صحيفة المثقف

درب الشهداء

solayman omayratأخيرا، وصل فوج المجاهدين إلى دوار بوهمدان، القرية خالية على عروشها، منازلها منتشرة على الربوة في صورة مبعثرة هنا وهناك، لا ترى غير بعض النظرات من خلف الباب، يلوص منها النساء في استحياء وخوف من الجنود غير مسلحين ولا معروفين في المنطقة كلها، شكلهم مريب وزيهم غريب، حمر طوال، القائد أرزقي يحمل مسدسا لا يكاد يحمي به نفسه، والفوج مكون من قائد وستة عشرة جنديا هم من بلاد القبائل، جاؤوا عابرين إلى الحدودية التونسية بنية جلب السلاح الجديد إلى ولايتهم من أجل الحرب ضد الاستعمار وحماية منطقتهم من بطشه بالشعب ومحاصرة المجاهدين في الغابات وعلى قمم الجبال العاتية.

هنا انتهى عملي كمرشد للفوج، بعد أن رافقته طويلا وسايرته من القل إلى هذا المكان، عبر هذا الطريق الخطير الذي ألفته من كثرة ما عبرت منه مع سلاسل العبور، فنحن لا نمل الحرب، مثل الأطفال الذين لا يملون ألعابهم، يتمسكون بها رغم تشوه بعض أجزائها، ونتمسك نحن بقضيتنا رغم فراق بعض الأحبة وأشخاص أعزاء علينا، وكم أخذ هذا الطريق المحفوف بالمخاطر، فمن منا لم يستشهد له عضو من العائلة في هذه الثورة التي أخذت الشباب من على الجبال والشيوخ في دواويرهم بعد تعذيب وتنكيل يقوم عليه الجنود والحركى بأمر من القائد الفرنسي، سواء بالقتل والتعذيب أو الإبادة للعنصر الجزائري الحر.

يأمرني أزرقي بالعودة من حيث أتيت ويرى في التعب والارهاق، فلم أعد قادرا على السير طويلا ولا مجاراة الجنود الشبان، فقد تقدم بي العمر وزاد علي الأعمال العسيرة منذ الصغر، فالمعمر لم يرحمنا لا في وقت السلم ولا عند الحرب، والحقيقة أنه بطلبه كان يشكرني عن العمل الذي قمت به في نهج الطريق بسهولة وأنه عبر كل الطريق معي في أمن وطمأنينة على جنوده، وكم كنت سعيدا لأنني وفقت في مهمتي التي أرجو دائما أداءها على أحسن وجه، وأن كل الجنود معافين وسالمين.

الآن نحن بدوار بهمدان على مقربة من مدينة قالمة التي سيقطعها الفوج من ناحية جبل ماونة مع المرشد السعيد، لم يحضر المرشد بعد ولا أثر لمجموعة القائد سي خليفة التي تسيطر على هذه المنطقة الخطرة، لم أبغي ترك الفوج قبل حضور المرشد والتأكد من عبورهم جبل ماونة، لكن أرزقي ألح علي في العودة ونصحني بالحيطة والحذر في الطريق من جهة عزابة وجبل فلفلة من خلفه، وخاصة الألغام التي يزرعها جيش المستعمر في كل مكان ولا يعلم مؤشراتها إلا عساكره بالمنطقة.

ودعت أرزقي وأصحابه وقد آنستهم واعتدت على صحبتهم منذ الوهلة الأولى التي تعرفت عليهم، فقد رأيت فيهم الشجاعة والرجولة وحب الوطن، تركت الفوج فرحا سعيدا فقد وصل إلى منتصف الطريق، وهو يكتشف كل مكان يراه لأول مرة، وقلبي منقبض متوتر، خفت عليهم من مباغتة العدو، مكثوا في المكان قليلا لأخذ وجبة قليلة وقسط من الراحة قبل أن يتحركوا بحثا عن المرشد، وإذ بي ألتقي مع طفل وقد أبصر الجنود وعرف هويتهم عندما التقى بي، لكنه أضاع طريقه ولا يعرف أين يذهب ولا من ّأين أتى، فسألته عن اسمه ووجهته، فكان جوابه:

- أنا رشيد بن السعيد، تركت أبي عند الجبل، ولكني نسيت طريقي إلى دوار الركنية.

- لا تخف، أنا صديق والدك، والطريق إلى الركنية ليس بعيد عنا، سأوصلك إلى نصف المسافة، ولقد كنا ننتظر أباك للقدوم إلينا لكنه تأخر نوع ما.

- عمي، هل أولئك هم المجاهدون المتوجهين إلى تونس؟

- كيف عساك أن تعرف ذلك؟

- أبي هو المرشد الذي سيقودهم إلى ناحية سوق أهراس، وهو ينتظرهم على ذلك الجبل المقابل لنا.

في تلك اللحظة، سمعنا دويًا كبيرًا وحركة عربات عسكرية للعدو، قلت للطفل هيا بنا هذا فوج من العساكر الفرنسية وهم متجون نحونا، لا بد أن نغيّر مكاننا بسرعة قبل أن يتفطنوا لنا ويقتلوننا أو يعذبونا، وها هم قادمون ومعهم الكلاب المدربة علينا الفرار سريعا.

اقتربت العساكر منا شيئا فشيئا، وعرفت القائد جون بيار العنيد الذي يقتل بلا رحمة ويعذب بلا شفقة، الجميع يخافه هنا بسبب حنكته العسكرية ودهائه في الوصول إلى المعلومة حول المجاهدين المبحوث عنهم في الدوار، فقررت الاختباء وسط غابة الضرو من جهة الواد الذي يقل ماؤه في هذا الوقت من أواخر شهر ماي، لا أعلم بالضبط التاريخ الذي نحن فيه ولكن موسم الحصاد قد اقترب لهذا نحدد الأيام بما نراه من محصولنا ومن تحول وحركة الأشجار المثمرة والحشائش وغيرها مما تنبت الأرض ومن جوها.

اختبأت مع الصبي قريبا من الوادي، ولما رأى العسكر قادما نظر إلي وقال في خوف وهلع:

- عمي أنظر، العسكر قادم إلينا مباشرة وسوف يلقي علينا القبض عاجلا أم أجلا ويعذبنا أشد التعذيب.

- لنختبئ جيدا كيلا ترانا كلابهم المدربة وتكشفنا.

- عمي، خذ سكينك واذبحني، إني أخاف إن عذبوني قد أوشي بالمجاهدين خلف الجبل، أنا لا أريد ذلك يا عمي.

- ماذا تقول يا طفل؟ لن يفعلوا بك شيء، فأنت صغير ولا يجرؤوا للاقتراب منك.

- افعلها يا عمي أرجوك، اسرع قبل أن يصلوا، هيا هيا لا تخف.

- اسكت ولا تقل مثل ذلك أبدا.

- لماذا، أليس لي الحق في الشهادة مثل الجميع، دعني أحمي هذا البلد من الاستعمار، أريد مثل الكل الحرية لهذه الأرض التي يعيش عليها نعاجي وبقرتي، وتنبت عليها الخضروات والزرع التي منها نحيا، وهذا الماء العذب الذي نشربه هو من هذه الأرض الطيبة.

أمسكت بالسكين ثم تركته وأنا أرتجف من هول من قاله الطفل وما أثر به في نفسي. وهنا يغير العسكر طريقه بعد أن اقترب منا، وها هو حركي من أصول جزائرية يوشوش في أذن القائد الفرنسي وكأنه يوجهه إلى المجاهدين القبائل، يا للمصيبة ويا لخوفي عليهم، ما كان عدونا أقوى منا في يوم من الأيام، بل نحن أشداء على بعضنا، وقد ملئت الغيرة والحقد قلوب الحاسدين فأصبحوا وشاة، مبغضين مبغوضين، يكرههم الإنس والحيوان، بل حتى تراب هذا البلد الطيب لا يريد منهم العيش فوقه ولا دفنهم يوم موتهم فيه.

تركت الطفل في المكان تحت غابة الضرو وقلت له إن لم أعد بعد ساعة أو سمعت رصاص الرشاش اتجه شرقا ولا تخف فقد ابتعد العسكر ولن يأتوا من أجلك، اذهب إلى ناحية الواد كي تصل إلى قريتك.

ولما رفعت رأسي، ماذا أرى إنه موقف مرعب وصورة واقعية مذهلة وغريبة عجيبة، رأيت وقد قصد العسكر الدوار بعد أن وصلتهم وشاية على سرعة البرق، أن مجاهدين غرباء وصلوا القرية ولا أحد يعرف هويتهم ولا مقصدهم واتجاههم.

هذا الفوج الذي كنت أقوده أراه الآن في مأزق كبير، ومن شدة الهول والفزع لم يدري أين يتجه، هذا الفوج القبائلي الذي لا يتقن سوى الأمازيغية لم يستطع التواصل مع سكان الدوار ليدلوه على مخرج أو يبحثوا له عن المرشد، رأى أهل القرية جنودا حمرا طوالا، بملابس جديدة ونقية لم يروا مثلها عدا عند العساكر الفرنسية، ويتكلمون بلغة لم يفقهوها، فخاف السكان واختبئوا منهم، ولأن في كل قرية رجل خسيس واش باع بلده بثمن بخس، لما رآهم ذهب مباشرة على بغله إلى الركنية وبلغ رئيس المركز الفرنسي عنهم.

سمع القائد أرزقي دبيب العساكر تجر خيولها ودبابتها مع صوت سيارة عسكرية معدة للقائد من نوع جيب، فأمر جنوده البحث عن مخرج بسرعة والهروب من العساكر، لأنهم لا يحملون سلاحا وليس لهم الكفاءة العسكرية لقتال عساكر العدو مهما قل عددهم، صعدوا إلى أعلى الدوار راكضين مسرعين، فما وجدوا طريقا يخرجهم فولوا على أعقابهم وهبطوا إلى أسفل القرية ثم تحولوا إلى غربها فما وجدوا إلا طريقا مسدودا أمامهم، فلم يجدوا ما يفعلوا وعرف القائد أن أمرهم انتهى وأنهم هالكون لا محالة، وهنا بادرت إلى ذهنه فكرة غاية التضحية والوفاء لهذا الوطن.

رجع الفوج إلى وسط الدوار وكان توسطه مدرسة ابتدائية من قسمين بها ساحة مكشوفة للدوار، هنا وقفت من أعلى الجبل والدوار أسفل مني والساحة في أسفله تقريبا، وقف القائد وطلب من الجنود الوقوف في صف كالتلاميذ، ثم ناد على جنديين وأخرج علم الجزائر وسلمه إليهما مشيرا لهما أن ارفعا العلم على عمود المدرسة.

اقتربت عساكر العدو أكثر فأكثر وظننت أنهم سيرمونهم بالقنابل ومدفع الدبابة لكنهم لم يفعلوا واستمروا في التقدم لعلمهم أن الجنود لا يحملون سلاحا، توقف قائد العساكر الفرنسية على بعد مائة متر تقريبا وأمر من خلفه التوقف وهو يشاهد ماذا سيفعل الجنود، ليرى بأم عينه الأمر الهائل والرائع، وكاد أن يرجع أدراجه لولا المهمة المنوطة له بقتل كل مجاهد أو مسبل في جبهة التحرير.

وقف القائد أرزقي أمام العمود والجنود خلفه، وبدأ علم الجزائر يرتفع وهنا رفع يده لتحية العلم وينشد "قسما" والجنود خلفه يرددون النشيد معه، فقرر القائد الفرنسي الاقتراب أكثر حتى وصل أمام المجاهدين وهم ينشدون "قسما" ويكررونه، فأمر العساكر الوقوف في صف والاستعداد بالسلاح الموجه إلى المجاهدين لإعدامهم مع سماع الأمر.

وبلكمة واحدة قالها القائد الفرنسي "نفذ" تم إطلاق النار عليهم، لم يرد أرزقي السقوط على الأرض وبقي واقفا رغم وابل الرصاص الذي اخترق صدره، وتبعه جنوده المغاور يسندون بعضم البعض، وهنا رفع القائد الفرنسي مسدسه وصوبه نحو أرزقي ورمى عليه عدة طلقات فسقط وسقط معه جنوده من رصاص العساكر، فسقط الفرج القبائلي شهداء في سبيل الوطن، في أبهى صورة للتضحية بالنفس والنفيس، والشعب في هذا الدوار محتار مما يجري وحزين لأنهم لم يفهموا هذا الفوج المجاهد والشهيد، ولا وقت للندم والحسرة.

سقط كافة المجاهدين الأشاوس في معركة لم تكن معركتهم وفي ساحة لم تكن ساحتهم، ترى منهم من يرفع أصبعه إلى السماء بالشهادة، ومنهم من ينظر في وجه أخيه مبتسما، ولما جمعت العساكر سلاحها إلى جنبها خرج من خلفهم طفل يجري وينادي بصوت عالي:

- لا تموتوا يا رجال فأنتم الذين ستحررون بلدي، لا تموتوا قبل أن تحرروا دوار بوهمدان والركنية من المعمرين.

استدار إليه العساكر وقائدهم  واقفا مبهوتا، رافعا مسدسه إلى السماء مرعوبا مرهوبا. فرفع الطفل يديه فوق رأسه وصار ينادي تحيا الجزائر، تحيا الجزائر، وبطلقة واحدة المتبقية في مسدس القائد سقط مع الشهداء وصوته يدوي السماء ويعبر صدور الجبابرة أقوى من سلاحهم وقنابلهم فغرس في نفوسهم الخوف والفزع، وهو ينادي لا أريد العيش مع الجبناء والخونة ولا مع الطغاة الظالمين، وتعالت زغاريد النساء من خلف الأكواخ فارتدوا على أعقابهم هاربين من نهوض الشعب أو خروج مجاهدي المنطقة من خلف الجبال.

عدت مسرعا لتبليغ القادة في القبائل ونواحيها على طريقة استشهاد أرزقي وفوجه الذين ألفتهم وأحببتهم كإخوتي، حزنت كثيرا على الطفل البطل الشهيد، ومن يومها قررت ألا أترك أي فوج عبور وأصبحت عنصرا منهم لجلب السلاح من خلف الحدود، ولكن الأمر لم ينتهي هنا ففي كل مرة يسقط لي أخ عزيز شهيد، رأيت الموت يتبعني مع الطريق الطويل والمحفوف بالمخاطر أو عند عبور الأسلاك الشائكة والمكهربة على الحدود مع تونس.

 

سليمان عميرات

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم