات الإنسانية جمعاء. إذا اتبعنا خيط التميّز الذي قادنا إليه الفكر الموسع، علينا إضافة بعد الحب إليه؛ لأنّه وحده القيمة والمعنى النهائيين لكل تطور " التوسيع " الذي يستطيع كما يجب عليه أن يقود التجربة الإنسانية. إنّه لهذا الاعتبار، نقطة وصول الإنقاذ الأنسي والجواب الوحيد المُرضي عن التساؤل عن معنى الحياة، وبهذا نكرر القول، تظهر الأنسية اللا ماورائية وكأنّها علمنة مسيحية. إنّ التميّز بعد ذاتي شخصي للكائن البشري كما هو. إنّ هذا البعد، دون الآخرَين، هو الموضوع الرئيسي لحبنا. إنّنا لا نحب الخاص لأنه خاص ولا العالمي المجرد الفارغ. إنّ الفرادة وحدها بتجاوزها في آن معا الخاص والعام، يمكنها أن تكون موضع حب. إذا توقفنا عند المزايا الخاصة/العامة وحدها فلن نحب أحدا بشكل حقيقي. إن ما يجعل كائنا ما محبوبا وما يُعطي الشعور بأنّ بالإمكان الاستمرار في حبه، حتى ولو شوهه المرض، لا ينحصر في صفة واحدة مهما كانت مهمة. إنّ ما نحبه فيه (وما يحبه فينا) وما يجب علينا بالنتيجة تنميته بالنسبة للغير كما لأنفسنا، ليس الخصوصية الصرفة ولا الصفات المجردة العامة، بل الفرادة التي تميزه وتجعله غير شبيه لأحد. إنّنا نستطيع القول مثل " مونتاني " لمن نحبه أو نحبها " لأنه كان هو ولأنني كنت أنا " وليس " لأنه كان جميلا أو قويا أو ذكيا " ... وهذه الفرادة ليست معطاة منذ الولادة، إنّها تصنع بألف طريقة دون وعي منا، بالضرورة، لا بل بالعكس. إنّها تصاغ طوال الوجود والتجربة، ولهذا السبب بالضبط، لا يمكن استبدالها بالمعنى الحقيقي. إنّ الرضع يتشابهون كلهم مثل صغار القطط، إنّنا نحبهم كثيرا، بالتأكيد، ولكن فقط عند بلوغه الشهر الأول ومع ظهور أول ابتسامة له، يصبح صغير الإنسان محبوبا " إنسانيا "، وذلك لأنّه منذ تلك اللحظة يدخل في قصة إنسانية حقيقية، ألا وهي العلاقة بالغير. في هذا المجال، وباتباعنا الدائم للخيط الأحمر للفكر الموسع وللفرادة المفهومة هكذا، يمكننا إعادة تزويد المثال اليوناني بهذه " اللحظة الخالدة "، أي هذا الحاضر الذي وبسبب فرادته بالضبط، لاعتبارنا أنّه لا يستبدل، ولأنّنا نقدر حجمه بدل إلغائه باسم الحنين لما سبق أو الأمل بما يمكن أن يتبعه، يتحرر من مخاوف الموت المرتبطة بالنهائية والزمن. من جديد وفي هذه النقطة تلاقي مسألة المعنى مسألة الخلاص. إذا كان الانتزاع من الخاص والانفتاح على العام يشكلان تجربة فريدة، وإذا كان هذا التطور المزدوج يجعل حياتنا فريدة ويوصلنا في آن معا إلى فرادة الآخرين، فإنّه يمنحنا بالتزامن مع وسيلة توسيع الفكر وسيلة وضعه في احتكاك مع لحظات فريدة، لحظات نعمة حيث يغيب الخوف من الموت المرتبط دائما بأبعاد خارجية بالنسبة للحاضر.

نحن نعلم أنّ ما يقال عن الخلاص هنا لا يزن شيئا بالنسبة للعقيدة المسيحية، لا شيء يمكنه منافسة المسيحية على هذا المستوى، ولكن على غير المؤمنين أن يتعلموا النظر بشكل مغاير لكل عقائد الخلاص، أي مسألة الحداد على الكائن المحبوب. هناك ثلاث طرق للتفكير بالحدادعلى شخص نحبه: الطريقة الأولى: توصي البوذية بـ " عدم التعلق "، ليس بدافع عدم الاكتراث، أي أن نحب ونصادق دون أن نقع في " فخ التعلق ": " أن تكون متعلقا " لا يعني فقط " أنك ستُحرم من السعادة والطمأنينة "، بل يعني أيضا " أنّك مربوط " وغير حر . الطريقة الثانية: على العكس تماما، ما توصي به الديانات الكبرى، وخاصة المسيحية: إنّها توصي بأن نمارس مع الكائنات العزيزة " الحب في الله "، أي الحب الذي يطال ما فيهم من وجه خالد وليس فانيا. وهي تعدنا إذا ما فعلنا ذلك بأن نحصل على سعادة لقياها، مما يعني أنّ التعلق ليس محظورا، شرط أن يوظف في موضعه.الطريقة الثالثة: لا يرى " فيري " في عقيدتي الخلاص السابقتين اللتين تعالجان بشكل متناقض تماما إشكال موت الكائنات العزيزة علينا، ما يناسبه، فهو في نفس الوقت الذي يؤكد فيه أنه لا يستطيع منع نفسه من التعلق، بل ليس لديه أية رغبة بالعزوف عن ذلك، والعيش وحيدا، يجد أنّ العرض المسيحي أكثر جذبا بكثير، ولكن إلى الدرجة التي لا يستطيع معها الإيمان به. قد لا يكون في وسع المرء أن يعمل شيئا غير انتظار الكارثة، ولكن قد يكون في وسعه، أن ينمّي، فقط لنفسه، بهدوء وبدون وهم نوع من " حكمة الحب ": الكل يعلم، مثلا، أن على المرء التصالح مع أهله – إذ لا مناص من توترات خلقتها الحياة – قبل أن يرحلوا، لأنّ الأوان بعد ذلك يكون قد فات، مهما قالت المسيحية عن ذلك. إن كنا نعتقد أنّ الحوار مع الكائنات العزيزة علينا لا يمتد إلى ما لا نهاية، فمن الواجب علينا استخلاص النتائج من ذللك. ما علينا أن نفعله، وبعيدا عن البوذية والمسيحية، أن نتعلم العيش وأن نحب الراشدين ونحن نفكر، إذا توجب ذلك كل يوم في الموت. ليس تحت تأثير سحر مرضي أبدا، بل على العكس، من أجل البحث عما ينبغي القيام به، هنا والآن، وبكل فرح ، مع أولئل الذين نحبهم والذين سنفقدهم، إلا إذا فقدونا هم قبل ذلك. " حكمة الحب " هذه هي التي تشكل تتويجا لأنسية متخلصة أخيرا من أوهام علم ما وراء الطبيعة ومن الدين. (51)

 

رضا حسن الغرابي

...................

الهوامش

48 - لوك فيري، تعلّم الحياة، مصدر سابق، ص303 – 310، ص354، ص382 – 387. وانظر أيضا: لوك فيري، الإنسان المؤله أو معنى الحياة، مصدر سابق، ص129 – 133. وأيضا: لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، مصدر سابق، ص59-66، ص317-338.

49 – لوك فيري، تعلّم الحياة، مصدر سابق، ص346-354.

50 – المصدر السابق، ص360-364.

51 – المصدر السابق، ص346-387..

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم