صحيفة المثقف

مقامة: عيد

ameen sabahkobaمشى محملاً بالهموم، على ضوء النجوم. قال وقد سبّح وحمد، وبكى وتهجد، وصلى على المختار أحمد (ص):

يا صاحب المجد بلا ولد، يافرداً ياصمد، ويامن له الثناء بلا عدد، قد ذقت ذرعا بهذا البلد. لافرح فيه ولا طرب، ولم أجد منذ أن دخلته غير البؤس والكرب .

 أجبته بعد أن ناح وعدّد، وتحزّن وتمدد:

برئت من الأسقام يا ضيف السعد، ويا قادم الرفد وأنشدت:

بالأمس كان العيد عيد الزهور

الزاد تحثوه الربى والخمور

و الرقص والأغنيات

و الحب والكركرات

ثم انتهى إلا بقايا طيور

تلتقط الحبّ وإلاّ دماء

مما نماه الحقل طير وشاء

قال خبّرني بما جرى. قلت أفاضلنا تحت الثرى، وعدونا قد بغى وطغى، وأكثر فينا الكذب واللغى.

و لا تسأل عن الشهداء، ولا عن فيض الدماء. ولا عن أصحاب القيل والقال، ودعاة الإقتتال. ولا عن الكذب والرياء، والميل الى الغرباء، واهمال الإنتماء،ولا عن النازحين والفقراء وعوائل الشهداء .

 والجوع لعنة آدم الأولى وإرث الهالكين

ساواه والحيوان ثم رماه أسفل سافلين

قال قد مشيت في هذه الديار، فلم أجد غير الدمار. ولم أجد غير بعض العابرين، يبكون على قبور الراحلين .

قال هذا وهو يبكي وأنا أراقب دموعه وهي تغمر تعاريج وجهه التي رسمتها السنوات. قال وهو يمسح دموعه: دعك من القتلى والدماء وخبرني بما جرى للبقية . أين مجالس السرور؟ وأين الأهل ؟

قلت:

 ساد البغض والعداء. فقُطعت الأرحام، وزال الحب والوئام، واصبحت معايداتنا ترديد كلام .

قال أطلب ما شئت.

ولمما قاربتُ على الكلام قاطعه جمع من الناس وقالوا:

 دعك من العاشق المفتون .الموهوم بالحب، المصاب بالسغب، الداعي إلى الإئتلاف، والمشغول بحب إيلاف.

فقاطعتهم وأجبته :إيلاف.

و بثثت شكواي إليهم .ثم أنشدت وقد صوبت بصري نحوهم:

وإن بي وجعاً شبهتُه بصدىً

إن رنَّ ران، وعشبٍ حينَ نمَّ نما

كأنني علَمٌ لا ريحَ تنشره

أو ريح أخبار نصرٍ لم تجد عَلما

يا من حسدتم صبياً بالهوى فرحاً

رفقاً به، فهو مقتولٌ وما علما .

٢

أخذ بيدي ومشى،وروى أحاديثه حتى أنتشى،قال من التي صورتها أحلى من الرشا؟ .قلت :بلسم جروحي، وسلطانةُ روحي. بها أتعزى، اذا ما أُصبت ببلوى، وهي السلوى،اذا ما الحزن طغى. قال وقد أنشد وتغنى:

طلبك مجاب أيها الفتى، ستحضر

اذا أنشدت بطربٍ وشجى.

عندها وقفت وارتجفت وانشدت :

أيّ شيء في العيد أهدي إليك

يا ملاكي، وكلّ شيء لديك؟

أسوارا؟ أم دملجا من نضار؟

لا أحبّ القيود في معصميك

أم خمورا ؟ وليس في الأرض خمر

كالّتي تسكبين من لحظيك

ليس عندي شيء أعزّ من الروح

وروحي مرهونة في يديك

قالت :بكلماتك أُسرت، وبها وتعلقت. هب لي هذه المقامات يا صاحب الجود والمكرمات.

ثم أضافت ومن أصلح سريرته،أصلح علانيته .وإنما الطيب من فاض جوده، فأشتد بالذكر الطيب عوده.

 قلت :ما أنا إلا حبيب مهجور، وشاعر مطمور، لا يرجو شهرة أو جمهور.قد عاد عليه الدهر. فأصاب من الحياة علقمها وبؤسها، ولم يذق يوما حلوها وسعادتها. اغطوطشت أيامي ببعدك، وأغطش ليلي بهجرك وصدك. ثم أضفت :

والطيب من ليده أسخى، ولجوده أخفى، وبخمار الأخلاق تغشى .والعاقل من أتعظ وأهتدى .والجاهل من كذب وهوى. ومن لم يتبع قلبه لن يدرك المسعى، وسيعيش عمره متحسرا على ما مضى.

 قالت:

أنا أهواك نشيدا

أزليا

يتغنى

فيه ذوبت شبابي الرائع الألحان لحنا

ولنفن بعده

فالحب عمر ليس يفنى

قلت:

أحبيني معذبتي

 وذوبي في الهوى مثلي كما شئتي

أحبيني بعيدا عن بلاد القهر والكبت

بعيدا عن مدينتنا التي شبعت من الموت

بعيدا عن تعصبها

بعيدا عن تخشبها

أحبيني .. بعيدا عن مدينتنا

التي من يوم أن كانت

إليها الحب لا يأتي

ولما أقتربتُ منها، صفّق العجوز وظهر رجل وإمرأة .وامسكت المرأة بيد إيلاف وسارت بها حتى أختفت. بينما كان الرجل يربت على كتفي مواسيا.

عندها بحثت عن العجوز فلم أجده. وسألت عنه وعن أسمه، فأخبرني الرجل أن العجوز قد تبرع بثيابه لرجل نازح وخجل من أن يراني وهو عاري.

وقد ترك ورقة كتب فيها:

(وإن ليس للإنسان إلا ما سعى،وإن سعيه سوف يرى،

ثم يجزاه الجزاء الأوفى)

 ولما تحايلت على الرجل بالكلام وأستحلفته قال وقد قلّب طرفه في السماء:

إنه العيد!.

 

امين صباح كبة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم